تستمر الإهانات وتزداد يوما وراء يوم، فيتعود عليها المواطن فيقبلها، ويستسلم لها، ويعتبرها القاعدة وليس الاستثناء، وتتأثر نفسية الشعوب وتفقد احترامها لذاتها، وتتعود على الإهانة وهي تصارع من أجل لقمة العيش وغريزة حب البقاء، وتتحول الإهانات المتكررة إلى ذاكرة جماعية، وتخلق وعيا تاريخيا بالرضا والقبول والاستكانة والاستسلام للأمر الواقع، ويصاب بالفتور واللامبالاة كما وصف الكواكبي في «أم القرى»، وينعزل المواطن والشعب عن العالم، وينكمش على ذاته، ويتحول إلى محميات كما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، بعد أن تعود على العجز، ووجد مهربا له وخلاصا في الطرق الصوفية وقيم الفقر والصبر والرضا والتوكل والقضاء والقدر والاستسلام.
ومع ذلك فالكرامة الإنسانية والاحترام الذاتي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، يحميه من الضياع والاندثار. يتمسك به بالقلب وإن استعصى الكلام باللسان أو التغيير باليد، يظهر في مقاومة المثقفين الوطنيين ومظاهرات الطلاب، ويندلع بين الحين والآخر في الحركات الشعبية للعمال والنقابات والاتحادات، وينفجر في الانتفاضات الشعبية مثل انتفاضة الخبز في يناير 1977م، وانتفاضة الفقر للأمن المركزي في يناير 1986م، ويتفجر في الثورات الوطنية مثل ثورة عرابي في 1882م، وثورة 1919م، وثورة يوليو 1952م.
فكما أن كل تحد له استجابة، فكذلك كل إهانة لها تحد،
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟
2
من أهم البرامج الإعلامية الذائعة الصيت في أهم القنوات الفضائية العربية التي أحدثت قفزة إعلامية في الإعلام العربي، والذي يراه الملايين من العرب، برنامج «الاتجاه المعاكس»، وهو من حيث الشهرة والذيوع له كل التقدير، يثير الذهن، ويدفع إلى التفكير، ويحرك المياه الراكدة في ثقافة غلب عليها الرأي الواحد، والفرقة الناجية، والإعلام الحكومي.
يفضح المواقف التي تقبل التطبيع مع إسرائيل، والتي تود تكرار النموذج العراقي، الغزو الأمريكي، تخليصا للوطن العربي من النظم التسلطية، وتحريرا له من القهر والطغيان. ويكشف عن أهداف الليبرالية الجديدة التي تريد وراثة الليبرالية القديمة التي سادت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية العربية والاشتراكية التي حملتها ثورات الضباط الأحرار في النصف الثاني منه. كما يتمتع بحيوية فائقة تشد الأنظار إليه، وتجعل المواطن العربي يثق بإعلامه بعد أن أشاح بوجهه عنه؛ لأنه تعبير عن النظم السياسية التي يعاني منها الأمرين، والتي تبدأ بأخبار الرئيس وحرم الرئيس وكل رجال الرئيس.
تتمثل فيه القدرة على الهجوم والدفاع والجدل والسجال والتوثيق والاطلاع على آخر التقارير والمقالات لتدعيم وجهتي النظر، ويتعرض للموضوعات التي تختلج في قلب كل عربي، والتي لا يجرؤ الحديث عنها بصوت عال مسموع؛ الغزو الأمريكي للعراق، نفط العراق، المقاومة العراقية، تدمير العراق، فتح وحماس، مؤتمرات القمة العربية، القدس ... إلخ.
أصبح البرنامج الرئة التي يتنفس بها كل عربي في عصر بلغت فيه القلوب الحناجر، والعقل الذي يفكر به كل عربي في زمن ساد فيه الإعلام الرسمي، ورفعت الشعارات في بعض المطارات: «لا تفكر، نحن نفكر لك.» والعين التي يشاهد بها كل عربي في وقت غمضت فيه الأعين، والأذن التي يسمع بها كل عربي بعد أن صمت الآذان بالرغم من علو الضجيج وشدة الصخب، وسيادة الضوضاء.
Bog aan la aqoon