هذا الموقف الصارم الحازم يبدو بعيدا كل البعد عن فلسفة كانت المتأنية في نقدها، وعن المذهب الترنسندنتالي الرقيق اللهجة عند فشته وهيجل، وهو بالفعل بعيد عن هذه المذاهب في نواح عدة . غير أن كانت يرفض إمكان الميتافيزيقا النظرية بنفس القوة التي يرفضه بها كونت، ونتيجة معارضتهما للميتافيزيقا العقلية واللاهوت العقلي تتقارب في النهاية إلى حد بعيد. ولقد كانت فلسفة كونت مشابهة لفلسفة هيجل في تغلغل فكرة التطور فيها بعمق، وقانونه المشهور «للمراحل الثلاث» للتطور العقلي البشري يحمل طابعا هيجليا لا ينكر، كما أن كونت يستخدمه، على طريقة هيجل، وسيلة للقضاء بطريقة خفية بارعة على كل وجهات النظر السابقة عليه. ولكن هل القانون ذاته فرض تجريبي؟ لا ونعم؛ فهو ظاهريا لا يزيد على كونه وصفا تاريخيا لتطور الذهن البشري، ولكنه من وجهة نظر أعمق قانون للتقدم العقلي والحرية العقلية يفرض على نحو جامع الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه البشرية إذا ما استنارت تدريجيا. فكونت مثل هيجل، يقف من جميع الاتجاهات الفلسفية والدينية السابقة على اتجاهه الخاص موقف الوصي إلى حد ما. وهو مثل هيجل ينظر إليها على أنها «لحظات» لا مفر منها في التطور التاريخي للفكر البشري نحو بلوغ غايته النهائية في الفلسفة الوضعية. وفضلا عن ذلك فإن كونت يذكر بكل وضوح أن فلسفته لا تعلو على الاتجاهات الفكرية الأسبق والأدنى منها فحسب، بل تضم بين ثناياها كل ما له دلالة حقيقية فيها.
ويعترض كونت بشدة على التفكير الأسطوري، بقدر ما ينافس تقدم العلم أو يعترض سبيله، ويراه مميزا للدين التقليدي. ولكن عندما تتاح للمرء فرصة التسلح بالفلسفة الوضعية ضد الأوهام التي يولدها هذا النوع من التفكير، فمن الممكن عندئذ العودة إلى الأساطير الدينية لما قد تحتوي عليه من شعر أو إرشاد خلقي. بل إن الوضعي قد «يقبل»، بمعنى معين، معتقدات الكنيسة، وإن يكن هذا القبول لا يرتبط على الإطلاق، في نظره، بالاعتقاد العقلي، وعلى هذا النحو تتجمع ثانية في فلسفة كونت بعض المواقف المعقدة ذات الاتجاه المزدوج نحو المسيحية، التي نجدها لدى هيجل. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن من الممكن الاهتداء إلى هذه الاتجاهات المزدوجة في معظم المذاهب اللاهوتية «المتحررة» في وقتنا هذا.
ويرى كونت أن المرحلة الأولى، أو اللاهوتية للتطور، تتميز بعقلية تنظر إلى الأشياء الأخرى من خلال تشبيهات بالعقل البشري ذاته إلى حد بعيد. وتعزو بالتالي إلى الظواهر الطبيعية تلك المشاعر والرغبات التي تتميز بها استجابتنا نحن لها. ففي هذه المرحلة يتجه كل تفكير إلى بعث ما يشبه الحياة في الظواهر الطبيعية وتشبيهها بالإنسان، وينظر المرء إلى كل شيء من خلال مقولات الغرض والإرادة والروح، ويتصور أن وجود أي شيء يفسر تماما من خلال الغرض أو الروح الكامنة التي تعزى إليه. وهكذا فإن الصفة المميزة للوعي اللاهوتي هي عدم إدراكه لوجود تمييز قاطع بين السؤالين البادئين ب «كيف؟» و«لماذا؟» وبالتالي عدم تميزه بوضوح بين ما نسميه ب «التفسير» وبين «التبرير». وهكذا يتصور العالم، من وجهة النظر هذه، تصورا أسطوريا على أنه نظام روحي ينظر فيه إلى الأغراض الحيوية للأشياء على أنها في الوقت ذاته عوامل فعالة «تسبب» سلوك هذه الأشياء على النحو الذي تسلكه. وبعبارة أخرى في هذه المرحلة اتجاه إلى تشخيص كل الظواهر، والنظر إلى كل عملية كما لو كانت فعلا بشريا، فما يحدث ليس شيئا يحدث فحسب، بل هو شيء يفعل أو ينفعل به أو يتحقق.
والمرحلة اللاهوتية، كما يصفها كونت، أقسام فرعية هامة؛ فالمرحلة الأولى فيها هي المرحلة «الصنمية
fetishistic » التي ينظر فيها إلى الأشياء الطبيعية كما لو كانت حية لها مشاعر وأغراض خاصة بها. وفي المرحلة الثانية؛ أي مرحلة تعدد الآلهة، يحدث تبسيط تدريجي لهذا المذهب الحيوي الذي يقول أساسا بالكثرة. فهنا تتصور «الآلهة» على أنها قوى غير منظورة أو تكاد تكون غير منظورة، تتحكم في جميع أنواع الظواهر. وأخيرا تأتي مرحلة ثالثة أو توحيدية، يحدث فيها مزيد من الجمع بين القوى في صورة إله موحد، ينظر إليه على أنه خالق الكون بأسره، ومتحكم فيه، إما بطريق مباشر وإما بوسائط أدنى مرتبة منه وتأتمر بأمره.
والمرحلة الكبرى الثانية للتقدم العقلي هي تلك التي يطلق عليها كونت اسم المرحلة «الميتافيزيقية». وهنا يبدأ الاتجاه إلى إضفاء صفة الحياة على الأشياء في الاختفاء لأول مرة؛ فالميتافيزيقي لا ينظر إلى الطبيعة على أنها خلق إلهي لعناية إلهية، بل على أنها مبدأ أول أو علة أولى ينبغي افتراضها لتفسير النظام في الكون. ولا شك في أن بعض آثار الاتجاه إلى إضفاء صفة الحياة على الأشياء تظل باقية، غير أن فكرة الغرض أو الإرادة «ترق أو تلطف أو تغدو أثيرية»
etherialized ، على حد التعبير المألوف لدى أرنولد توينبي، حتى تعود أكثر من تجريد عقلي. فهنا لا يعود الأمر متعلقا بروح تبعث الحياة في كائن بعينه، وإنما، «بقوة» لا شخصية لا يمكن تحديد موقع فاعليتها في أي مكان من العالم الطبيعي. والاتجاه المميز للذهن الميتافيزيقي ليس إضفاء صفة الحياة على الطبيعة بقدر ما هو «تجسيم» الأفكار، وليس نسبة مشاعر إلى الرياح أو أغراض إلى البحر، بقدر ما هو إضفاء «حقيقة»
reality
ثابتة على التصور، معادلة لحقيقة عالم الصخور والكراسي والحشرات. وهكذا تبدأ «الماهيات» و«الميول» و«الإمكانيات» و«الطبائع» في تعمير الكون بوصفها كيانات لها قوامها الخاص، وتعزى إليها فاعلية علية لم تكن تنسب من قبل إلا إلى الأرواح. ويتصور الميتافيزيقيون وجود «لوجوس» أو «عقل» يتحكم في نظام العالم الطبيعي، بدلا من الآلهة غير المنظورة التي قال بها اللاهوتيون. وأقوى مميزات الميتافيزيقي هي أنه يجعل «العقل» مساويا «للعلة»، ويتصور بذلك أن في إمكانه عن طريق الاستدلال وحده أن يفسر علل الأشياء. فهو يقدم «براهين» استمدت بالاستنباط من حقائق معقولة واضحة بذاتها، على وجود موجود ضروري يسميه ب «الله»، ويعزو «الضرورة» التي يزعم أنها مميزة لاستدلاله، إلى الأشياء التي يتصور أنه قد استدل عليها.
وتأتي بداية النهاية بالنسبة إلى الميتافيزيقا عندما تنشب الخلافات الكبرى بين من يسمون ب «الواقعيين» و«الاسميين» حول مركز التصورات الكلية. هذه الخلافات ما زالت «ميتافيزيقية»؛ إذ يظل كلا الطرفين يعتقد أن التحليل المنطقي وحده كفيل بالبت في المسائل المتعلقة بالوجود. غير أن النظر إلى «حقيقة» الكليات، مستقلة عن الجزئيات التي تتصف بها، على أنها مشكلة، هو في ذاته دليل على الوهن التدريجي لقيود الميتافيزيقا ذاتها.
Bog aan la aqoon