وهل حياة الإنسان إلا ذكريات تنداح في خفايا النفس متحفزة متوفزة تترقب من الحياة منفذا تثب منه إلى الوجود، فإذا هي تنقلب من مجرد ذكرى إلى واقع يحياه الإنسان وكأنه ما بارحه في أمس البعيد.
وهذه الصورة قفزت إلى واقعي بعد أن استخفت في أطواء نفسي قرابة أربعين عاما، وكنا تلاميذ في المدارس الثانوية، وفوجئنا بزميل لا يمشي كما نمشي ولا يتكلم كما نتكلم؛ ففي مشيته بطء وخيلاء، فاشل واضح التصنع، وفي صوته رنين يريد أن يكون رنين التعالي، فلا يتم له ما يريد. وتحلقنا حوله - ماذا بك يا أخي؟! كنا عرفنا اسمه، كما عرف كل منا اسم الآخر.
فقد كان أول أستاذ في العام الدراسي الجديد يدخل إلى الفصل، وينادي الأسماء اسما اسما، ويطلب من التلاميذ أن يقف كل منهم حين يسمع اسمه، فما هي إلا دقائق حتى عرفنا من لم نكن نعرف من الأسماء، ممن لم تجمعنا وإياهم سنوات سابقة. وكان اسم هذا الزميل هو عبد الشكور عبد النبي. وقد وقف حين وقف في عظمة ولكنها مفتعلة. وجلس حين جلس في نفس العظمة المفتعلة. وأدركنا نحن من هيئته أننا وقعنا في عامنا هذا على مادة للسخرية لا مثيل لها في حياتنا جميعا.
كان عبد الشكور يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ليس ذا ثراء. وكان قصير القامة؛ فتراه يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وكان يلبس الحلة ذات صفين من الأزرار، ويميل الطربوش إمالة واضحة إلى اليسار مثل محمد محمود باشا، ويضع يده اليسرى في جيب الجاكتة مثل صدقي باشا الذي كان يفعل هذا ليخفي الشلل الذي أصاب يده، ولكن عبد الشكور ظن أن صدقي باشا يفعل ذلك على سبيل العظمة. وكان يضع وردة حمراء في صدره مثل النحاس باشا.
وهكذا أصبح أخلاطا من الزعماء كلهم عدو للآخر، جمعهم هو في ملبسه ومظهره وحركته ومشيته. بدأنا نناوشه: ماذا تريد أن تكون؟ - أنا زعيم عصركم. - ماذا قلت؟ - لا بد لكل عصر من زعيم، وقد هيأت نفسي أن أكون زعيم عصركم لأخرج الإنجليز من مصر.
وقع المسكين في شر أعماله ولم يجد من يسمي عليه. أصبح مسختنا وسخريتنا وملهاة المدرسة وتسلية التلاميذ، ولكن العجيب أنه كان لا يتحرج ولا يهتم، فإذا اجتمع الطلبة وهتفوا ساخرين بحياة الزعيم العظيم حياهم بيده في عظمة يقصر عنها الزعماء شهرة وزعامة.
وكان أستاذ التاريخ في فصلنا من أعظم المدرسين الذين عرفناهم في سنوات حياتنا جميعا. ولولا خشيتي أن أكشف بذكر اسمه شخصية بطل هذه الصورة لذكرته أطال الله حياته ومتعه بالصحة والعافية.
وقد رأى أستاذ التاريخ أن يعد كل تلميذ درسا من دروس المنهج ويلقيه على إخوانه، ويناقشه الإخوان في الدرس. وهكذا تثبت المعلومات في أذهاننا نابضة بالحياة، ويكتب لها البقاء إلى الأبد.
وحدث أن اختار الأستاذ لدرس من دروس المنهج أخانا عبد الشكور عبد النبي. ووقف بيننا عبد الشكور عبد النبي وانفجر يخطب وكأنه مصطفى كامل باشا في عنفوان أيامه. وأعلننا أنه منذ اليوم سيتولى زعامتنا لنخرج الإنجليز من مصر، وأنه هو وحده القادر على أن يخرجهم. وانفجرنا في ضحك ساخر مجلجل صاخب لم يستطع على رغم اندفاعه أن يصيب منه أي وتر من خجل، ولكن الذي خجل من أجله أستاذ التاريخ، الذي لم يجد بدا من أن يقول له في أدب جم: طيب. ادخل أنت إلى درجك دلوقت يا عبد الشكور. ودخل عبد الشكور مرتفع الهامة ثابت الخطوة متعاظم المشية، يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وراح الأستاذ يكمل الدرس.
ولكن أستاذنا كان شاعرا رقيق الحس مرهف المشاعر. وخيل إليه أن عبد الشكور قد أصيب في كرامته فأراد أن يرد إليه ما تصور أنه سلب من كرامة، فاستدعاه.
Bog aan la aqoon