هل نقول إن تمايزا بين الماهية والوجود يظهر في الصورة العرضية من حيث إنها طائرة على الجوهر مفارقة له أو قابلة للمفارقة؟ كلا، فإن اتحادها بالجوهر كاتحاد الصورة الجوهرية بالمادة، فيظل الجوهر واحدا تمام الوحدة، وإن تمايز العرض من الجوهر ففي الذهن فقط لا في الوجود الواقعي.
ومنذ القرن الثاني للميلاد حمل المفكرون المسيحيون على مقدمات الفلاسفة اليونان ونتائجها. فقد قرأوا في مفتتح سفر التكوين الذي هو مفتتح التوراة: «في بدء خلق الله السماوات والأرض»، فعرفوا أن الله خالق الأشياء، أي موجدها مادة وصورة، وموجدها بعد أن لم تكن موجودة. وقرأوا في سفر الخروج (الفصل الثالث، الآية 14) أن موسى التمس من الله أن يفصح له عن اسمه كي يبلغه إلى بني إسرائيل فقال الله: «أنا الموجود، كذا قل لبني إسرائيل: الموجود أرسلني إليكم.» وقرأوا في سفر ملاخي (الفصل الثالث، الآية 6): «قال رب الجنود (السموية): أنا هو الرب ولا أتغير.» وقرأوا في آيات أخرى كثيرة عن الله وصفاته، فعلموا أن الله واحد ليس غير، وأنه هو الموجود الوحيد القيوم الذي وجدوه بذاته، وما عداه فوجوده به، وأنه ثابت لا يطرأ عليه تحول، وما عداه هو الذي يعتريه التحول، فكان الثبات أخص صفات الله في نظرهم، وكانت الصيرورة أخص صفة للمخلوقات. ولقد ألحوا في تأييد هذه المعاني وفي نقد الآراء اليونانية، وكان القديس أوغسطين (354-430) أبرعهم تأييدا وأشدهم نقدا.
وجاء بويس (470-525) فتعمق المسألة لتحديد وجه التمايز بين الله والمخلوقات، فرآه في بساطة الله وتركيب المخلوقات، وبين ذلك تبينا غدا معه هذا التمايز مرعيا في علم اللاهوت من عبده، قال: «الجوهر الإلهي صورة من مادة، ومن ثمة هو واحد (غير مركب في ذاته)، وهو ما هو أي عين ماهيته، وسائر الموجودات ليست هي ما هي أي عين ماهيتها؛ لأنها مركبة، كتركيب الإنسان مثلا من نفس وجسم، فليس الإنسان أحد هذين الجزأين دون الآخر، وإذن فمن وجه ليس هو ما هو.» في هذا النص الملخص لرأيه لا يظهر أن الوجود مقصود كجزء من مركب، وإنما المقصود الماهية المركبة في ذاتها المتمايزة (باعتبارها ماهية تامة) من أي جزء من أجزائها. فقوله: إن الجوهر المخلوق ليس هو ما هو، يعني أنه لا يتوحد مع الصورة التي تجعله ما هو، وأنه معروض لأعراض تزيد في تركيبه، وليس الوجود مذكورا بين هذه الأعراض. والوحدة التي يثبتها الله هي توحد الجوهر الإلهي مع الصورة أو الماهية الإلهية. والتمايز الذي يضعه في المخلوق تمايز بين الجوهر والصورة.
ثم كانت للمفكرين الإسلاميين جولات في هذا المضمار، فقد قرأوا أيضا أن الله خالق وأنه هو القيوم. ففهم المتكلمون منهم أن العالم حادث أوجد بعد عدم، واستنتج فريق منهم أن وجود المخلوق غير ماهيته»؛ قالوا: «إن وجود السواد زائد على كونه سوادا، وإنه يجوز خلو تلك الماهية من صفة الوجود، وإن المعدومات الممكنة قبل دخولها في الوجود ذوات وأعيان وحقائق، وإن تأثير الفاعل ليس في جعلها ذوات، بل في جعل تلك الذوات موجودا.»
17
وفهم الفلاسفة منهم أن الخلق لا يستلزم أزلية العالم ، وأزلية العالم لا تغني عن علة أزلية؛ إذ إنه ممكن، وإن الوجود الممكن علة لا محالة. فقال ابن سينا: كل وجود فإما واجب وإما ممكن، ووجود كل ممكن الوجود هو من غيره، وليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية، بل إن الممكنات تنتهي إلى علة واجبة الوجود؛ فوجود الممكن في الأعيان أو في الأذهان معنى مضاف إلى حقيقته.
18
وقد غلا ابن سينا في التمييز بين الماهية والوجود حتى جعل من الوجود في الموجود الممكن عرضا للماهية.
وقد عارض ابن رشد هذه النظرية معارضة شديدة. إنه لم يعن بمعالجة المسألة بأطرافها دفعة واحدة، ولكنه عرض لها كلما سنحت له الفرصة، وفي كل مرة يعنف صاحبها تعنيفا أليما. قال: «العدم ليس فيه إمكان أصلا.»
19
Bog aan la aqoon