وهنا وثب زائرها إلى حافة النافذة وطار محلقا في الظلام. رفرف بجناحيه وانحدر نحو الماء، ثم انضم إلى السرب واختفى في ظلام الليل.
استيقظت في الصباح التالي على صورة السيدة داماكان وهي تقف في مدخل غرفتها حاملة كومة من المناشف وقدرا نحاسية مليئة بالماء الساخن. ورغم أن إلينورا كانت متحفظة عندما اغتسلت للمرة الأولى، فقد أصبحت تتطلع إلى زيارات السيدة داماكان والماء الساخن المزعج والرائحة العذبة لصابون الياسمين والمنشفة الدافئة المنعشة في نهاية الأمر. وكان الجزء المفضل لديها من هذا الطقس الروتيني يأتي بعد الاغتسال؛ فعندما تجفف إلينورا نفسها وترتدي ملابسها كانت السيدة داماكان تجلسها على أحد المقاعد المخملية الحمراء المجاورة للباب، وتمشط لها شعرها وهي تترنم بأغان من الفولكلور التتاري تستدعي ذكريات إلينورا الأولى كما لو كانت حلما يعاد نسجه. لم تدرك إلينورا حتى ارتدت ملابسها واستعدت لتناول الإفطار أن تلك قد تكون المرة الأخيرة التي تحممها فيها السيدة داماكان.
عندما وصلت إلينورا ووالدها والبك إلى بيشكطاش بير، كان سرب الهداهد بأكمله ينتظر في صمت في أفرع شجرة تتدلى على المبنى. وبعد أن ركب ضيوف نائب القنصل وشقت المركب طريقها بعيدا عن الرصيف، انفصلت مجموعة صغيرة من السرب وتبعتها من أعلى، ولكنها رغم ذلك احتفظت بمسافة حذرة. ألقى منصف بك نظرة على الطيور، ثم على الشاطئ نحو منزله، هناك حيث قضت الطيور معظم الأسابيع السابقة. هب نسيم قارس على البوسفور، واكتست السماء بنفس لون البلاط الأزرق الزاهي في مسجد السلطان أحمد. أمسكت إلينورا بالسياج في يد ولوحت بمنديل والدها الذي كانت تمسكه في اليد الأخرى لعمال السفن والبحارة المتجمهرين حول المبنى. كانت ترتدي فستانا من اللون الأخضر الفاتح، ذا أكمام قصيرة منتفخة وشريط من نسيج التفتة الحريري المتدلي للأمام، وهو نسخة معدلة من أحد التصميمات المعروضة في واجهة محل مدام بواريه. كم تبدو بعيدة الرحلة الأولى إلى بيرا، ولكن في حقيقة الأمر لم يمض على وجودهما في إسطنبول سوى أقل من ثلاثة أسابيع. كانت قد رأت الكثير من المدينة، والآن مهما تقل ومهما تعترض فسوف يرحلان قريبا. كان التفكير في رحيلهما الوشيك أصعب مما تستطيع احتماله، فطردته بعيدا عن ذهنها.
أشار البك إلى نادل عابر، ورفع كأسي شراب عن صينيته ثم أعطى يعقوب إحداهما.
قال وهو يرفع كأسه: «في صحتك .»
فرفع يعقوب كأسه أيضا وتبادلا قرع الكئوس. «في صحتك.»
طبقا لرواية منصف بك، كان من بين الحاضرين في ذلك المساء الليدي كاترين دو برج، والملحق العسكري البروسي، ورسام فييني ذو صيت واسع ينتمي للمدرسة التجريبية، والسفير الفرنسي، ومدام كورفيل، وبالطبع نائب القنصل الأمريكي. لم يكن القنصل نفسه حاضرا، فقد استدعي في ذلك الصباح في مهمة عاجلة تتعلق بترحيل الأجانب من بروسيا. اتكأت إلينورا بكتفها على السياج وتابعت سير الحفل؛ الندل ذوو المعاطف الحمراء يقدمون الكافيار والمقبلات عبر حشد من الملابس الرسمية للرجال والفساتين الواسعة المنفوشة، والشراب في أيدي الجميع، وفي كل كأس من الشراب قطعة من الثلج تعكس ضوء الشمس. كان البك يتحدث مع سيدة أمريكية عجوز عندما التقط يعقوب فطيرة من صينية أحد الندل العابرين، وذلك بعد أن فرغ من تناول شرابه. وبينما كان يلوك قطعة من المقبلات في فمه، لاحظت إلينورا الكاهن جيمس مولر وهو يشق طريقه نحوهما عبر الحشود. «عزيزي السيد كوهين، يا لها من مفاجأة لطيفة!»
تصافحا بقوة، ثم أمسك يعقوب الكاهن من وجنتيه وقبله في جبينه.
وعندما فرغا من العناق قال يعقوب: «منصف بك، أود أن أعرفك على صديقي الطيب ورفيق غرفتي السابق الكاهن جيمس مولر. إنه عميد كلية روبرت، وهو أمريكي من ولاية كونيتيكت.»
قال البك وهما يتصافحان: «تشرفت بلقائك.» «وهذا أيها الكاهن مولر أكرم مضيف وصديق وشريك عمل، منصف باركوس بك. لن تجد تركيا أفضل منه في إسطنبول.»
Bog aan la aqoon