فأجاب ضاحكا: كلا، إنها حماقة لا يبررها إلا الجنون.
ولما انفرد بنفسه عقب ذهاب سمير قال: «آه لو أجد الشجاعة للاعتراف بخطيئتي!»
24
تخرج سمير مهندسا. أعلنت خطبته على رجاء. اختير لبعثة مدتها عامان في إنجلترا. دعا عزت ابنه وخطيبته للاحتفال بهما في شقته. أعجبته الفتاة. غزاه جو الخطبة حتى الأعماق، حن فجأة إلى حياة زوجية مستقرة. وجد في حنينه المباغت فكرة جديدة ماكرة، ولكنها قوية آسرة، لكن أي عروس تناسب رجلا في سنه؟ إن نفسه تعاف النساء اللاتي يزرن شقته من آن لآن. يريد أن يرفع النقاب الأبيض عن وجه بريء في ميعة الشباب. لعل ذلك آخر ما ينتظره من سلسلة المغامرات الجنونية. وهبط عليه الإلهام الذي يسبق الإقدام. إنه يتذكره وهو به خبير، غير أن ينابيعه جفت وهو يودع سمير. قبله وهو يقول: ليس من اليسير أن أصبر عامين.
وخلت دنياه من الكائنات والحياة، كما خلت يوم اختفاء بدرية، ومن عجب أنه توثب رغم ذلك لتحقيق حلم الزواج الطارئ. •••
يقول الراوي:
إن الحوادث لم تمهله، كعادتها معه دائما. تجيء إذا جاءت منقضة كأنما لتفرغ من مهمتها في أقصر وقت؛ فذات صباح جذب بصره هذا العنوان في الجريدة: «القبض على فرع لجماعة إخوان الغد». ولأسباب تاريخية ليس إلا ... سرت في بدنه رعدة شديدة، واجتاحه شعور بالتشاؤم عميق، وقرأ التفصيلات باهتمام مركز لا يتفق وما عرف عنه من لامبالاة إزاء ذلك النوع من الأخبار. إنه يتابع الأخبار هذه المرة وكأنما هو عضو في هذه الجماعة المخيفة، وكأن من قبض عليهم من الشبان أقرانه، وما ضبط من منشورات هو شريك في تحريرها وطبعها وتوزيعها. ونشر خبر القبض على الفرع باعتباره أول نصر يحققه جهاز الأمن في ذلك المجال، وأنه الخيط الذي سيؤدي حتما إلى أوكار الجماعة حيثما وجدت. ومضى يهش الذكريات المعتمة عن خياله المريض، ويلعن الضعف الذي اعتور أعصابه، ولكنه تابع الأخبار يوما بعد يوم حتى صدر البيان الرسمي عن الموضوع. لقد قبض على الكثيرين، والمطاردة جادة في إدراك الهاربين. وإذا بالبيان يشير إلى حقيقة جديدة ما إن اطلع عليها حتى تردى قلبه في هاوية ... بل ندت عنه صرخة مدوية في شقته الخالية. ثمة كلام عن سمير عزت عبد الباقي، عضو البعثة الهندسية بإنجلترا، الذي هرب من إنجلترا في اللحظة المناسبة إلى مكان مجهول. راح يتمشى مهرولا بجسمه البدين ويتساءل في ذهول: سمير عضو في جمعية أبناء الغد؟! سمير هرب إلى مكان مجهول؟! هل يختفي سمير إلى الأبد؟! هل يلتهمه الضياع والتشرد في الغربة؟ ها أنت ذا تنتقم مني يا حمدون عجرمة. إني خبير بهذه الألاعيب القاتلة التي تصادفنا ونحن نجد في سبيل السعادة! عزت وسيدة وعين ينصهرون في بوتقة تعاسة واحدة. يا لها من ألاعيب قاسية مجنونة يحركها شيطان ساخر ... وشرق بالدمع فجفف عينيه بالمنديل الحريري المطرز ركنه بالحرفين الأولين من اسمه. وقال له فرج يا مسهل معزيا: حظه على أي حال أسعد من الذين قبض عليهم. - لا أدري ... إني واثق من شيء واحد فقط، وهو أنني لن أراه مرة أخرى في هذه الحياة.
فقال الرجل بتسليم: لا يعلم الغيب إلا الله ... هلا زرت الست الكبيرة؟
خطر له هذا وهو غارق في حزنه ... أن يزور عين وسيدة ... ولكنه سرعان ما نبذ الفكرة في غضب ونفور. ليس الوقت بالمناسب للتمثيل والحركات البهلوانية. إنه يعلم الآن بما قدر عليه؛ أن يقلع عن أحلام السعادة السخيفة، أن يتسول رؤية لن تتحقق، أن ينفذ حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة وهو قائم بين السكارى وطلاب اللذة. •••
وزحف عليه تعب من نوع جديد شمل الرأس والأعضاء، وعانى من صداع لم يعرفه من قبل. ربما كانت الفائدة الوحيدة لذاك الألم الوحشي أنه أجبره - ولو إلى حين - على تناسي أزمته الأبوية، وألا يفكر في شيء سواه. ولأول مرة يقصد عيادة طبيب، واكتشف أنه يعاني من ارتفاع كبير جدا في ضغط الدم. وعملا بمشورة الطبيب وافق على دخول مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية ليظفر برعاية متصلة حتى يزول الخطر. وهدف العلاج إلى تخفيض الضغط وإنقاص وزنه عشرين كيلو على الأقل. وأشرف فرج يا مسهل على الملهى، وكان يزوره باستمرار، وكان يقول له: دعني أخبر الست عين.
Bog aan la aqoon