ومن ضمن مظاهر الدولة الحديثة المشاريع الثقافية؛ فلا دولة بلا ثقافة، ولا ثقافة بلا عصرية، ولا عصرية بلا تعرف على أهم الإبداعات الثقافية للعصر عن طريق الترجمة.
فالحضارات الأخرى، غربا وشرقا، تبدع ونحن نستهلك، تؤلف ونحن نترجم. ويكون منهجنا في التحديث نقل المعلومات ممن يعرف إلى من لا يعرف، من المركز إلى المحيط؛ فالتحديث يأتي عن طريق الوافد مثل مواد الصناعة والبناء الحديثة. مصدر العلم خارجي كما أن الوحي خارجي. هذا من الأرض، وذاك من السماء. ولا تحتاج الترجمة إلى جهد كبير باستثناء ممول وناشر ومترجم. والتمويل موجود من عوائد النفط المتراكمة، والناشرون موجودون في شتى أقطار الوطن العربي، خاصة في مصر ولبنان، والمترجمون موجودون أيضا، فرص عمل كبيرة، وأجر مجز ومضمون؛ فنقل المعلومات أسهل من إبداعها، والترجمة أسرع من التأليف.
والحقيقة أن هذا وهم كبير؛ فالترجمة بمفردها لا تصنع ثقافة، ولا تقيم نهضة، ولا تؤسس حضارة. الترجمة أحد ثلاثة عناصر في النهضة الثقافية مع النشر والتأليف كما فعلت مصر منذ قرن في «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر»، والنشر العنصر الثاني، وبتفاعل الوافد والموروث، أي الترجمة والنشر، ينتج التأليف.
الترجمة وسيلة وليست غاية. تهدف إلى التعرف على ثقافات الغير. هي مقدمة وليست نتيجة، آلة وليست هدفا. وتقوم على أسس اختيار واعية، وليس مجرد ديكور ثقافي بترجمة أهم الإبداعات الإنسانية قديما وحديثا بصرف النظر عن مدى الاحتياج إليها، ووجود جمهور لها، وتأثيرها في المرحلة التاريخية الراهنة التي يمر بها المجتمع العربي. تكون بؤرا ثقافية عالمة ومتعالمة لنخبة من المتعلمين قادرين على قراءة أصولها الأجنبية إذا كانت باللغة الإنجليزية .
والترجمة في الغالب ذات اتجاه واحد، من المركز إلى الأطراف، ومن الغرب إلى العرب، وليست مزدوجة الاتجاه في اتجاه معاكس أيضا، من العرب إلى الغرب، إحساسا منا بأننا لا ننتج ثقافيا بل نستهلك فحسب. صحيح أن إبداعاتنا الأدبية في الشعر والرواية والقصة والمسرح ترجم البعض منها إلى اللغات الأجنبية بعد حصول بعض مبدعينا على الجوائز العالمية، ولم يخفف ذلك من عقدة النقص أمام الآخر الذي لم يتخفف هو الآخر من عقدة العظمة، ومع ذلك لدينا إبداعاتنا في العلوم الإنسانية وفي الفكر العربي المعاصر تجهلها الثقافات الأخرى. وإذا كانت الترجمة ليست مجرد نقل لغة إلى لغة، أو ثقافة إلى ثقافة، بل تفاعل الحضارات ، فإنها تكون ذات اتجاهين، من الغرب إلى العرب، ومن العرب إلى الغرب؛ حتى تتغير الصور النمطية التي كونها الغرب عنا على مدار السنين، ونظرها العلماء بحيث أصبح التفكير والتنظير حكرا على الغرب وحده دون غيره.
ويقوم بعض الشباب، خريجي الجامعات الأجنبية، بما لديهم من قدرات لغوية وبراعة في العلاقات العامة بالعمل داخل هذه المؤسسات والهيئات الجديدة للترجمة. ويكتفي أصحاب رءوس الأموال برئاستها وتوجيهها عن بعد، ووضعها في إطارها المطلوب، وتوظيفها في الأهداف المحددة المعروفة سلفا. الناشرون العرب في الصف الأول، ويلحق الناشرون الأجانب حتى لا تفوتهم قسمة الغنائم من ودائع النفط، ومرحبون بهم؛ فهم من بلاد أهل التأليف والإبداع. والمترجمون، أي العلماء، هم الذين ينادي عليهم الناشرون لتوقيع العقود بعقلية الوسطاء التجاريين، والوكلاء لأصحاب رءوس الأموال؛ فهم الناشرون والموزعون والمعدون لصناعة الكتاب، خاصة وأن النشر الثقافي المستقل يعاني من أزمة التأليف والطباعة والنشر نظرا لغلو أسعار مواد الطباعة وتكاليفها، وبطء عائدها، ومطاردة العلماء لهم لدفع حقوقهم والتهرب منهم.
في هذه الأوضاع، المال لا يصنع ثقافة؛ فالثقافة ليست ترجمة وطباعة ونشر مجلدات فخمة لا يقرؤها أحد، توزع هدايا لعلية القوم وأصحاب رءوس الأموال، وتوضع زينة في المكتبات العامة والخاصة. الثقافة أحد عوامل نهضة الشعوب وتقدم الأمم إذا كانت تعبيرا عن واقعها، وتلبي حاجاتها في المرحلة التاريخية التي تمر بها . ودون تحليل هذه المطالب والاحتياجات تظل الثقافة نخبوية عالمة لا تحرك ساكنا. مهمة الثقافة في مناطق تراكم عوائد النفط هي الدفاع عن لغتها الوطنية، وعروبتها، بتعريب العمالة الوافدة، والمحافظة على تجانس سكانها وثقافتها الوطنية، والتخطيط لمستقبلها القومي.
الثقافة جزء من وجود الدول ذاته؛ فإذا ما هددته المخاطر الداخلية أو الخارجية تحولت الثقافة إلى أداة دفاع ومقوم وجود. ومنذ أن احتمت الأمة بالقومية العربية في القرن الماضي كبديل عن الدولة العثمانية، وهي الآن تحتمي بالدولة القطرية بعد هزيمة يونيو (حزيران) في 1967م، وحرب الخليج الأولى في 1980م، والثانية في 1990م، تواجه الدولة القطرية الآن مخاطر التفتيت والتجزئة إلى دويلات طائفية عرقية مذهبية كما يحدث الآن في العراق والسودان. هنا تأتي الثقافة الوطنية التي تنصهر فيها الأعراق والطوائف والمذاهب كقارب نجاة.
وفي العالم ذي القطب الواحد، واستئساد الولايات المتحدة وإسرائيل به بعد غزو أفغانستان والعراق وكل فلسطين، لن يسمح بوجود قوة أخرى عسكرية واقتصادية وعلمية كما حدث في العراق، أو قوة مالية في مراكز تراكم ثروات النفط. فكيف تترك الذئاب والأسود غزالا يتمختر أمامها بالحداثة والعصرية ومركز اتصالات بين الشرق والغرب؟ الخوف على هذه الثروات المتراكمة من انهيار العملات الأجنبية كما حدث في جنوب شرق آسيا منذ عقد من الزمان، أو مصادرة الودائع في البنوك الأجنبية كما يحدث الآن لكل من يخرج على بيت الطاعة الأمريكي مثل إيران بتهمة النووي، ومثل المنظمات الأهلية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة الإرهاب، أو بتدمير الآبار في حالة عدوان أمريكي إسرائيلي على إيران، والآبار في مرمى الصواريخ من كل الجهات للقضاء على قوة مالية متنامية قادرة على شراء أصول الشركات الصناعية الكبرى في مجموعة الثمانية. وبعد حصار مصر وتهديد أمنها القومي في الشمال وفي الجنوب، في فلسطين وفي السودان، يصبح الوطن العربي كله لقمة سائغة لمن يشاء القضم والهضم.
ليست مهمة المشاريع الثقافية، الترجمة أو غيرها، توزيع بعض عوائد النفط لديكور ثقافي من مظاهر الحداثة في الدولة الريعية، بل الحرص على وجود الدولة ذاتها عن طريق الأمن الثقافي. ليست الغاية من البرامج الثقافية والمهرجانات الدولية للفنون توزيع البيض الذهبي على المشاركين، بل المحافظة على الدجاجة التي تبيض ذهبا. ليس الهدف من النشاط الثقافي توزيع الألبان من البقرة الحلوب، بل المحافظة على البقرة ذاتها من الذبح أو الاستغلال في تدوير السواقي وطواحين الإنتاج الغربي. ولماذا التضحية بالآجل في سبيل العاجل؟ لماذا التضحية بالصالح العام من أجل المصالح الخاصة؟ لماذا تكون الثقافة عالمة وافدة، وليست وطنية مقاومة؟ لماذا يكون رأس المال بلا وطن وهو قادر على الحفاظ على الأوطان؟
Bog aan la aqoon