ومع هذا كله فالحقيقة الكبرى في طبيعة العربي هو أنه - كما قلنا - «شاعر» في المقام الأول. لقد عرض الجاحظ في الصفحات الأولى من المجلد الأول من موسوعته عن «الحيوان»، مقارنة سريعة بين أربعة شعوب من ذوي الثقافات، ليحدد الصفة الغالبة على كل منها، وهي ثقافات الهند، وفارس، واليونان، والعرب. وجاءت هذه المقارنة بمناسبة تعليقه الجيد على ما كان قائما عندئذ في «دار الحكمة» بمدينة بغداد، من ترجمة عن اليونانية علوما وفلسفة إلى اللغة العربية. وهنا قال ما معناه إنه إذا كان اليونان قد تميزوا ب «الكتاب» (أي بالمؤلفات في العلم) فالعرب قد تميزوا بالشعر، ولهذا فقد يسهل على العربي أن ينقل عن اليوناني فلسفته وعلمه ، وأما اليوناني، أو غير اليوناني، فمحال عليه أن يترجم الشعر العربي إلى لغته، وبذلك يستطيع العربي أن يضم إلى حصيلته فكر الآخرين، وأما هؤلاء الأخرون فلن يتاح لهم قط أن يعرفوا من هو العربي؛ لأن جوهر العربي شعره، والشعر مكتوب عليه ألا يجاوز حدود وطنه.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا طريق الإجابة عن السؤال الذي طرحناه لنعلم شيئا عن العلاقة بين العربي و«الواقع»، فما علينا سوى أن نسأل: ماذا تؤدي إليه طبيعة الشعر في هذا الصدد؟ إن الشعر ليفقد جوهره إذا غابت عنه قوة الخيال، والخيال المقصود هنا هو ذلك النوع الذي يعلو بصاحبه إلى درجة يستطيع عندها أن يؤلف بين خبرات استقاها الشاعر متفرقات من حياته العملية؛ إذ هو يرسل البصر في جنبات الكون ليرى، وينصت بأذنيه ليسمع، ومن حصيد المرئي والمسموع، وما كان قد أضيف إليه من حالات وتحولات في وجدان الشاعر، يبني في خيال الشاعر بيتا جديدا هو بيت الشاعر، أو أبياته التي تؤلف قصيدة الشاعر. وفي إقامة الشاعر لعالمه الخاص، من لبنات مستمدة من الحياة كما وقعت وكما تقع، يستحل مجاوزة القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء في عالم الواقع، ليضع لها هو ما يسنه لها من قوانين، وبذلك يجيء العالم الشعري الذي أقامه الشاعر، عالما جديدا كل الجدة، لا شأن للواقع به، اللهم إلا موازاة بين العالمين، يبحث عنها الناقد ليستخرجها من الخفاء إلى العلن. إن الصخر في دنيا الواقع لا ينطق، لكن الشاعر يستحل أن ينطقه بما أراد له وكيفما أراد، والشجر لا يعزف موسيقى على أوتار، لكن الشاعر يحل له أن يجعل الشجرة عازفة للنغم على أوتارها. إن البرق والرعد يحدثان بقوانين تعرفها العلوم، وليس لهما «نفس» تغضب وتثور، ولكن الشاعر من حقه إذا أراد، أن يتصورهما ثورة غاضبة، وأن يتصور المطر بكاء أو طلقات من الرصاص في حومة القتال، كما شاء. وهكذا، فالفاصل الحاد الحاسم بين «العلم» و«الشعر» هو أن العلم لا يرى من الواقع إلا ظواهره البادية للحواس، ليستخرج قوانينه التي تحكم سلوكه؛ فالصخر صخر، والشجر شجر، والرعد والبرق والمطر رعد وبرق ومطر، ولكل شيء مسالك مفروضة عليه، ومهمة العلم استخراج القوانين التي تنظم تلك المسالك. وأما الشعر (والفن بكل أنواعه) فليس ذلك شأنه، وإنما شأنه أن يخلع المشاعر الإنسانية على كل شيء في الطبيعة وكأنها قد أصبحت أناسا مع الناس.
ونحن نقول عن العربي إنه في المقام الأول شاعر، أو له رؤية الشاعر، فإذا كانت تلك هي حقيقة أمره، إذن فعلاقته بالواقع هي أن يحصد منه لقطات حسية يشاهدها متفرقة، فيحفظها في وعيه ليستهديها خلال حياته العملية، ومن هذه اللقطات الحسية ذاتها يبني الشاعر العربي ما يبنيه من بيوت الخيال، ومعنى ذلك هو أن علاقة العربي بالواقع هي تلك اللقطات الحسية المتناثرة، ينتفع بها في حياته العملية. وأما «الرؤية»، العامة للحياة، أو «وجهة النظر» التي يتوجه بها إلى الوجود الكوني، أو «الموقف» الذي يقفه إزاء ما يحيط به فهي أقرب إلى طبيعة الشعر، فيراه وكأنه يحيا بين جدران ما يشعر هو به، حتى يجوز أن تصطخب الدنيا الخارجية بما تصطخب به من أحداث، ومن أفكار، وهو هناك في موقفه، يستدفئ النظرة الشاعرة، حتى وإن قرأ وعرف ما قد صخبت به الدنيا من تقلبات.
لقد ذكرنا فيما أسلفناه، أن هذه الأحاديث لم تكتب للإشادة بالعروبة في موقفها أيا كان ذلك الموقف وما يقتضيه، ولكنها كتبت وصفا موضوعيا لما يظنه كاتبها أنه وصف أمين. ومع ذلك فهو اجتهاد فردي قد يخطئ وقد يصيب، فإذا صدق ما أوردناه عن طبيعة الشاعر في العروبة وموقفها، كان حتما على العربي أن يغير من موقفه بعض الشيء، بالإضافة لا بالحذف، فلنبق على «الشاعر» الكامن في قلوبنا، حتى لا نفوت على أنفسنا سمة من أبرز سماتنا ومن أجملها، على أن نضيف في تنشئة أجيالنا الجديدة نظرة «العلم» كلما اقتضى الموقف التزام الواقع في حدوده وقوانينه الصارمة. وانظر إن شئت إلى الحياة العربية في تاريخها الحديث، لترى كم دهمتها المفاجآت، التي لم تكن في الحقيقة مفاجئة، بل لبثت كل واحدة منها تغزل خيوطها وتنسج مؤامراتها أعواما طوالا، ونحن عنها غافلون، أو كالغافلين؛ لأننا ربما عرفنا شيئا عما يدبر لنا في سواد الليل، لكننا نسهو ونغضي لانشغالنا بما بناه لنا الخيال في رءوسنا. حتى إذا ما أصبح علينا صباح فجأتنا المفاجأة التي لم تكن قد ولدت منذ لحظة، بل ظلت هناك تبيض وتفرخ في صدور مدبريها أو في جحورهم، لتباغتنا وكأنها بنت لحظتها.
وكما رأينا في وقفة العربي «الشاعر» دفئا جميلا تشوبه غفوة يسهو بها عن مواجهة الواقع برؤية علمية كلما اقتضى الأمر ذلك، حماية لنفسه، وتقريرا لذاته في دنيا التنافس والعدوان التي كتب علينا ولنا أن تكون دنيانا، فكذلك نلحظ مثل هذه الشائبة في سمة أخرى من سمات «العروبة»، فليس ثمة من شك فيما يعرف به العربي من بناء اجتماعي - قبيلة، أو أسرة، أو أمة تضم القبائل والأسرة - يكفل للفرد أن يجد مكانا في جماعته، وهو مكان يعطيه حقوقا ويفرض عليه واجبات، وإننا لنفقد الشيء الكثير إذا فقدنا مثل هذا الانتماء الأسري الحميم، لكننا كذلك نفقد كثيرا جدا من طاقتنا الحيوية إذا بولغ في طغيان النظام الأسري أو القبلي أو الوطني والقومي على الفرد، بحيث تقيد حريته بأكثر من القيود التي تفرضها ضرورة الاجتماع، وتحدد قدراته المبدعة إذا كان من أصحاب المواهب، أكثر مما تحتمه ضرورة الحياة الاجتماعية من حدود.
وهكذا ترى أن «العروبة» موقف مركب من عناصر اشتقت بعض أصولها مما توحيه الصحراء إلى ساكنيها، من رؤية عامة تتعلق باللامتناهي أكثر مما تشغلها العابرات الزائلات، وبالثابت أكثر مما تتعلق بالمتغير، وبالمجرد أكثر مما يلهيها المتعين. ومن هذا الموقف تهيأت شعوب المنطقة بقلوبها لتقبل الديانات المنزلة وحيا إلى الأنبياء والرسل (وجميعها نزل في هذه المنطقة)؛ ومن ثم أصبحت عقيدة التوحيد مدارا للوقفة العربية، حتى فعلت فعلها في تشكيل النمط الثقافي العربي - الذي هو أساس «العروبة» وجوهرها - فالأدب (والشعر منه بصفة خاصة) يكثف الحكمة المستخلصة من الحياة الجارية، والفن ينزع نحو التجريد الذي يرتفع حتى يبلغ أن يكون أشكالا هندسية وما يتركب منها، والبناء الاجتماعي يتبلور في النظام الأسري أو القبلي الذي يجعل مثله الأعلى تكاملا وتعاونا ووحدة بناء. ولئن كان الواقع العربي الحديث قد انحرف عن تلك الرؤية العربية المتميزة، فقد جاء انحرافه هذا في اتجاهين؛ أحدهما نكسة أفرزتها الأوضاع السياسية الحديثة، محليا وعالميا، وإذن فهو انحراف لا بد لنا من تقويمه. وأما ثانيهما فانحراف نحو الأفضل والأكمل، وذلك في المواضع التي اضطررنا فيها إلى تعديل ما هو تقليدي في ثقافتنا من شأنه أن يعرقل النمو، فأحللنا مكانه عناصر قوة مما أنتجته حضارة هذا العصر وثقافته، وإذن فمثل هذا الانحراف جدير بالمؤازرة والتأييد.
هذا هو عصرنا
1
ليس العصر من العصور عددا من السنين يكبر حينا ليمتد بضعة قرون، ويصغر حينا ليكفيه قرن واحد أو بعض قرن، وإنما «العصر» المعين هو «فكرة» أساسية تسود الحياة، وتصبح محورا تدور حوله مسالك الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطورت تلك المسالك والمناشط، بحيث لم تعد «فكرة» العصر تكفيها ينبوعا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية، أخذت «فكرة جديدة» في الظهور والانتشار والرسوخ، حتى تصبح بدورها محورا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصر جديد، فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم، أن تخلفت في رءوسهم فكرة عصر مضى، ثم نشطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تسعفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة، فيصبحون - بالضرورة - كالغرباء في قومهم، حتى لتلتفت إليهم الأنظار دهشة، وذلك على أفضل الفروض، أو تلتفت إليهم ساخرة - وذلك على الأعم الأغلب - ولا ينفع المتخلف عن «فكرة» عصره أن يقارن للناس بين الفكرتين؛ أي بين العصرين، ليبين لهم كم كانت الأولى طيبة فاضلة خيرة أصيلة؛ لأن الحكم في مثل هذه المقارنة، مرهون بالنتائج التي تعود على الناس من ضروب العلم، والقوة، والثراء وغير ذلك مما يرفع «كيف» الحياة في مجمل نواحيها وأطرافها. والأرجح - كما قلت - هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلح لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من «الفكرة» التي ذهبت وذهب عصرها معها. وها هي ذي قصة «أهل الكهف» للذين غيبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغير فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجهم ودفع بهم إلى العودة حيث كانوا، إيثارا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.
ولا بد لل «فكرة» الجديدة التي يتولد عنها عصر جديد، أن تبلغ من الغزارة حدا من شأنه أن يفسح المجال لأفكار فرعية تنبثق منها ولفروع من تلك الفروع حتى تظلل الحياة على تشعبها وتعقدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها، فإذا أخذنا الفترة التي امتدت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم - وهي نحو أربعة قرون - على أنها عصر جديد واحد أعقب ما يطلق عليه في تاريخهم اسم «العصور الوسطى» كانت «الفكرة الجديدة» التي ميزته عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم (وأقول: أن يضيفوا ولا أقول: أن يحلوا محلها) قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظم ما ينتج له عن ذلك التسخير هو التحرر من قيود هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يلجمها فيمسك بأعنتها ويسيرها كيفما أراد لها أن تسير. ولك أن تلقي بلمحة خاطفة إلى ما قد حققه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية ... إلخ.
Bog aan la aqoon