والتقت أبصارنا لومضة كنت خمنت فيها الإجابة، وبينما أشعة ضاحكة سعيدة تخرج من عينيه خرجت كلمة لتؤكد: كنت أنا.
وآخر ما كنت أتوقعه حدث؛ إذ مرة أخرى وجدته يترك يدي وجانبي ويميل ناحية عبد الله ويقول: هيه، وإيه كمان يا عبد الله سمعته عن عباس الزنفلي؟
ونظر عبد الله إلى رئيسه نظرة تساؤل انقلب إلى قلق وعدم ارتياح وسكت كأنما خوفا.
وقال شوقي بلهفة، وكأنما يستحثه: إيه سمعته كمان؟ قول.
وكأنما أيقن عبد الله أخيرا أنها فرصة، فاندفع يتحدث ويدلل على صدق أحاديثه بأنه أحيانا رأى بنفسه، وأحيانا أخرى جاءته الأنباء من صاحب أو زميل، كيف رآه رئيس وزراء ذلك الحين في المحافظة مرة وأعجبه فضمه لحرسه، وكيف أدرك من رؤيته له واحتكاكه به أنه ضالته المنشودة، وأن له في القسوة وتحجر القلب باعا، فأعطاه هدية للبوليس السياسي، وكان عباس نعم الهدية، فمن بين جميع الذين كان يعهد إليهم بضرب السياسيين كان هو أكثرهم توحشا وتفانيا لا في تنفيذ الأوامر فقط، وإنما في اختراع وسائل أقسى وأنجع للتنفيذ، وكانوا يقولون إنه حين يضرب يفقد وعيه وصوابه، ويصبح كالسكران أو المجنون، إلى درجة لم يكونوا يجرءون على تركه وحده مع الضحايا، فيلازمه في عملية الضرب رقيبان عملهما التدخل في الوقت المناسب لانتزاع المتهم حتى لا يفتك به عباس، وكانوا لا يستطيعون استخلاصه إلا بصعوبة وإلا رغما عن أنف عباس، وأحيانا بالتكاثر عليه وشل حركته وتكتيفه؛ ولهذا كان الرقيبان يختاران دائما من عساكر أقوياء أشداء، ورغم هذا ففي مرات كان يحدث أن يثور عباس عليهما ويأبى تسليم الضحية، وينهال عليهما ضربا إن حاولا منعه، وكان يأتي في الصباح مع الباشا في عربته، وبعد انتهاء مهامه في سجن الاستئناف والمحافظة، وأحيانا نادرة في نفس غرفة رئيس البوليس السياسي، كان يعود ليركب بجوار سائق عربة رئيس الوزراء في أثناء موكب العودة، وقد تمنطق بالمسدس الضخم ذي الكردون الأحمر، ويقولون إنه كان في بيت رئيس الوزراء كأحد أهله، يأكل هناك، ويأخذ البقشيش من الهانم الكبيرة، ويجود عليه الباشا بالمنح السخية وعلب السجاير الفاخرة، والعهدة على الرواة، ولكنهم كانوا يقولون إن الباشا بالذات كان معجبا أشد الإعجاب بقوامه الفارع المستقيم، وكان يعتبره نموذجا للرجل الكامل، وكثيرا ما كان يأمر بإحضاره أمام ضيوفه في الصالون، والأجانب منهم بصفة خاصة، ليفرجهم عليه، ويجعله يقف يستعرض قوامه وبناءه وعضلاته أمامهم، فخورا به باعتباره اكتشافه الخاص، وكم من تأوهات كانت تصدر عن السيدات الزائرات لمرآه!
وإلى هنا لا أدري لماذا سكت عبد الله عن حديثه، ربما لإدراكه أنه تكلم أكثر مما يجب، أو فيما لا يجب، ربما لفراغ ما في جعبته، ربما للنظرة المختلسة التي ألقاها على الدكتور شوقي ورأى منها أن شغفه بالاستماع كان قد هبط إلى درجة الانصراف عنه، وعنا كلية، وعاد مرة أخرى يبتسم بنصف وجهه الأسفل ابتسامة من يحاول الإنصات إلى هاتف بعيد.
8
كان الباب الذي أوقفنا عنده عبد الله التومرجي لا يمكن أبدا أن يمت لبيت، فهو لا يشبه بيوت المدينة الفقيرة، وكذلك لم يكن كوخا أو دارا من دور القرى المبنية بالطين، لكأنه الحلقة المفقودة بين الكوخ والبيت ومنازل القرية والمدينة، ولم نكن قد وصلنا إليه إلا بقطع عدد لا يحصى من الأزقة والحواري، بعضها تهبط إليه بسلالم، وبعضها تصله بعد أن تجتاز أكواما عالية من تراب، هي في الحقيقة أطلال بيوت تهدمت وسقطت ولم تجد أحدا يزيل أنقاضها وبقاياها، فتحولت إلى تلال تسد حارة أو تصنع هضبة بين شارعين.
دق عبد الله الباب، وطال دقه دون أن نظفر بجواب، حتى خيل إلينا أن لا أحد هناك، وبدأنا نشك أن يكون هو البيت المقصود، ولكن عبد الله راح يؤكد لنا أنه لا يمكن أن يكون قد أخطأ، وزيادة في التأكيد مضى يدق بجماع يده، وخيل إلينا أخيرا أننا نسمع أصواتا مختلطة في الداخل، وارتفع دق عبد الله حتى وجدنا الباب تحت تأثير الدق ينهار وينفتح من تلقاء نفسه، ومن الباب المفتوح رأينا صالة واسعة كفناء دوار عمدة أقيم في قلب القاهرة، صالة خالية من كل شيء إلا من كنبة بلدي «شلتة» أو مساند تحتل أحد الأركان، وفي وسط الصالة تقريبا «طشت» غسيل مقلوب تقف عليه دجاجة تنقب بمنقارها في التراب والطين القليل اللاصق بقاعه علها تظفر بغذاء، فلا يفعل تنقيبها إلا أن يجعل منقارها يرتطم بالطشت الرنان في دقات منتظمة مملة، تصاعد رفيعة ملحة رنانة، لا تفعل أكثر من أن تزيد الكآبة في الصالة الواسعة الخالية.
لم يبق الحال هكذا ولا بقينا واقفين مترددين بين العودة والبقاء طويلا؛ فقد فتح باب جانبي وخرجت منه امرأة نحيفة قصيرة بيضاء ذات عيون سود غائرة كعيون نساء شمال الدلتا ومنطقة البحيرات، وإن كان الوشم المثلث تحت شفتها السفلى على ذقنها علامة صعيدية أكيدة، عيون فيها بريق يفهمه الذكر وحده، ولكنها هزيلة شاحبة ، بالتأكيد لا تزيد نسبة الهيموجلوبين في دمها على الربع، وفي وجهها «قوبة» في حجم الريال، وكانت حافية، قدماها صغيرتان كأقدام الأطفال أو الصينيات، ترتدي في عز الصيف جلبابا كزي الفلاحات من الكستور، جلبابا مهرأ يظهر قميص نوم أصفر نظيفا، خرجت من الحجرة مندفعة، وكأنما هاربة من شر، وحين لمحت الباب الخارجي مفتوحا ورأتنا، ثلاثة رجال طوال يسدون فتحته شهقت، وفي الحال اختفت داخل حجرة أخرى، وتركتنا واقفين نعجب ونقلب الأنظار في الصالة، بينما الدجاجة التي كان قد أفزعها خروج المرأة ما لبثت أن عادت بعد اختفائها تعتلي الطشت، وعاد منقارها يصدر ذلك الدق المنتظم الرنان الكئيب.
Bog aan la aqoon