وثمة مبدأ رابع يبرز من النظر في شرط وجود الموجود، وصيغته: أن «كل ما يوجد فله ما به يوجد»، أي: «فلوجوده سبب»، وهذا مبدأ السبب الكافي يتفرع إلى فرعين: أولهما السبب الذاتي، والثاني السبب الخارجي. فالذاتي هو ماهية الموجود نفسه أو تكوينه الذي متى يحلل يكشف عن عناصره وائتلافها، فيكشف عن إمكانه ويجعله معقولا. والسبب الخارجي هو العلة الموجودة للموجود، أو المغيرة إياه من حال إلى حال: وهذا المبدأ العلية بالمعنى الدقيق، وصيغته: أن «كل ما يظهر للوجود فلوجوده علة». وهو يطبق على الموجود بالفعل، بينما السبب الذاتي يتناول الممكن أيضا.
وخامسا وأخيرا حين نتأمل في العلة الموجدة هذه نرى أنها إذا أوجدت معلولها توخت غاية، وإلا لما كانت خرجت عن سكونها. وهذا مبدأ الغائية، وصيغته: «كل ما يفعل فهو يفعل لغاية» أو «كل فعل لازم عن غاية». (2) قيمة المبادئ
هذه المبادئ بينة بذاتها: فإن موضوعها هو الوجود أول المعاني وأبينها على الإطلاق، ومحمولها هو الوجود كذلك. وهي كلية: فإنها تنطبق على كل وجود سواء في الذهن وفي الخارج، وهي حاصلة في العقول جميعا تطبقها صراحة أو ضمنا وتتصرح المعرفة الضمنية بالإنكار والتناقض؛ فإنك إذا سألك الطفل: من أوجد هذا الشيء؟ فأجبته: إن الشيء أوجد نفسه، لأثرت فيه الدهشة وعدم التصديق ونبهت فيه مبدأ العلية. في صادقة ضرورية يمتنع تصور نقائضها، ويمتنع البرهان عليها برهانا مستقيما لعدم وجود حد أوسط أبين منها نبرهن به، وهي لبيانها غير مفتقرة لبرهان. وإذا أنكرها منكر فيقام ضده برهان الخلف أو التناقض الذي يقضي بتعطيل الفكر. فهي تفرض نفسها على العقل، لا كقوة قاهرة أو كضرورة ناشئة من تركيب العقل، بل كنور يسطع. ونحن نبين هنا ماهية مبدأ الذاتية، وماهية مبدأ عدم التناقض، ولما كان ما يقال عن هذا المبدأ الثاني ينسحب على مبدأ الثالث المرفوع فلا نعيد القول، ونرجئ الكلام على مبدأ العلية الفاعلية ومبدأ الغائية إلى مكانها من هذا الباب، فنقول:
يرى البعض أن مبدأ الذاتية ليس مبدأ، وذلك لأنه عبارة عن تكرار الموضوع بالمحمول، فلا يعد حكما لأن الحكم يقتضي اختلاف حديه مفهوما وإن اتحدا ذاتا، وبهذا الاختلاف يزيد المحمول في علمنا بالموضوع، وبدونه يجيء مبدأ الذاتية من قبيل تفسير الماء بالماء، كما يرى في قول بارمنيدس: «الوجود هو الوجود، واللاوجود هو اللاوجود.» قد يبدو هذا صحيحا لأول وهلة، ولكن إذا اعتبرنا قصد العقل في صوغ المبدأ وفي تطبيقه اتضح لنا أنه حكم ومبدأ حقا، وقصد بارمنيدس توكيد الوجود ووجوب التمييز بينه وبين اللاوجود ضد هرقليطس الذي كان يخلط بينهما بقوله بالتغير المتصل حيث تختلط الأضداد وتمحى الفوارق، ولو كان مبدأ الذاتية مجرد تكرار لما أنكره منكر، وإنما هو معرفة تثبت أو تنفى. وقصد العقل في قولنا مثلا: «المادة هي المادة والروح هي الروح»، أن كل موجود فهو ماهية معينة، وأن لكل من المادة والروح خصائص تعينها فلا نخلط بينهما، كما يفعل الماديون إذ يردون الروح إلى المادة، أو التصوريون إذ يردون المادة إلى الروح. وكذلك حين نقول: «الخير هو الخير والشر هو الشر» لبيان تغايرهما ووجوب تمييز أحدهما من الآخر. أو نقول: «الله هو الله» أو «لا إله إلا الله»، نريد أن الله هو ما هو وليس ما يظنه الذين يضلون في حقيقته . وغير ذلك كثير جدا. وكم ذا يثور من المناقشات من جراء الخلط بين الأشياء أو بين المعاني، أي لعدم مراعاة مبدأ الذاتية. ليس المحمول فيه تكرارا للموضوع إلا لفظا وظاهرا، وإنما هو في الحقيقة يشير إلى تعريف الموضوع بما يخصه من خصائص ويعصم من الغلط فيه.
ومبدأ عدم التناقض أثيرت ضده أيضا إشكالات: فقديما قيل إن هرقليطس زعم أن أي شيء فهو موجود وغير موجود في نفس الوقت. ولعله لم يرد إنكار هذا المبدأ، وإنما أراد أننا لا نكاد نثبت شيئا حتى يكون قد تغير أو زال من الوجود، بحيث إن اللحظة التي نثبته فيها تحويه ولا تحويه، فيكون ولا يكون، لكن لا في آن واحد بالذات. وهذا معنى مقبول، على أن هجل قصد إلى إنكار المبدأ، فقال: إن معنى الوجود أعم معنى، ولذا فهو أقر معنى من حيث خلوه من كل تعيين، وما كان خلوا من كل تعيين فهو لا وجود. أو إذا وضعنا هذه الحجة في شكل قياسي صارت هكذا: مطلق الوجود غير معين، وغير المعين لا وجود مطلق، وإذن فمطلق الوجود لا وجود مطلق. ولكن من اليسير أن نرى أن الحد الأوسط، وهو قوله: «غير معين»، مأخوذ بمعنيين: ففي المقدمة الكبرى يدل فقط على غض النظر على التعيين، أي على تجريد معنى الوجود من الموجودات المعينة في الواقع، والتي لا توجد إلا معينة، وفي الصغرى يدل على نفي الموجود نفسه الذي هو محل التعيين.
1
فلم يزعزع هجل مبدأ عدم التناقض، ولكنه هو الذي ناقض نفسه وبنى مذهبه بالجملة على هذا التناقض الأول.
وقد ادعى ستوارت مل أن من ألف التحليل والتجريد لا يتعذر عليه، أن يروض ذهنه على تصور نقائض المبادئ الأولى، وأن يصدق أن الأمور قد تجري في كوكب آخر صدفة وعلى غير قانون. ولكنها دعوى وحسب، فنحن لا يتعذر علينا أن نتصور نقيض قانون علمي، ويمتنع أن نتصور نقيض مبدأ أول، فهذا الامتناع لا يرجع إلى عادة فكرية، بل إلى الرباط الضروري بين حدي كل من المبادئ الأولى، وهو رباط لازم من معنى الوجود وعائد إليه، كما بينا كيف يمكن أن يقوم في الوجود ما يتنافى في الذهن. إن الذهن يأبى إباء فطريا حاسما أن يصدق بإمكان التناقض؛ وذلك لأنه يرى بداهة أن الموجود يفقد في هذه الحالة ما يجعله يوجد، أعني مطابقته لذاته، فلا يوجد. فالمبادئ الأولى قائمة، لا لأننا نتصورها، ولكننا نتصورها؛ لأنها ماثلة في كل شيء.
هذا وقد نشب خلاف على ترتيب المبادئ الأولى: هل تعود الأولوية إلى مبدأ عدم التناقض كما ارتأى أرسطو
2
Bog aan la aqoon