إن الفلسفة الوضعية، التي ظلت في صعود منذ أيام بيكون، قد اكتسبت الآن مكانة بلغت من العلو حدا جعل الميتافيزيقيين أنفسهم يدعون أنهم يبنون علمهم المزعوم على ملاحظة للوقائع؛ فهم يتحدثون عن وقائع ظاهرة وباطنة، ويزعمون أن الأخيرة هي موضوع بحثهم. وما أشبه هذا بالقول إن الإبصار يفسر بطبع الأشياء المضيئة لصورها على حدقة العين! وهو زعم يرد عليه علماء وظائف الأعضاء بقولهم إنه لا بد عندئذ من عين أخرى ترى الصورة. وعلى هذا النحو ذاته قد يلاحظ الذهن جميع الظواهر ما عدا ظواهره الخاصة. وقد يقال إن في استطاعة عقل الإنسان ملاحظة انفعالاته؛ لأن مركز العقل بعيد، إلى حد ما، عن مركز الانفعالات في المخ، ولكن لا يمكن وجود ما يماثل الملاحظة العلمية للانفعالات إلا من الخارج؛ إذ إن ثورة الانفعالات تبعث الاضطراب في ملكات الملاحظة إلى حد ما. أما القيام بملاحظة عقلية للعمليات العقلية، فأمر أكثر من ذلك استحالة. فهنا يكون العضو الملاحظ والملاحظ واحدا، ولا يمكن أن يكون عمله طبيعيا خالصا. فلا بد لعقلنا، لكي يلاحظ، أن يكف عن نشاطه، غير أن هذا النشاط بعينه هو ما نود ملاحظته؛ فلو لم توقف هذا النشاط، لما استطعت أن تلاحظ، ولو أوقفته لما وجدت شيئا تلاحظه. وإن نتائج هذا المنهج لتتناسب مع مقدار امتناعه؛ فبعد ألفي عام من البحث النفساني لم توضع قضية واحدة يرضى عنها أتباع هذا العلم، بل إنهم لينقسمون حتى يومنا هذا إلى مدارس متعددة، ما زالت تختلف على المبادئ الأولى لمبحثها. ويبدو أن هذه الملاحظة الباطنة تؤدي إلى نظريات تبلغ في كثرتها مبلغ عدد الملاحظين. ومن العبث أن نتساءل عن كشف واحد، عظيم أو ضئيل، تم من خلال هذا المنهج.
ولقد أدى الباحثون النفسانيون بعض الخير إذ أبقوا على فاعلية أذهاننا، في وقت لم يكن أمام ملكاتنا أن تفعل فيه ما هو أفضل من ذلك، وربما كانوا قد أضافوا شيئا إلى ذخيرتنا من المعرفة. وإذا كانوا قد فعلوا ذلك فإنما كان هذا بفضل ممارسة المنهج الوضعي؛ أعني بملاحظة تقدم الذهن البشري في ضوء العلم؛ أي بأن يكفوا مؤقتا عن أن يكونوا باحثين نفسانيين.
وإن الرأي الذي قلنا به الآن فيما يتعلق بالعلم المنطقي ليتجلى بوضوح أعظم إذا ما تأملنا الفن المنطقي.
فالمنهج الوضعي لا يمكن الحكم عليه إلا مطبقا. ولا يمكن تأمله في ذاته، بمعزل عن العمل الذي يطبق عليه. وعلى أية حال فمثل هذا التأمل لن يكون إلا دراسة مجدبة، لا تنتج شيئا في العقل الذي يبدد وقته فيها. وقد نتحدث ما شاء لنا الحديث عن المنهج، ونصفه بعبارات غاية في الدقة، ومع ذلك لا نكون قد عرفنا عنه نصف ما يعرفه ذلك الذي طبقه مرة واحدة على حالة واحدة من حالات البحث الفعلي، حتى لو لم تكن له أية غاية فلسفية. وهكذا فإن قراءة الباحثين النفسانيين لقواعد بيكون ومقالات ديكارت قد أدت بهم إلى الخلط بين أحلامهم وبين العلم الصحيح.
ورغم أنني لا أجزم بإمكان وضع منهج صحيح للبحث أوليا، على نحو مستقل عن الدراسة الفلسفية للعلوم، فمن الواضح أن أحدا لم يقم بهذه المحاولة بعد، وإننا لا نستطيع القيام بها الآن؛ فنحن لا نستطيع حتى الآن أن نفسر العمليات المنطقية الكبرى، بمعزل عن تطبيقاتها. ولو حدث أن أصبح هذا ممكنا، فسيظل من الضروري عندئذ، مثلما هو ضروري الآن، أن نكون عادات عقلية مفيدة بدراسة التطبيق المنظم للمناهج العلمية التي سنكون قد توصلنا إليها.
تلك إذن هي النتيجة الهامة الأولى للفلسفة الوضعية؛ الكشف، بالتجربة، عن القوانين التي يخضع لها العقل في البحث عن الحقيقة، وبالتالي معرفة القواعد العامة المناسبة لهذا الغرض.
إحياء التعليم: ثانيا: وللفلسفة الوضعية تأثير ثان لا يقل أهمية عن الأول، وإن تكن الحاجة إليه أشد إلحاحا؛ وأعني به إحياء التعليم.
فأفضل العقول تتفق على أن تعليمنا الأوروبي، الذي لا يزال لاهوتيا وميتافيزيقيا وأدبيا في أساسه، ينبغي أن يستبدل به تعليم وضعي، ملائم لعصرنا وحاجاتنا. بل إن حكومات هذه الأيام قد بدأت هي ذاتها في بذل محاولات لإيجاد تعليم وضعي، أو ساهمت بنصيب في مثل هذه المحاولات، وهذا دليل واضح على الشعور العام بما نحن في حاجة إليه. ومع ذلك، فمع تشجيعنا هذه الجهود إلى أقصى حد، ينبغي ألا نخفي عن أنفسنا أن كل ما بذل حتى الآن لا يفي بالغرض؛ فالتخصص الحالي الشديد في أبحاثنا، وما ينجم عنه من انفصال بين العلوم، يفسد تعليمنا. ومن الممكن أن يستمر في بحث الأوجه الخاصة للعلوم أولئك الذين تخصصوا في مثل هذه الأوجه، وهم أناس لا غنى لنا عنهم، وليس لنا أن نهملهم، ولكن ليس في وسع هؤلاء أنفسهم أن يجددوا نظامنا التعليمي، ولا بد لكي ينتفع منهم على الوجه الأكمل من أن يرتكزوا على أساس ذلك التعليم العام الذي هو نتيجة مباشرة للفلسفة الوضعية. •••
إعادة تنظيم المجتمع: رابعا: تكون الفلسفة الوضعية الأساس المتين الوحيد لإعادة التنظيم الاجتماعي التي ينبغي أن تعقب المرحلة الحرجة التي تمر بها الآن معظم الأمم المتمدينة.
ولا حاجة بنا إلى أن نثبت لكل من يقرأ هذا الكتاب أن الأفكار تحكم العالم، أو تلقي به في براثن الفوضى، أو بعبارة أخرى أن كل العمليات الاجتماعية ترتكز على آراء؛ فالتحليل الدقيق يثبت أن الأزمة السياسية والأخلاقية الكبرى التي تمر بها المجتمعات الآن ناشئة عن الفوضى العقلية. وعلى حين أن الاستقرار في المبادئ الأساسية هو الشرط الأول للنظام الاجتماعي الأصيل، فإنا نعاني خلافا أساسيا نستطيع أن نعده شاملا. وإلى أن يتسنى الاعتراف بعدد معين من الأفكار العامة على أنها نقطة التلاقي في المذهب الاجتماعي، ستظل الأمم في حاله ثورية، مهما وضعت لها من المسكنات، ولن تزيد نظمها على أن تكون مؤقتة. أما حين يتسنى الاتفاق الضروري على المبادئ الأولى، فسوف تظهر منها نظم مناسبة، دون اصطدام أو مقاومة؛ إذ سيكون الاتفاق وحده عاملا على القضاء على أسباب الاضطراب. وفي هذا الاتجاه ينبغي أن تتجه أنظار أولئك الذين يتطلعون إلى حالة طبيعية منظمة سوية للمجتمع.
Bog aan la aqoon