وإنه لا ضير علينا من استخدام نتائجهم التي وصلوا إليها استخداما حذرا لا يدمجنا وإياهم في زمرة واحدة، فمع أي الصورتين يكون الزحام؟ إنه بلا جدال يكون مع الصوت الثاني.
والحكم الذي يترتب على ذلك هو أن الأمة العربية في مواجهتها لحضارة الغرب الحديث وثقافته إذا هي قنعت بالأخذ الذي لا تصاحبه مشاركة في إضافة جديدة وإبداع جديد، فلا يحق لها أن تطمع في نصر تظفر به أمام عدوها؛ فعبور الجسور إلى العصر الجديد لا يوزن بأكثر من ميزان خفيف، إذا هو اقتصر على أن يكون عبورا بالأقدام حين تكون الرءوس متلفتة إلى وراء.
من مواطن الضعف
1
عرضنا في حديثنا السابق صورة للمواجهة بين الثقافتين، كيف تكون وماذا يترتب عليها من نتائج، وذلك إذا افترضنا جدلا أن الثقافة العربية تقوم وحدها خالصة بأصولها الموروثة، دون أن تتسلل إليها عناصر من ثقافة هذا العصر، وأن ثقافة الغرب تقوم - افتراضا كذلك - خالصة بأصولها التي استحدثها هذا العصر، دون أن يخالطها شيء من موروثات الماضي. نعم إنه موقف افتراضي؛ لأنه لا الثقافة العربية بقيت على نقائها، ولا ثقافة الغرب جديدة بكل أجزائها؛ فالأولى عبرت جسورا كثيرة لتأخذ عن الغرب علومه وتقنياته وكثيرا من أفكاره الجديدة ونظمه الجديدة، ولا الثانية خلت من عناصر كثيرة استبقتها في وعائها من موروثها وموروث التاريخ الإنساني كله، أضافتها إلى الحياة العصرية الجديدة التي طابعها البارز «علم» طبيعي جاء على صورة جديدة لم يألفها تاريخ العلم من قبل. ولا أقصر هذا القول على الماضي البعيد وحده، بل أعني كذلك القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الحديث، وعمر التاريخ الحديث لا يزيد على أربعة قرون، فترة جرت في رؤيتها العلمية على أساس الرؤية التي أقامها «نيوتن» على أساس اليقين الرياضي القاطع في قوانين الطبيعة، ونموذج ذلك قانون الجاذبية الذي صاغه هو في دالته الرياضية المعروفة، التي تقول إن قوة الجاذبية بين جسمين تتناسب طردا مع كتلتيهما وعكسا مع مربع المسافة بينهما، وجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من المسافة الزمنية بين «نيوتن» في مجاله العلمي و«عمانوئيل كانط» في مجاله الفلسفي (توفي نيوتن 1727م، وولد كانط 1724م) إذ ولد الفيلسوف قبل وفاة العالم بثلاثة أعوام، فإن فلسفة كانط هي التي جاءت لتساند علم نيوتن؛ فكلاهما يقيم قوانين العلم على «يقين» أولهما يصوغ قوانينه العلمية والثاني يحلل حركة العقل البشري بما فطر عليه من مبادئ ومقولات ليبين كيف أعد هذا العقل لإدراك اليقين العملي.
أقول إن علم عصرنا في القرن العشرين قد جاء على صورة جديدة بالنسبة إلى ما عهده العلم نفسه في ماضيه القريب فضلا عن ماضيه البعيد؛ لأنه وجد في حيوية المادة (إذا جاز لي هذا القول) ما يستعصي على اليقين الرياضي؛ فحقائق الرياضة تصور «ثباتا» لا يتغير مع تغير المكان والزمان، أما وقد تبين أن «المادة» تتغير مع تغير الزمان والمكان؛ إذن فلم يعد في وسع العلم وهو يستخرج قوانين الظواهر الطبيعية إلا أن يلجأ إلى أساس إحصائي فتقام قوانينه على «احتمال» بعد أن كانت منذ عهد قريب تقام على يقين.
وهكذا ترى أنه لا الثقافة العربية الراهنة هي «عربية» خالصة وثقافة الغرب الجديدة كلها «جديدة» جدة علمها في صورته الحاضرة؛ إذ تخالطها رواسب من ماضيها وذلك في الجوانب الإنسانية من حياة الإنسان كاللغة والعقيدة وجزء كبير من النظم الاجتماعية، ومن معايير التعامل الصحيح بين إنسان وإنسان. لكننا حين أردنا أن نضع موضع الاختلاف بين الثقافتين، افترضنا جدلا نوعا من مواجهة تنشأ بين وقفة تأخذ برؤية تقام على حصيلة تتجمع عند المثقف من موروثه، ووقفة أخرى تقام على علم الغرب في صورته الجديدة، فوجدنا أنه لا مناص من هزيمة الأولى وانتصار الثانية؛ لأن هذه الثانية تبصر صاحبها بحقائق الواقع كما يقع، وتزوده بضروب من القوة الجبارة التي يستطيع بها أن يغير هذا الواقع نفسه ليصوره صورة أخرى، فإذا كان واقع البصر عند الإنسان لا يجاوز بعدا معينا، جاء العلم فزوده بأجهزة تضاعف تلك المسافة ملايين المرات، وإذا كانت قدرة السمع البشري لا تجاوز مسافة مقدارها كذا، فقد جاء العلم الجديد ليزودها بأجهزة تضاعف تلك القدرة ملايين الأضعاف وهكذا. وقارن هذه القدرة على إدراك الواقع وتغييره بحالة أخرى نفترض أن ثقافة المثقف فيها محصلة من صور ورقية لفظية، صورت واقعا آخر غير الذي نحياه وليس فيها ما يزيد البصر بصرا ولا السمع سمعا. وحتى لو أرهف البصيرة فإنما يرهفها لإدراك حقائق من النوع نفسه الذي قدمته تلك الصور الورقية اللفظية التي يقدمها الموروث إلى من يريد أن يكتفي به غذاء ثقافيا.
والآن فلننظر من قرب إلى تفصيلات حياتنا الثقافية بالمعنى الذي تشتمل فيه تلك الحياة على العلم والأدب والفن والقيم العامة التي يستمدها المثقف من هذا كله مضافا إليه نبع العقيدة الدينية وشريعتها؛ ليستلهمها جميعا وجهة سيره. ولقد أضفنا «العلم» هنا وكان يمكن حذفه من مقومات الثقافة لأنه نوع قائم بذاته يتميز بالعمومية التي لا تفرق بين وطن ووطن، ولا بين دين ودين؛ أي إنه يختلف عن «الخصوصية» التي تعرف بها الثقافة حين يكون لكل شعب ثقافته الخاصة به. لكننا رأينا أن نتجاوز عن هذه التفرقة، لنتحدث عن كيان العربي عقلا وقلبا معا، وكذلك في تحديدنا للحياة الثقافية العربية التي نعتزم تحليلها والتحدث عنها. لم نغفل عن ذلك المعنى الواسع الذي ينظر إلى «الثقافة» على أنها طريقة العيش عند مجموعة معينة من الناس وبكل جوانبها من مأكل وملبس ومسكن، وعلاقات يتعامل بها الفرد مع سائر الأفراد، فذلك المعنى الواسع للثقافة هو وصف لحقيقة اجتماعية كائنة لا فرق بين أن تصفها أو أن تصف المجموعة الشمسية - مثلا - أو خلية النحل، فهو عمل أدخل في باب الوصف «العلمي» لظاهرة معينة. أما المعنى الأضيق للثقافة والذي يقصر المجال على الجانب التقويمي في صوره المختلفة، سواء أجاءت عن طريق الإبداع الفني والأدبي، أم جاءت عن طريق الفكر النظري علما كان أم فلسفة وحكمة، أم مسائل عقدية ينظر إليها من وجهات نظر مختلفة، أقول إن التحدث عن «الثقافة» بهذا المعنى المحدد الخاص، يحمل في ثناياه الأمل في أن نغير من حياتنا ما نجده معوقا لسيرنا الحضاري، والفرق بين الحالتين هو كالفرق بين تصوير الواقع من جهة، وتصوير ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع من جهة ثانية، أو هو كمن يحدد أوقات نهاره وليله بمعالم فلكية كشروق الشمس وغروبها وظهور النجم الفلاني وغيابه، مقارنا بمن يحدد أوقاته بآلة قياس الزمن؛ ففي الحالة الأولى لا حيلة للإنسان إلا أن ينصاع للحقائق الفلكية. وأما في الحالة الثانية فهو إذا أخذته الريبة في قدرة آلة الزمن التي يحملها معا، ذهب بها إلى مصلح «الساعات» ليراجع سلامة تلك الآلة في أدائها لوظيفتها. وهكذا نريد أن نفعل الآن بحياة العربي الثقافية اليوم؛ فنحن على شك في سلامتها وقدرتها على تحقيق أهدافنا وسنعرضها على من يحاول فك أجزائها ليعاود النظر إليها جزءا جزءا ليقوم ما هو فاسد منها، وهي عملية - كما نرى - أعقد وأوسع من أن يؤتمن عليها عقل بشري واحد إلا أن مجال القول فيها مفتوح لكل مجتهد.
وأول ما يطرحه هذا الكاتب على سبيل الفرض، ليفتح لنفسه طريق السير على أساسه، هو أن مجمل الحياة الثقافية بالمعنى الذي حددناه، إنما هو «أداة» عيش، وهو كأية أداة أخرى إذا لم تؤد ما كان يراد لها أن تؤديه وجب إصلاحها أو تغييرها بأداة أصلح منها، وحتى «الثوابت» من العناصر الثقافية التي تدوم أكثر مما تدوم المتغيرات من تلك العناصر عصرا بعد عصر، وأعني «الثوابت» التي منها تتألف «الهوية» الوطنية أو القومية. أقول إنه حتى تلك «الثوابت» من عناصر الحياة الثقافية لشعب معين، لا ينبغي أن يكون لها من القداسة ما يمنعنا عن تعديلها إذا وجد أنها قد فقدت شيئا من قدرتها على أن تهيئ لصاحبها فرصة الحفاظ على حياته قوية مزدهرة.
ومن هذا التصور لوظيفة الحياة الثقافية نسأل سؤالين يتلاحقان واحدا في ذيل الآخر؛ وهما: أولا: أترانا في يومنا هذا بالنسبة إلى شعوب وأمم أخرى نسير في المقدمة الرائدة، أم نسير في المؤخرة التابعة؟ وثانيا: إذا كنا في مؤخرة الموكب نسير على طريق دقته أمامنا طليعة رائدة، فماذا عسى أن نصنع في أنفسنا لنتقدم؟
Bog aan la aqoon