كانت جهان حين عزمت على الفرار من فرغانة مع أخيها وقهرمانتها قد أعدت كل ما تحتاج إليه مما خف وزنه وغلا ثمنه، وعولت على أخيها في تدبير قافلة يسيرون في ظلها تجنبا لخطر البوادي التي لا بد من قطعها قبل الوصول إلى العراق، فجاءها سامان وذكر أنه هيأ كل شيء. فأخذوا في نقل الأحمال محتجين بالسفر إلى مصيف قريب. ولما دنا وقت الرحيل وعلمت أنها لن تعود إلى بلدها بعد ذاك عظم عليها فراق مسقط رأسها وهجر قصر أبيها وقد ألفت هواءه وماءه وظلاله وعاشت بين أهله ومنازله وأسواقه، فقضت أيامها الأخيرة منقبضة الصدر. وقد ذهبت بشاشتها وأخوها يسهل عليها الخروج وقهرمانتها ترى في خروجها شططا. وأما هي فلم تتردد في الأمر لحظة واحدة رغم ما أحست به من الوحشة.
وفي الليلة التي قضوها على أهبة الرحيل استدعت قيم الدار إليها وأوصته بالقصر وأهله خيرا، وأسرت إليه أن قد يطول غيابها، فليكن أمينا قسيطا، فأسف لسفرها وإن لم يعرف حقيقة غرضها، ولو علم لبكى بكاء مرا على فراقها؛ لأنه كان يجلها حتى العبادة. وكذلك كان إحساس كل من عرفها أو عاشرها؛ لما فطرت عليه من اللطف والذكاء والهيبة والجمال.
وفي الصباح التالي خرجت على جوادها الأدهم كأنها ذاهبة إلى متنزه أو مصيف. وركب معها أخوها وقهرمانتها ولم تتمالك عند خروجها من باب المدينة أن التفتت ودمعت عيناها حزنا على ما خلفته هناك من ثمار شبابها وجني أبيها، لكنها تماسكت واسترجعت رشدها وعزت نفسها بما ستلقاه من أسباب السعادة بقرب حبيبها.
وكانت القافلة التي سافروا فيها قادمة من بلاد الهند بأحمال العطريات والبهارات والأنسجة قاصدة إلى خراسان، فضموا أحمالهم إلى أحمالها، وقد اعتمدت جهان في ذلك على أخيها ولبست ثياب السفر، وأقلعت القافلة في مساء ذلك اليوم وهي مؤلفة من قطارين مسلسلين من الجمال والبغال على بعضها الأحمال وعلى البعض الآخر الرجال، غير المشاة من المكارين والسياس على أقدامهم ومعهم الكلاب وأدوات الطبخ والنوم، فإن القافلة كالبلد يمشي بأهله ودوابه وأثاثه. تمشي ساعات من النهار وساعات من الليل تختلف مقاديرها باختلاف فصول السنة، حسب أوجه القمر، يحدق بها حراس من الرجال تعودوا الأسفار والأخطار، أشداء الأبدان يعرفون الطرق، ولهم صداقة ورهبة عند قبائل التركمان بدو الترك المتفرقين في البادية بين نهر جيحون ونهر الشاش. والمسافة بين النهرين تقطع في أسابيع وقد تستغرق الشهرين. ناهيك بما فيها من اللصوص وقطاع الطرق؛ ولذلك لا يجسر على السفر هناك غير القوافل الكبيرة. وتحتدي القافلة أثناء السير نظام الجند للحرب، وفي ساعات الراحة تضرب الخيام وتوقد النيران وتذبح الأغنام أو الأبقار وتنصب القدور على النار ويشتغل القوم بالأكل والنوم.
ولم تكن جهان جربت هذا السفر ولا ذاقت مثله ولا سمعت به في حياتها، فكانت تحمل ثقله متجملة بالصبر، وتعزي نفسها بلقاء الحبيب. كل ذلك من معجزات الحب وإن أمره لعجيب.
ولو أردنا تفصيل ما لقوه في سفرهم الطويل من حر النهار وبرد الليل وخوف قطاع السابلة وأهل الغزو وما أصابهم من عطش أو جوع لفراغ مئونتهم من الماء أو الطعام قبل بلوغ المكان الذي يتزودون منه؛ لضاق بنا المقام. فنقول موجزين إنه لما بلغت القافلة «الري» أشار سامان على أخته بالتخلي عنها ليسيرا وحدهما؛ لأن القافلة تمشي متثاقلة وليس طريقها طريقهم إلى العراق إذ تتوجه شمالا. فأذعنت جهان لرأي أخيها وانفردوا بأحمالهم ودوابهم عن القافلة. وفي مساء ذلك اليوم بغتهم جماعة من الرجال على الخيول في مكان بعيد عن همذان، وكانت جهان على فرسها فدافعت عن نفسها دفاع الرجال. وأظهر سامان دفاعا حاميا. ولكنهم غلبوا على أمرهم فقبضوا على جهان وقهرمانتها وشدوا وثاقهما وفر سامان بحجة إيصال الخبر إلى ضرغام.
فلما رأت جهان نفسها في الأسر صاحت بكبير القوم وهم جميعا ملثمون وقالت له: «ما الذي حملكم على هذا العمل؟ إذا كنتم تطلبون المال فهذه أحمالنا خذوها وأطلقوا سراحنا ولن نطالبكم بشيء منها.»
فأجابها الفارس وهي أول مرة سمعت كلامه وقال: «لسنا لصوصا يا سيدتي. ولا حاجة بنا إلى المال وإنما أمرنا أن نحمل عروس فرغانة إلى أعظم رجل في الأرض لم ترض به طوعا فعساها أن ترضى به كرها.»
فلما سمعت كلامه أدركت أن فخا نصب لها، وكانت تؤثر أن يكون القوم لصوصا يبغون المال على أن تكون هي بغيتهم. ليس لأنها تخاف أن تغلب على أمرها فإنها كانت من رباطة الجأش وثبات الجنان على ما علمت. ولكن شق عليها فراق حبيبها. فأرادت أن تزداد بينا فقالت: «ولكن ما تأتونه يا صاح لا يشبه أعمال العظماء.»
قال: «وماذا يعمل الرجل إذا اضطر ولم ير مركبا يركبه إلا هذه الوسيلة؟ ماذا يفعل إذا تقدم خاطبا فرد خائبا، وهو كبير القدر تأبى نفسه الفشل؟»
Bog aan la aqoon