وعلى ذلك فانظر إلى التشبيه الأول عند صاحبنا رجل الأربعين حين جعل الكتاب القديم ننشره لنحيي جانبا من تراث السلف، هو أشبه بالتحفة نحنو عليها ونرعاها منه إلى الكتاب ندرسه ونتفع بما فيه، فهل يصدق هذا القول على كتب تحتوي على شيء من علوم اللغة العربية؟ هل يصدق على فقه الفقهاء الكبار؟ هل يصدق على كتب التاريخ وكتب الرحلات؟ ثم هل يصدق على ديوان الشعر العربي؟ هل يصدق على كتب المتصوفة الكبار، التي عبروا فيها عن حالاتهم الروحية والنفسية في مجاهداتهم الصوفية؟ هل يصدق على النثر الفني الغني عند أدباء النثر؟ هل يصدق على بعض الجوانب العلمية الخالصة في هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك؟ إذن فليس كل ما نحييه من تراث السلف هو أقرب إلى آثار المتاحف كما زعم. وشيء كهذا يقال عن التشبيه بكراسة الإنشاء في سنوات الدراسة الأولى، يعثر عليها صاحبها إبان رجولته أو شيخوخته؛ فليست كتب اللغة التي خلفها الخليل وسيبويه من قبيل الكراسات القديمة نحنو عليها كما يحنو الوالد على صغاره، وليس شعر أبي العلاء المعري، أو من شئت من فحول الشعر العربي من قبيل الكراسات القديمة، لا ولا فقه مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة شبيها بالكراسة القديمة. وهكذا قل في ذخائر الماضي، التي كتبت لتبقى موضوعا ومنهجا.
إنه شيء من الجمال الأدبي في صياغة تشبيه فاسد، أدى بصاحبه إلى خطأ في حكمه على قضية كبرى في حياتنا الثقافية. وإن الروابط الوثيقة والحميمة التي تربط كاتب هذه السطور وهو في ثمانينياته، بذلك الكاتب الأربعيني لتجعله على يقين من صدق النوايا عند سلفه الأصغر، لكن حسن النوايا لا يحول الخطأ صوابا. وسر الوقوع في مثل هذا الخطأ عند صاحبنا وأمثاله - وهم كثيرون - هو الحكم على قضية كبرى، كقضية التراث العربي وإحيائه، وكأنهم يحكمون على سطر واحد من صفحة واحدة في كتاب واحد، وربما كانت وسيلتنا إلى النجاة من الوقوع في مثل هذا الخطأ هي أن ننظر إلى المجموعة الكبرى من زاوية مفرداتها، وعندئذ لا يكون سؤالنا إلى ماضينا العربي هو: هل نحيي ذلك الماضي أو نتركه في مخابئه؟ بل ننصرف بسؤالنا نحو المجموعة كتابا كتابا؛ ومن ثم فلا يترك الحكم لفرد واحد معين مهما بلغت درايته؛ فمن المغالطات العجيبة أن يسود فينا ظن أن للتراث العربي علماءه الخاصين والمختصين، برغم تنوع مواده تنوعا يتناسب مع عدة قرون نشأ خلالها ذلك الجسم الهائل الذي نسميه بكلمة واحدة هي كلمة «تراث»، كما يتناسب كذلك مع عشرات الألوف من رجال العلم والأدب الذين أنتجوه. ومع هذه الكثرة الهائلة على امتداد ذلك الزمن الطويل يصور لنا الوهم أن فلانا أو علانا من الناس عالم بالتراث وله كلمته المسموعة، فيما ينشر منه وما لا ينشر، مع أن البداهة تقضي بأن يترك الرأي لأصحاب العلم في كل ميدان. على أن يضاف إلى ذلك وجوب الأولوية لما عساه أن يكون أقرب من سواه في قوة الإيحاء بالنهوض.
إن ضخامة سؤال يطرحه إنسان على نفسه بحثا له عن جواب غالبا ما تحد من قدرة ذلك الإنسان على الإجابة عن سؤاله، وربما سهل أمامه الصعب لو أنه سلط فكره على عنصر فردي واحد من عناصر المسألة المعروضة؛ فبدل أن يسأل العربي نفسه قائلا: على أي نحو أجعل الصلة بين حاضر حياتي وماضي الأمة العربية؟ يستطيع أن ينصرف بسؤاله بادئ ذي بدء إلى حاضره هو وكيف يرتبط بماضيه هو في حدود حياته الفردية، وعندئذ قد تلمع أمامه حقيقة كبرى استنادا إلى حقيقة فردية صغرى. ولقد قدمت لنا المصادفة البحتة في غضون حديثنا هذا أن رجع كاتب هذه السطور وهو في ثمانينيات عمره إلى شيء كتبه وهو في أوائل الأربعينيات في موضوع العلاقة الثقافية بين حاضر العربي وماضيه، ولم يكن هذا الكاتب يتذكر مما كتبه في لحظة ماضيه شيئا، اللهم إلا أنه كان قد كتب ذات يوم بعيد مقالة عن نشر التراث، ودفعه التطلع إلى البحث عن تلك المقالة في مظانها، حتى وجدها وقرأها فاستحسن فيها ما استحسن، واستقبح ما استقبح ، مما دعاه إلى وقفة قصيرة يناقش فيها نفسه أين الصواب فيما وقع في الماضي وأين الخطأ ولماذا أخطأ حين أخطأ؟ إذن فقد كانت استعادة لحظة فكرية ماضية من مجرى حياته الفردية مناسبة أثارت حوارا داخليا، ربما أفاد منه هو في توضيح رؤيته، بل صادفت كلمات حواره هذا قارئا يتابعه بفكرة قبولا أو تعديلا أو رفضا، فيعمل كل ذلك عنده على توضيح رؤيته كذلك، فماذا لو وسعنا رقعة هذا المثل الصغير الفردي الواحد، لننتقل بعقولنا إلى أفق أوسع، بأن نجعل الأمة العربية تحاور ماضيها؟ فكيف يتم لها ذلك إلا - أولا - بأن يجد القارئ العربي مسألة تقع في دائرة اهتمامه وقد تعرض للرأي فيها كاتب من أبناء الماضي، و- ثانيا - بألا يحيط القارئ العربي الجديد زميله الماضي بهالة التقديس؛ ومن ثم ينفتح أمامه مجال الحوار الحر بين عربي وعربي باعد بينهما الزمن، لكن بقيت بينهما مسألة مشتركة مما يمس عصبا حيا من الحياة العربية أو الحياة الإنسانية على إطلاقها.
وانظر إلى أمثلة حية في نفر من أعلام الفكر العربي الحديث، تجد هؤلاء الأعلام قد استمدوا عظمتهم من مثل هذا اللقاء بين عربي جديد وعربي قديم في موضوع مشترك، فكان ما كان من اتفاق في الرأي أو اختلاف، فكم كنا لنفقد من موهبة طه حسين إذا لم يكن قد التقى بالشعراء العرب الأقدمين كما التقى؟ وكم كنا لنفقد من قدرة مصطفى عبد الرازق إذا لم يكن قد أدار فكره في فلسفة الفلاسفة وفقه الفقهاء من العرب الأقدمين؟ وكم كنا لنفقد من عباس العقاد إذا لم يكن قد عاش مع البطولات العربية في أبطالها كما عاش، وكم كنا لنفقد من مصطفى صادق الرافعي إذا لم يكن قد اتجه بقلبه وبعقله نحو السلف؟ وكم كنا لنفقد في عالم الشعر إذا لم يتمثل أحمد شوقي نماذج الفحول من الشعراء العرب؟ وكم كنا لنفقد من أدب توفيق الحكيم إذا لم تكن عيناه قد التقطتا أهل الكهف وشهرزاد والسلطان الحائر وغيرها من التراث العربي؟ وهكذا تستطيع أن تراجع أعلام حياتنا الثقافية واحدا واحدا لتجد الكثرة الغالبة منهم قد انقدحت لهم شرارة الموهبة عندما مست مواهبهم كنوز الأقدمين. وهكذا يكون العربي الموهوب بين حاضره وماضيه.
الإحياء في كل معنى من معانيه لا بد أن يتضمن بث الحياة فيما لم يعد حيا، وبث الحياة في كل معنى من معانيه لا يتحقق إلا إذا سرى في كائن حي؛ فعناصر التربة الكامنة في الأرض تمتصها جذور الشجرة فتحييها حين تمتصها وتجعلها قابلة لأن تسري في كيان الشجرة فتتغذى بغذائها وتنمو بنمائها وتثمر بأثمارها. وهكذا أيضا يكون إحياء الماضي بإحياء مأثوراته، فافرض - مثلا - أن شاعرا عربيا قديما ترك ديوانا من شعره، لكن ذلك الديوان مرت عليه أصابع الإهمال لتغرقه في هاوية النسيان، ثم يحدث أن يقيض الله منا باحثا أديبا محبا للشعر، فيهم بإحيائه فماذا عساه صانع به؟ أيكفي أن يحققه وأن ينشره على ورق أبيض، فإذا بالديوان بعد بعثه قد ركن على رفوف المكتبات؟ إنه لو كان ذلك هو مصيره الجديد فالذي أصابه لا يختلف كثيرا عما كان مصابا به قبل بعثه، اللهم إلا أن نكون قد بدلناه كفنا جديدا بكفن أبلاه الزمن والإهمال، ثم هل يكفي أن تضاف إلى نشره خطوة فيقرأه قارئ أو قل فيحفظه حافظ عن ظهر قلب، دون أن تعمل تلك القراءة وهذا الحفظ على أن يهتز بالشعر وجدان قارئه وحافظه. إنه لو كان ذلك هو كل ما حدث فلا يكون قد حدث للديوان القديم المنشور سوى أن نزل من رفه ليمشي بين الناس على رجليه، إنه بكل ذلك لم تعد إليه حياة، وإنما يبعث الديوان حيا إذا ما تمثله قراؤه تمثلا توحدت به قلوبهم مع قلب الشاعر، فأحسوا ما أحسه الشاعر ورأوا ما رآه وسمعوا ما سمعه، ولو للحظات خاطفة؛ ففي تلك اللحظات تتوحد هوية العربي الجديد مع هوية الشاعر القديم، ثم تمضي اللحظات لكنها تترك وراءها أثرا عند قراء الديوان قد يكون خافيا خافتا أول الأمر، لكنه بعد أن يضاف إليه على امتداد الأيام أثر وأثر وثالث ورابع تكون خيوط الانتماء العربي قد نسجت في النفوس نسجا قويا، وكأنما السلف والخلف قد اجتمعوا معا على صعيد واحد.
إننا لا نطالب العربي الجديد الذي يتلقى نتاج سلفه أن يأخذه شيء من خشوع أو خضوع، يكون من شأنه أن يصغر أمام سلفه، لا، بل الأرجح أن يجد الخلف في أعمال سلفه قصورا إذا قيس بما قد تراكم للخلف من خبرة السنين، بل الذي نريده هو أن يتلقى العربي الجديد أعمال سلفه بالحب والنقد معا، لينشأ في نفسه ما يشبه الحوار، وبمثل هذا الحوار الحي قد تنقدح شرارة الإيحاء الذي يتلوه إبداع، فيكون في هذه الحالة إبداعا يحمل في شرايينه دم الماضي، فيتلاحم ماض بحاضر في نفس واحدة.
إنه ليخيل لهذا الكاتب، أن خطأ ما يقع لنا عندما نتحدث عن إحياء الماضي في قلوبنا بإحياء كنوزه. وربما كان موضع ذلك الخطأ هو أننا لا نحسن تصور العلاقة بين طرفي الموقف؛ ففي الموقف طرفان؛ الموروث عن الماضي من جهة، والإنسان الجديد الذي نريد له أن ينعم وأن ينتفع بهذا الموروث. والخطأ الذي أشرت إليه هو أننا ننظر إلى الأمر وكأنه أمر تكليف؛ فهنالك واجب قومي يفرض نفسه علينا وهنالك مواطنون محدثون لا بد لهم من الاضطلاع بهذا الواجب، فكأننا بهذه النظرة نعطي الأولوية للماضي وموروثه، لتقع التبعية على العصر الحاضر وأبنائه. والأقرب إلى الصواب هو أن نعكس الترتيب في أذهاننا بحيث نبدأ من حياة العربي الجديد وكيف نعلو بها لننتهي إلى أن إحياء شيء من فكر السابقين ومن شعورهم قد يكون إحدى الوسائل الفعالة في ذلك التسامي الذي أردناه، إذا نحن عرفنا كيف نحييه في النفوس، فالغاية المنشودة هي العربي الجديد والرقي بحياته مادة وروحا، ومن الوسائل المحققة لتلك الغاية أن يكون على صلة حية بماضيه من أية زاوية اختارها لنفسه؛ فالماضي وما تركه لنا واسع سعة المحيطات، بعد أن نتصور تلك المحيطات وقد انقلب أجاجها عذبا. وليس المطلوب من كل فرد عربي على حدة أن يشرب المحيط، بل إنه ليكفينا أن تصل إلى كل مواطن شربة ماء يستسيغها فترويه.
2
لا أستطيع أن أحصر لك الصفات الأساسية التي ذكرها رجال الفكر على اختلاف عصورهم وشعوبهم، كل من وجهة نظره، ليميزوا بها الإنسان من سائر خلق الله، وربما كان أكثر تلك الصفات شيوعا، صفة «العقل»، على تفاوت شديد بعد ذلك في فهم الناس لكلمة «العقل» هذه، وإن يكن معناها المقصود محددا قاطع التحديد، عند أول من أبرز هذه الصفة مميزا للإنسان، وأعني أرسطو فيلسوف اليونان، وذلك حين جعل تعريفه للإنسان أنه «الحيوان الناطق» قاصدا ب «النطق» هنا قدرة الإنسان على التفكير العقلي الذي يعرف كيف يستدل النتائج من مقدماتها استدلالا صحيحا. لكن تاريخ الفكر قد شهد رجالا آخرين بتعريفات أخرى لما يميز الإنسان؛ فمرة هي «الإرادة»، ومرة هي «الشعور»، والشعور الديني بصفة خاصة.
والراجح عند هذا الكاتب، هو أنها صفات تصدق كلها على الإنسان مجتمعة، ويمكن بعد ذلك ترتيبها ترتيبا يبين أيها أسبق من أيها. ومهما يكن الأمر في ذلك، فإن صفة من تلك الصفات المميزة للإنسان، تلفت نظري من ناحيتين؛ الأولى أنها نادرا ما تذكر، الثانية أنها تلزم للعربي في عصره هذا؛ لأنها قد تنبهه إلى ما هو غافل عنه، برغم ضرورته وحيويته، وأعني بتلك الصفة ما قد عبر عنه الشاعر الإنجليزي الرومانسي من شعراء الكوكبة العظيمة التي ظهرت في مرحلة مبكرة من القرن الماضي، وهو الشاعر «شلي» في قوله عن الإنسان إنه هو ذلك الذي ينظر قبل وبعد، قاصدا بذلك أنه هو الذي يتميز بذاكرة تحفظ له الماضي وتعيده أينما استدعى وكيفما، ثم يتميز كذلك برؤية المستقبل المرجو قبل وقوعه. نعم إنه يمكن القول عن سائر الكائنات الحية، من نبات ومن حيوان، أن في طبائعها ما يفعل فعل الذاكرة، وما يؤدي شيئا يشبه استباق المستقبل قبل وقوعه، وإلا فكيف نضع البذرة المعينة من نبات معين، فإذا هي تعيد تاريخ ذلك النبات مرحلة مرحلة؟! وكيف يحدث لهذا النبات نفسه أن تجيء مراحل نموه على النحو الذي يؤدي إلى الثمرة ذاتها التي أخرجها أسلافه؟! وما نقوله في هذا عن النبات، نقول أكثر منه على الحيوان، لكن الإنسان - مع ذلك - يظل له موقف خاص يميزه في استدعاء الماضي واستشراف المستقبل، وهو أنه يدبر لنفسه ماذا يريد استدعاءه من ماضيه وماذا لا يريده في اللحظة المعينة، كما يدبر لنفسه كذلك كيف يريد لصورة مستقبله أن يكون، فإذا كانت بذرة القمح لا تستطيع إلا أن تخرج نباتها كما كان أخرجه أسلافها، والثور مع البقرة لا يملكان إلا أن يجيء النسل ثورا أو بقرة على غرار ما قد حدث في نوعهما في أجياله السابقة، فإن الإنسان وحده هو الذي يتحكم فيما يستدعيه من مخزونات الماضي، ليستثمره في حاضره على أية صورة شاء، كما يتحكم في تصور المستقبل الذي يريده ويسعى إلى تحقيقه.
Bog aan la aqoon