قال في جدية شديدة: إن صلتك بالفتاة حسنية أصبحت على كل لسان، وأحب أن أخبر الوالد لأخلص ذمتي أمام الله.
أدركت ما يقصد إليه؛ فأنا لم أعرف في حياتي فتاة بهذا الاسم. وقد كانت حياتي جميعا بعيدة كل البعد عن المغامرات النسائية. وكان أبي أعلم الناس بذلك.
قلت لعبد الشكور: والله تشكر يا عبد الشكور. أنت فعلا أخ؛ فإن حب هذه الفتاه يسد علي أقطار الحياة، وأنا أخشى أن أخيب بسبب حبها. وربما لو أخبرت أنت أبي الذي لا أجرؤ أنا على إخباره يزوجني من الفتاة أو يردعني بسلطان الأبوة، وتكون قدمت لي خدمة العمر.
فإذا عبد الشكور ينتفض غاضبا باكيا لأول مرة في حياته صائحا: أنت مش معقول، أنت مش معقول.
وانصرف عني وهو يرقأ مدامعه بمنديله.
ومضت الأيام وغاب عبد الشكور عن الذاكرة، وذكرته هذه الأيام.
لم يصبح عبد الشكور زعيما، ولكنه أيضا يأبى أن يتخلى عن فكرة الزعامة، فإذا هو يصطنعها في مكان لا يصلح مطلقا للزعامة، ومن يحاول الزعامة فيه يصبح إنسانا أخرق الرأي ضائع التفكير سقيما غاية السقم في حكمه على الأمور.
صورة من الماضي أبى الحاضر إلا أن يردها إلى الحياة. ويا ليتها ظلت حيث كانت في طوايا الذكريات الخفية، ولكن متى كانت «ليت» ذات نفع؟! إنها كلمة الحسرة، لا تنفع الحسرة. والأمر لله من قبل ومن بعد.
الريح والبلاط
كانت حقيبته خاوية أو تكاد وهو قادم إلى القاهرة، ولكن وعاء تاريخه كان حافلا بكل الهوان؛ فقد كان أبوه الوحيد في القرية الذي لا يستطيع أن يقول إنه فلاح. ثم هو لا يستطيع أيضا أن يفصح عن وظيفته الحقيقية. والقلم أيضا لا يستطيع أن يكتب هذه المهنة؛ فإن سنه لم يتعود أن يخط حروف هذه الصنعة متلاصقة. وللقلم مثل الإنسان حد يقف عنده لا يعدوه، وهو قادر أن يقف بصاحبه حيث يشاء؛ فإن للقلم جفوة لا يملك الممسك به إلا أن يخشاها؛ فإن العلاقة بين القلم وصاحبه لا بد أن يسودها الوئام والتوافق؛ وإلا فويل لكل منهما من صاحبه؛ فحياة كل منهما تعتمد على الآخر كل الاعتماد، فلا حياة لممسك القلم بغير القلم. ولا حياة للقلم بغير صاحبه.
Bog aan la aqoon