وقد يقال هنا: إن العاطفة هي الرجع الانعكاسي، ولكن قليلا من التأمل يبين أن الرجع الانعكاسي مفاجئ سريع زائل كطرفة العين عند وقوع القذى بها، ولكن العاطفة بطيئة مثابرة كما يحدث حين أرى فتاة جميلة أتأملها ثم أذكرها بعد رؤيتها بيوم أو بشهر.
وليس شك مع ذلك في أن أساس الرجع العاطفي هو الرجع الانعكاسي، ولكني في الرجع الانعكاسي أتحرك بسرعة، وأفر أو أقبل فلا أفكر، ولكني في الرجع العاطفي أتريث، وفي تريثي أجد الفرصة للرؤية والتفكير.
وصحيح أننا عندما نتأمل حيوانا حتى من الحيوانات العليا يواجه أنثى لا نعرف هل هو يستجيب إليها استجابة انعكاسية أو عاطفية، وحياتنا الحضارية قد أفسدت علينا هذا التمييز؛ لأن رجوعنا العاطفية والانعكاسية قد صارت بالحضارة معدولة، أي: مكيفة؛ أي: صارت مركبات، ولكن يجوز لنا أن نقول - دون أن نبتعد كثيرا عن الحقيقة: إنه كلما انحط الحيوان صارت مواجهته للدنيا انعكاسية؛ فإذا ارتقى صارت هذه المواجهة عاطفية تتيح ببطئها ومثابرتها شيئا من التفكير.
والمقارنة هنا تشبه المقارنة في شأن الذاكرة؛ فإن لنا ذاكرة بدائية نحس بها حين نتأمل مصباحا مشتعلا ثم نغمض العين، فتبقى صورته مائلة لا نندثر إلا بعد دقيقة أو نصف دقيقة، وواضح أن ذاكرة كثير من الحيوانات لا تزال في الغالب باقية على هذا المستوى أو تزيد قليلا، ولكن ذاكرتنا نحن قد تجاوزت هذا المستوى إلى أني أستطيع أن أدرس العلوم والفنون، وأذكر حادثا مضى عليه أربعون أو خمسون سنة.
فالذاكرة البشرية - على مثابرتها السنين الطويلة - تعود مثلا إلى الذاكرة الضفدعية أو السمكية على زوالها بعد دقيقة، وكذلك الرجع العاطفي في الإنسان يعود مثلا إلى الرجع الانعكاسي في السمك.
أجل. إن الأصل واحد، وما زلنا نتلمس هذا الأصل فنجده، ولكن ما أعظم الفرق! ثم هذا الفرق لم يعد كميا فقط، بل صار نوعيا؛ لأن الانتقال من الرجع الانعكاسي السريع الزائل إلى الرجع العاطفي المثابر الباقي قد أتاح التفكير. (3)
ثم نحن البشر نواجه الدنيا بشيء ثالث؛ ليس هو الرجع الانعكاسي، وليس هو الرجع العاطفي، بل هو الوجدان.
وهنا يثب علينا بافلوف وواطسون ويقولان: ما هو الوجدان؟ أليس هو جملة رجوع انعكاسية معدولة؟ ألغوا هذه الكلمة «وجدان»؛ لأننا ليس عندنا ما نواجه به الدنيا سوى الرجوع الانعكاسية.
ولكن هل نستطيع إلغاءها ؟
إني أؤلف هذا الكتاب الذي تقرأه بوجدان اجتماعي ثقافي، وأستطيع أن أحلل البواعث التي وصلت بي إلى مقعدي هنا أمام مكتبي، وأقف على الرجوع الانعكاسية أو العاطفية المعدولة؛ أي: المكيفة التي بعثتني على التأليف، ولكن ماذا في هذا؟
Bog aan la aqoon