أفليس يلزم القول بسبق الغايات من حيث إن الغاية تنطوي على وحدة نظامية تعين الأجزاء وتعين ائتلافها؟ إن الغاية علة حقا، بل هي علة العلل ما دامت هي التي تبعث الفاعل على الفعل، فيؤثر الفاعل في المادة أو في الصورة أو في كلتيهما. فقولنا: «إن كذا هو من أجل كذا» تعليل حقيقي له مثل ما للعلة الفاعلية من قيمة وجودية وعقلية. يعارض الحسيون الغاية بالنتيجة، وليس بين هذين المعنيين تعارض، بل من الممكن أن تكون النتيجة غاية في نفس الوقت: إذا قيل إن الساعة تقيس الزمان (لأن) أجزاءها منسقة فيما بينها، فليس للقائل أن يستنتج أن هذه الأجزاء لم تنسق (لأجل) قياس الزمان، وإذا قيل إن الطير يطير (لأن) له جناحين، وأنه حي يرزق (لكونه) محكم التركيب، فليس يمحو هذا القول السؤال عمن ركبه وأحكم تركيبه، ولم كان له جناحان، يعترف الحسيون بأن المصنوعات الإنسانية مسبوقة بصورها في أذهان صناعها وبالغاية منها. فإذا ما عرضوا للموجودات الطبيعية التي هي أيضا جميلة منسقة من الوسائل والغايات، أبوا إلا أن يعتبروها نتائج علل آلية: في أي منطق يجوز تقرير نوعين من العلية متضادين كل التضاد لتفسير شيئين متشابهين تمام التشابه، فتكون طائراتنا غائية وأجنحة الطير آلية؟
هذا هو المذهب العقلي السليم، نادى به إنكساغوراس حين قال: «هو العقل الذي رتب الكل، وهو علة الأشياء جميعا.» وسمع سقراط قارئا يقرأ هذه العبارة، فغشيته نشوة عظيمة، وراح يفكر أن جلوسه بالسجن ، مثلا، لا يعلل بحركات عظامه وعضلاته، بل باستصوابه أن يتحمل القصاص الذي استصوبت المحكمة فرضه عليه، وإلا لكانت عظامه وعضلاته حملته إلى بلد آخر. وثبت لديه أن تسميتها عللا منتهى الضلال، وأن العلة الحقة عاقلة تلحظ معلولها قبل وقوعه وترتب الوسائل إليه، فإن شيئا لا يفعل إلا إذا قصد إلى غاية، أو قصد به إلى غاية بتركيب سببها في طبيعته. والغاية لا تتمثل إلا في العقل. أما المادة فشرط للفعل، أو علة ثانوية خلو من العقل، يستخدمها العقل وسيلة وموضوعا، فليس يعلل العالم بالعناصر كعلل أصيلة، بل بعلة عليا عاقلة تسخر العناصر لغايات. واقتنع أفلاطون بهذا الرأي، وراح يبشر به في إيمان وحماسة لا مزيد عليهما، واتخذ منه أساسا أقام فوقه مذهبا كان أول فلسفة عقلية تامة المعالم، واقتنع بالرأي أرسطو، وأشاد بالعقل أيما إشادة: رفعه فوق سائر القوى الداركة، وقال: إنه أشرف جزء في الإنسان، وإن فعله ألذ فعل لأنه تصور الأمور الجميلة الإلهية، بل هو السعادة القصوى، والإنسان لا يحيا على هذا النحو بما هو إنسان، بل باعتبار أن فيه شيئا إلهيا. وهذه القضية النظرية تستتبع نتيجة عملية يعبر عنها الفيلسوف بقوله: «فلا ينبغي اتباع الذين يحثوننا على أن نفكر أفكارا إنسانية لكوننا أناسي، وأفكارا فانية لكوننا فانين، بل يجب أن نعمل كل ما في الوسع لكي نحيا وفقا لهذا الجزء الذي هو أشرف قوانا، فلئن كان صغير المقدار فإنه يعلو على سائر الأجزاء علوا كبيرا قوة وكرامة.»
34
فما أشد الأسف لانحراف الفلاسفة عن هذا الطريق الملكي، وسلوكهم طرقا ملتوية مظلمة لا منفذ لها إلا إلى الإخفاق في تفسير الوجود وفي تدبير الحياة. وهذا الكتاب شاهد على أنهم كثير، وأن الفلسفة لتبدو في معظمها - إن لم نقل في كلها - مشبعة بالشك والإنكار، حتى لقد يظن بنا الكثيرون لأول وهلة قسطا كبيرا من التفاؤل أو السذاجة لمعارضة الشك ومناصرة اليقين، لكنا نأمل أن يقتنعوا بأدلتنا، فيستنير وجه الفلسفة في نظرهم، ويحل الإيمان في قلوبهم، ويفرحوا بالعقل أعظم فرح.
Bog aan la aqoon