Carab iyo Moodelka Mareykanka
العرب والنموذج الأمريكي
Noocyada
فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود رقابة حكومية على الصحف ومصادر المعلومات، كان من السهل أن نفهم ذلك الشعور الحاد بالحرية، الذي يتميز به الإنسان الأمريكي، والذي يؤمن بأنه هو السمة الإيجابية الكبرى التي يتفوق بها نمط الحياة الأمريكي على سائر أنماط الحياة المعاصرة.
هذه هي الصورة كما تبدو على السطح، وكما يراها معظم الأمريكيين والمعجبون بنمط الحياة الأمريكي من بين أفراد الشعوب النامية. ولكن وراء هذا السطح أعماقا خفية لا تدركها العين للوهلة الأولى، وإن كان الوعي بها يزداد انتشارا يوما بعد يوم. ونحن إذ نركز حديثنا على ما وراء المظهر الخارجي، لا نهدف إلى تصيد الأخطاء أو اقتناص السلبيات، وإنما نود قبل كل شيء أن نكمل الوجه الآخر للصورة، وذلك في إطار الهدف العام الذي نسعى إليه من هذا البحث، وهو أن يكون الإنسان العربي رأيه عن النموذج الأمريكي بطريقة موضوعية متكاملة. •••
إن الثراء الأمريكي ليس مطلقا. ففي أمريكا فقراء بأعداد لا بأس بها، وفيها عاطلون يشكلون نسبة من الأيدي العاملة قد تصل أحيانا إلى العشر. وقد يرى البعض أن الفقير في أمريكا أحسن حالا، على وجه العموم، من متوسط الحال في معظم البلاد المتخلفة، وهو أمر يمكن أن يكون صحيحا إذا ما نظرنا إليه نظرة إحصائية رقمية، أما إذا تأملناه من منظور إنساني فلن يعود السؤال الرئيسي هو: ما مدى فقر الفقير في المجتمع الأمريكي؟ وإنما لماذا يكون هناك فقراء أصلا، في بلد يتمتع بكل هذا الثراء؟ وبالمثل فإن العاطل يحصل، لمدة معينة، على مبلغ من الضمان الاجتماعي قد يسد احتياجاته الضرورية، ولكن المسألة في هذه الحالة أيضا ليست مقدار هذا المبلغ، وإنما هي: لماذا يكون هناك عاطلون بالملايين، في أوقات الرخاء وفي أوقات الأزمات على حد سواء، وكيف يرضى المجتمع الأمريكي بأن تكون ظاهرة البطالة جزءا لا يتجزأ من بنيانه، ومن نظام حياته؟ ولماذا تظهر البطالة - على مستوى غير قليل - في مجتمع يملك وسائل إنتاج هائلة وإمكانات عظيمة للتوسع؟ وما هو التأثير المعنوي للبطالة في نفس الإنسان، بغض النظر عن تأثيرها المادي في مستوى حياته؟
إن التعليل المعروف لهذه الظاهرة هو أن المجتمع الذي يقوم على الاقتصاد الحر بأوضح صوره، يحتاج إلى وجود نسبة من العاطلين عن العمل كيما يساوم بهم ضد مطالبات العمال المستمرة لرفع أجورهم. وهذا التعليل يفترض، بالطبع، أن العامل الإنساني في الموضوع لا أهمية له، أي أن إحساس العاطل بالإحباط، وعدم الأمان، والانهيار الناتج عن شعوره بأنه سيظل لفترة - لا يدري إلى متى تطول - إنسانا غير منتج في المجتمع، كل ذلك لا يدخل في الحسبان ما دامت مصلحة الأعمال الاقتصادية (البيزنس) تقتضيه.
وهنا نضع أيدينا على نقطة أساسية من النقاط التي تميز مجتمع الثراء والوفرة هذا: هي اللاإنسانية. وأنا لا أعني بذلك أن الإنسان هناك يحارب أو يضطهد في كل الحالات، وإنما أعني ببساطة أن الإنسان «لا يعمل له حساب» - فهو يأتي على الهامش، بالقياس إلى ضرورات الأعمال الصناعية والتجارية. والعلاقات الإنسانية لا تدخل بوصفها عاملا يحسب حسابه عند اتخاذ قرار اقتصادي أو اجتماعي معين. «من المفارقات الساخرة أن العقل الأمريكي هو الذي اخترع علما اسمه العلاقات الإنسانية
Human Relations » وهذا العلم يتعلق بالجانب الإعلامي والإعلاني من الأعمال الاقتصادية، والمتخصصون فيه يبحثون في كيفية التأثير في العمال والعملاء، أي في المنتجين والمستهلكين، وفي كيفية التعامل مع المنافسين أو المشاركين في الإنتاج، كل ذلك بهدف واحد أخير هو زيادة الربح إلى أقصى حد، أي أنه - بصريح العبارة - هو علم «العلاقات اللاإنسانية». وعندما تكون مصلحة الأعمال الاقتصادية (البيزنس) مهددة، فإن العوامل المجردة التي لا تقيم أي وزن لما هو إنساني هي وحدها التي تؤخذ في الاعتبار. إنه شكل من أشكال قانون الغابة، ولكنه منقول من صورته البدائية إلى صورة شديدة التعقيد، تلائم أعلى مراحل العلم والتكنولوجيا وأعقد صور الإنتاج.
هذا الشعور بانعدام الأمان، وإحساس الإنسان، عن وعي أحيانا أو بلا وعي في الغالب، بأن متطلباته النفسية والوجدانية خارجة عن نطاق العمل، ولا يعمل لها حساب في جهاز الإنتاج الجبار، يخلق مناخا عاما من التعامل اللاإنساني بين البشر. ولا أود أن أطيل الحديث في موضوعات أصبحت الآن معروفة: كالقول مثلا إن نسبة الجريمة في المجتمع الأمريكي تعلو على نظيرتها في معظم المجتمعات الأخرى. ولكني أود، في صدد مسألة كهذه، أن أنبه القارئ إلى ظاهرة قد لا يجدها واضحة في التحليلات الشائعة؛ وهي الارتباط الوثيق بين «شكل» الجريمة الأمريكية، والطابع العام للمجتمع. ففي العالم كله ترتكب جرائم، والكثير منها بشع، ولكن الجريمة في أمريكا لصيقة إلى أبعد حد بالمجتمع الأمريكي ذاته: إنها أولا جريمة تكنولوجية على أعلى مستوى، تستخدم فيها أحدث الأساليب والمعدات التي يقف أمامها أعتى اللصوص في مجتمعاتنا «المتخلفة» مشدوهين بلهاء. (من دواعي السخرية أن المسلسلات البوليسية الأمريكية تتباهي بالأساليب التكنولوجية الفائقة في عصريتها، والتي تستخدمها الشرطة الأمريكية في القبض على المجرمين: من طائرات هليكوبتر وزوارق هائلة السرعة وأجهزة لاسلكية خفيفة وأدوات تحليل بارعة وعقول إلكترونية تختزن المعلومات وتعيد تقديمها في ثوان، ومع ذلك فإن صانعي هذه المسلسلات لا يدركون أن الشرطة لا تضطر إلى استخدام هذه الأساليب العصرية المعقدة إلا لأن المجرمين بدورهم يستخدمون أساليب مماثلة، أي لأن المجرمين أعتى وأشد إجراما). وهي ثانيا جريمة لا إنسانية: فنسبة جرائم القتل التي ترتكب بلا سبب، أو لأسباب لا يمكن أن تؤدي إلى القتل في المجتمعات الأخرى، نسبة رهيبة. وهكذا تكون الجريمة صورة مصغرة للمجتمع، في تكنولوجيته الرفيعة المقترنة باللاإنسانية.
أما ظواهر التعصب العنصري، الذي لا تزال آثاره باقية بوضوح، وخاصة في الجنوب الأمريكي، فأمرها معروف. وأما إدمان المخدرات، وتفكك الأسرة وانحلالها وانعدام المشاعر الإنسانية الحميمة فيها، فتلك أيضا ظواهر أصبح الجميع على وعي بها، وأصبح الكتاب الملتزمون في أمريكا نفسها يدقون ناقوس الخطر بشأنها بلا انقطاع. ولكن الشيء الذي أود أن أوجه إليه نظر القارئ العربي بالذات هو الطابع «العبثي» لهذه الظواهر في المجتمع الأمريكي: فالفنون الأمريكية تقدم إلينا كل يوم أعمالا تعرض فيها صراعات بين الأب والابن مثلا، ولكن المرء حين يتأملها جيدا لا يرى «مشكلة» على الإطلاق، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله الصراع في مجتمع شرق مثلا، لأمكن حله بسهولة تامة، دون أن يصاب أحد بعقدة مستعصية. وحين يتأمل المرء ظاهرة إدمان صغار المراهقين للمخدرات، وارتكابهم شتى أنواع الجرائم أو الرذائل في سبيل «حقنة» من المخدر، يشعر بأن المجتمع الذي يسيطر على مادة الطبيعة على أكمل وجه، قد وقف عاجزا تماما عن السيطرة على الإنسان، وأن الدقة الكاملة التي يتسم بها الإنتاج المادي يقابلها تسيب كامل واختلال أساسي في السلوك البشري.
ولكن، ماذا نقول عن الإحساس بالحرية، الذي يعده الأمريكي مفخرته الكبرى، والذي وصل إلى حد إطلاق اسم «العالم الحر» على الاتجاه الأيديولوجي الذي تتزعمه أمريكا؟ •••
إن في بعض الضمانات الفردية التي يمنحها الدستور الأمريكي للمواطن، وفي الإحساس بوجود «قانون»، لا بد من احترامه - قانون يسري على الجميع، ولا يستثنى منه أحد - في هذا نموذج يمكن أن يتعلم منه الإنسان العربي، والحكومات العربية، الكثير . لكن مع تسجيلي لإعجابي الخاص بهذا الجانب من «الحرية» الأمريكية، فلا بد من تنبيه القارئ إلى أن هذا الحكم لا يمكن إطلاقه دون تحفظات هامة. •••
Bog aan la aqoon