ولكن الإنسان الذي ينسكب عليه فضل السماء مكتوب عليه أن يصبح مثار أحقاد البشر ممن لم ينعم الله عليهم بسابق نعمه.
ولو تمثل هذا الحقد في النيران التي تلتهم قلوب الحاقدين لهان الأمر، واستمتعت به متعتي بجمال صوتي وبروعته، ولكن الحقد عند الحاقدين علي يتمثل في سلاح قتال يكاد يقضي على مستقبلي جميعا؛ فالحاقدون يقفون حائلا بيني وبين الناس، فلا يسمعني أحد لأنهم لا يسمحون لأحد أن يسمعني. ربما سألت نفسك الآن: ما دمت لم تسمع أحدا صوتك فمن أين جاءتك هذه الثقة أن صوتك جميل؟ ولكن يا صديقي الثقة تنبت في النفس كالشجرة المباركة، لا تعرف من أين نبتت ولا كيف تشاهقت غصونها وطاب ثمرها واشتدت ساقها، وضربت جذورها في أعماق الأعماق.
وهكذا هي ثقتي بنفسي. هي ثقة مؤيدة بروح القدس، وما لها من نهاية وليس في يقينها ذرة من شك.
ولقد تواضعت وذهبت إلى بعض هؤلاء الذين يطلقون عليهم كبار الملحنين، وما كنت في حاجة إليهم لأنني ألحن أنا لنفسي أغنياتي، وأنا أيضا الذي أكتب كلماتي، ولكن لا بد لي أن أتواضع حتى أقيم صلة بيني وبين هؤلاء الذين أخذوا مكان الصدارة في الأغنية العربية في حين غفلة من الزمان. ذهبت إلى الملحن الكبير سعيد زياد: أريدك أن تضع لي لحنا يا أستاذ. - هكذا مرة واحدة. - ومستعد أن أعطيك أجرك مضاعفا.
فقد فاتني أن أقول لك إنني موفور المال، والغناء بالنسبة لي ليس مصدر رزق وإنما هو إعلان لفضل الله علي. وأنا أيضا لا تهمني الشهرة. كل ما في الأمر أنني واثق من جمال صوتي وأريد أن أمتع الناس ولا أرجو منهم جزاء ولا شكورا.
ولكن الغريب أن الملحن المرتزق قال في كبرياء وتعال: أنا يا ابني لا ألحن لأي أحد. - كيف؟ - لا بد أولا أن أسمعك. - تسمعني إن شاء الله. - وأريد أن أعرف ما هي ثقافتك الموسيقية. - ثقافتي، لماذا؟ - ألم تسمعني؟! - المدهش أنني سمعتك. - وما وجه الإدهاش فيما سمعت؟ - الكلمة غريبة على أذني. - كيف؟ - الذي أعرفه أن الصوت موهبة. - هذا حق، ولكن الموهبة لا بد أن تثقف. - وكيف تثقف الموهبة؟ - بالدراسة. - هل يدرس الغناء؟ - كما ندرس الموسيقى. - ولكنني أنا أغني وألحن وأؤلف الأغاني بغير دراسة. - هكذا بعلم لدني؟! - بعلم لدني أو لدنك لا أدري، وإنما أنا أغني وكفى. - غن.
وما كدت أكمل الكوبليه الأول حتى وجدت الملحن يثور بي ثورة شيطانية. - قم. امش. ملعون أبوك وأبو من قال لك إنك تغني.
وتمالكت نفسي. - لا أسمع صوتك، قم امش.
وحاولت أن أقول شيئا فعاجلني: ولا كلمة، اخرج.
وحين خرجت رجعت إلى نفسي، ما الذي جعل هذا الرجل يثور هذه الثورة المحمومة، أنا أعلم أن صوتي جميل، ولكن لم أكن أعلم أنه جميل إلى هذا الحد. لقد أفقد الرجل عقله واتزانه. وما ثورته هذه إلا رعبه وهلعه أن يصل صوتي إلى الآذان بلحن من ألحاني فيصبح هو ضائعا لا قيمة له؛ فإني واثق أن الجمهور إذا سمع صوتي فسينصرف عن كل الأصوات الأخرى وسيرفض ألحان جميع الملحنين، فلم يكن عجيبا إذن أن يثور الملحن هذه الثورة، بل كان العجيب ألا يثور.
Bog aan la aqoon