Carab iyo Moodelka Mareykanka
العرب والنموذج الأمريكي
Noocyada
أولا:
أمريكا قارة تنتمي إلى العالم الجديد. وهذه في ذاتها حقيقة أساسية تحكمت في تحديد مركز أمريكا وسط دول العالم منذ البداية: فالعالم القديم كان قد استهلك منذ ألوف السنين، ونضبت موارده عبر الحضارات التي تعاقبت عليه. أما أمريكا فكانت أرضا بكرا اكتشفت منذ أقل من خمسة قرون، ولم يبدأ استغلالها الحقيقي إلا منذ ثلاثة قرون، وربما اثنين. وهي لم تكن أرضا بكرا فحسب، بل كانت قارة كاملة غنية بالموارد الطبيعية إلى حد مذهل، تجاورها قارة أخرى كاملة تكون «ساحتها الخلفية» وتخضع لاستغلالها خضوعا مباشرا. وفي هذا الصدد نستطيع تشبيه أمريكا بكنز هائل ظل مخفيا ألوف السنين، ينتظر صاحب الحظ السعيد الذي يعثر عليه، ولم يكتشف إلا بعد أن كانت الكنوز المعروفة قد شبعت استهلاكا.
ولقد كان الوقت الذي اكتشف فيه هذا الكنز الجبار وقتا فريدا بدوره، أعني عصر النهضة الأوروبية ومطلع العصر الحديث؛ ذلك العصر الذي بدأت فيه أوروبا تتطلع إلى السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم والتكنولوجيا، والذي نادى فيه مفكروها وفلاسفتها الكبار بأن يصبح البشر «سادة الطبيعة وملاكها». وأن يكون العلم للسيطرة، «لا للمعرفة فحسب». في لحظة الطموح الفريدة هذه، وفي العصر الذي خرج فيه الأوروبيون من ظلام العصور الوسطى الطويل وتفتحت أمامهم آمال وتطلعات هائلة، وفي الفترة التي تخلص فيها الإنسان من عبودية الإقطاع، وانتقل إلى التحرر والطموح الرأسمالي وأتاحت له علومه الجديدة ومراجعته الجذرية لتنظيماته الاجتماعية إمكانات للتقدم بغير حدود، في هذه اللحظة بالذات، اكتشفت أمريكا.
وهكذا تضافرت عوامل فريدة في خلق الظاهرة الأمريكية: أرض مليئة بالخيرات التي لم تكد تمس، يهبط عليها فجأة مجموعة من البشر المنتمين إلى حضارة بلغت أوج نهوضها وتفاؤلها، ويحملون معهم كل خبرات العالم القديم وتراثه العلمي والفكري، وطموح الإنسان الحديث إلى السيطرة على الطبيعة وتشكيل حياة جديدة لنفسه. وإذا كانت التقاليد الأوروبية قد وقفت عائقا، إلى حد ما، في وجه هذا الطموح، فها هي ذي أرض جديدة لا حدود لاتساعها وإمكاناتها، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام الإنسان الأوروبي وهي تبدو أمامه بلا تاريخ، ولا صاحب.
ثانيا:
ولكن هل كانت هذه الأرض حقا بلا تاريخ، وبلا صاحب؟ من الحقائق التي يعرفها الجميع أن هذه الأرض كان يسكنها شعب مسالم، أدت به عزلته النائية وعدم اختلاطه بالحضارات الأخرى إلى التخلف عن بقية العالم في ميادين متعددة، ولكنه كان صاحب حضارة مزدهرة في مناطق معينة على الأقل: في المكسيك، وأمريكا الوسطى، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وخاصة بيرو.
غير أن نقطة الضعف الكبرى في هذا الشعب كانت أدوات الحرب: فقد طور الغرب الأوروبي أسلحته قبل الفترة التي غزا فيها الأرض الأمريكية، إلى مستوى كان يتيح له بسهولة إبادة شعب لا يستخدم سوى أسلحة الصيد البسيطة. وكان هذا التفوق في التسلح، أي في صناعة القتل، هو العامل الأول لانتصار المستعمرين الأوروبيين على أصحاب الأرض الأصليين، ومن المؤكد أن أمريكا ظلت دائما تدرك بوعي تام أهمية التفوق في التسلح، بدليل أنها ما زالت تفوق سائر بلاد العالم في هذا الميدان الرهيب، وما زالت صاحبة «الفضل» الأول في «تحسين» أدوات الفتك والإبادة، وفي تطوير أنواع وأجيال جديدة من الأسلحة، وإرغام العالم على مجاراتها في هذا الميدان اللاإنساني العقيم.
ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى الأساليب البشعة التي استخدمت في هذا التصادم بين حضارة طموح تستهدف التوسع بأحدث وسائل الدمار المعروفة عندئذ، وبين حضارة مسالمة معزولة لم تكن تعمل أي حساب لليوم الذي سيهبط عليها فيه هؤلاء الغرباء المتفوقون، بل لم تكن تتصور أنهم موجودون أصلا. ذلك لأن أفلام الهنود الحمر، على ما فيها من تشويه وقلب للحقائق، كفيلة بإلقاء الضوء على عملية الإبادة الجماعية التي كان المستعمرون يمارسونها ضد كل من يقف في وجه توسعهم وامتداد نفوذهم - تلك الإبادة التي ما زالت تؤرق ضمائر كثير من المؤرخين الأمريكيين المنصفين حتى اليوم.
لقد كان الهنود الحمر شعبا أبيا، لا يقبل الذل، فقاوم بقدر ما يستطيع، وكانت نتيجة ذلك أن استأصله الأمريكيون من جذوره، ولم تبق منه إلا مجموعات قليلة تعيش في مستوطنات مقفلة معزولة تستغل في الأغلب لأغراض تجارية بوصفها متحفا بشريا حيا.
ولكني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع أن أطرح على قارئي العربي سؤالا: ألم تستنتج من هذا الوصف لموقف الأمريكيين من الهنود الحمر شيئا؟ ألا يذكرنا ذلك، إلى حد بعيد، بموقف الصهيونية من فلسطين؟ لقد كانت أمريكا بدورها، في نظر المستوطنين الأوروبيين الجدد، أرضا بلا شعب، وكان الوافدون من جميع أرجاء أوروبا، الذين ضاقت بهم قارتهم القديمة أو ضاقوا بها، والذين كان منهم تجار مغامرون ورجال دين متزمتون وأفاقون وأرباب سجون ومجرمون هاربون؛ كان هؤلاء يعدون أنفسهم شعبا بلا أرض.
Bog aan la aqoon