في تلك الليلة تناهى إلى مسامع إلينورا شجار دار بين والدها وخالتها، ولم تستطع أن تسمع بالتحديد ما كانا يقولانه، لكن بين صوت طرق القبضات وصفق الأبواب، فهمت أن والدها كان مع استمرار تعليمها، في حين أن خالتها كانت تعارض ذلك. وفي صباح اليوم التالي عند الإفطار، صرح والدها أنه سيتولى تعليمها الأكاديمي في حين أن روكساندرا ستظل مسئولة عن تعليمها المنزلي. أومأت روكساندرا برأسها باقتضاب وهي تغطي قطعة من الخبز بالزبد. ومنذ ذلك الصباح، صار يوم إلينورا مقسوما بين هذين العالمين؛ ظلت أوقات الصباح وبعد الظهيرة مشغولة بالإبرة والخيط ومنفضة الريش وفرشاة تنظيف الأرضيات، أما أوقات المساء فقد خصصت للدروس الأكاديمية فحسب.
على مدار الأسابيع القلائل الأولى، انصب تعليم إلينورا الأكاديمي في المقام الأول على حفظ الدروس من كتاب القراءة، ووصف العواصم الشهيرة، ومحاضرات حول عادات الحيوانات المختلفة، وقصص قصيرة عن أطفال تستهويهم إثارة المتاعب والأفعال المشاغبة. لكن سرعان ما بات جليا أنها على استعداد لتلقي مواد قراءة أكثر تقدما. وحينها انتقلا إلى المكتبة التي تقع في ركن غرفة المعيشة؛ وهي ذات تصميم فخم من خشب الدردار يزينه على كلا الجانبين زوج من القطط الصينية الخزفية، وأرففها مليئة عن آخرها بفيض غزير من الكتب المجلدة بالأغلفة الحمراء والزرقاء والخضراء والسوداء، منها الطويل والقصير، والسميك والرفيع، وكعوبها مزخرفة بكل أشكال الكتابة. وطوال الأشهر الستة التالية قرأت إلينورا الكثير من الكتب الموجودة بالرف السفلي، فكانت تجلس على حجر والدها وهو يدخن غليونه ويتخلل شعرها بأصابعه بين الحين والآخر. قرأت إلينورا «خرافات إيسوب»، و«رحلات جليفر»، و«الفرسان الثلاثة»، و«روبنسون كروزو»، و«ألف ليلة وليلة». وبالإضافة إلى القراءة، علمها والدها الكتابة والحساب وأصول اللغة التركية، وقد أتقنتها جميعا بسهولة مذهلة.
ومراعاة لما أطلق عليه والدها مخاوف روكساندرا، أخبرت إلينورا مرارا وتكرارا أنه يحظر عليها تحت أي ظرف التحدث عن دروسها خارج المنزل. ولم تع إلينورا الغرض من هذه القاعدة، لكنها التزمت بها على أي حال؛ حيث إنها تعلمت منذ زمن طويل أنه من الأفضل الامتثال لمخاوف روكساندرا، سواء أكانت منطقية أم لا. وعلى أي حال، لم تكن هذه قاعدة يصعب الالتزام بها كثيرا؛ فبخلاف العطلات والنزهات التي يذهبون إليها بين حين وآخر، لم تكن إلينورا تغادر المنزل سوى مرة واحدة أسبوعيا عندما تذهب روكساندرا للتسوق في سوق يوم الإثنين.
وفي أحد أيام الإثنين، في مطلع الربيع في عام إلينورا السابع، كانت روكساندرا وإلينورا تنهيان تسوقهما في متجر العاديات الخاص بالسيد سيداميت عندما بدأت السماء تمطر. كانت عاصفة مفاجئة وشديدة، دفعت جميع من بالسوق إلى اللجوء إلى مأوى من المطر. وجد باعة الفاكهة مأوى لهم في رواق صغير بعيدا عن ساحة المدينة، أما الهداهد التي كانت تتبع إلينورا عبر التل فقد جثمت تحت سقيفة فندق كونستانتسا. واحتشد عدد من الناس في متجر السيد سيداميت متظاهرين بالتفكير في شراء برطمان الشمندر هذا أو علبة البطارخ هذه. وفاح المتجر برائحة السراويل المبللة، وامتلأ البرميل المتاخم للباب بالمظلات.
قالت روكساندرا وهي تجذب إلينورا نحو الخزينة: «مساء الخير.» ومدت إلينورا عنقها فلفتت نظر موظف شاب يدعى لورنتيو.
قال الموظف: «مساء الخير أيتها السيدة كوهين.» ثم انحنى فوق الخزينة وأعطى إلينورا قطعة حلوى قائلا: «مساء كثير الخيرات أيتها الآنسة كوهين.»
يعمل لورنتيو - ذلك الصبي ذو الشعر الأشعث والابتسامة الودودة - في متجر السيد سيداميت منذ وقت طويل على قدر ما تستطيع أن تذكر إلينورا. وكان يتميز بروح طيبة، رغم أنه كان بطيئا في عمله، وأكثر من مرة وضع بضاعة أخرى خلاف ما تريدان في حقائبهما، وكانتا تضطران أن تهبطا التل مرة أخرى لاستبدالها.
قالت روكساندرا: «نريد كيلوجراما من الفاصوليا، وقطعتين من هذا الصابون الأخضر الموجود هناك بالأعلى، وكيلوجراما من العدس الأصفر، و...» ثم توقفت لتنظر في قائمتها، ثم استرسلت قائلة: «بكرتي خيط، وعلبة حلوى، ومائة جرام من الكمون.» «هل هذا كل شيء أيتها السيدة كوهين؟» «أجل.»
بعد أن كرر لورنتيو القائمة على مسامعه، راح في أرجاء المتجر يجمع كل شيء طلبته روكساندرا، مكوما الأغراض في ذراعه اليسرى، بينما كان يضع البضائع الكبيرة في أكياس بيده اليمنى. وبعدها بلحظات عاد محملا بالأغراض، ملفوفة بإتقان في ورق بني ومربوطة بحبل. «روبلين بالتمام.»
أخرجت روكساندرا حافظة نقودها، وكانت تعد النقود في يدها عندما رفعت إلينورا يدها كي تشد كم ثيابها. «ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا يا خالتي روكساندرا.»
Bog aan la aqoon