5
وعلى ذلك فاتجاه العقل ونوع الاستدلال الذي يقوم به يختلفان في الاستقراء عنهما في القياس، ولا يمكن رد الاستقراء إلى القياس ولا رد القياس إلى الاستقراء، كأن كل ما هناك طريق واحد ينعكس قطعه. (2) المذهب الحسي والاستقراء
بعد هذا البيان لطبيعة الاستقراء والإيضاح لمبدئه، لم تعد هناك حاجة في واقع الأمر لذكر المذهب الحسي، ولا سيما أن رجاله لا يجيئون بشيء جديد في هذه المسألة. إن موقفهم فيها بسيط كل البساطة، لما كانوا ينكرون وجود المعنى المجرد في العقل، والماهية الثابتة في الأشياء ، فإنهم لا يقبلون سوى الاستقراء التام، ولا يعتبرونه إلا كمجموع، ولا يؤمنون بالمجموع إلا إلى وقت لاعتقادهم أن التجربة غير مضبوطة بمبادئ أو قوانين، وأنها «مفتوحة دائما» قد تلد كل عجيبة. وإذن فليكن الاستقراء مجرد توقع آلي أو مجرد عادة يولدها التكرار، فنعتقد أن المستقبل سيكون شبيها بالماضي، ونتدرج في اعتقادنا بقيمة الاستقراءات من أضعف احتمال إلى الأشد فالأشد كلما تكاثرت التجارب المؤيدة لها ولم تعارضها تجربة واحدة. وهكذا نعود إلى تداعي الصور الذي ذكرناه عنهم في الفصول السابقة، فإنه ابتكارهم الأوحد وتكأتهم الفذة.
أما أن تداعي الصور يولد في الحس الباطن توقعا آليا؛ فهذا أمر معلوم، وقد أشار إليه ابن سينا في النص الذي اقتبسناه منه، بعد أن أشار إليه أرسطو في نهاية «التحليلات الثانية». ولكن هناك توقعا عقليا أشار إليه أيضا، وهو يستند على مبدأ كلي يغني عن تكرار التجارب أو لا يدع لهذا التكرار من قيمة سوى قيمة الدليل الظاهري. وإنا لنسأل الفلاسفة الحسيين: أليس يتعين تفسير التكرار أو الاطراد؟ وماذا عسى أن يكون تفسيره سوى أن الطبيعة خاضعة لقوانين؟ وعلام يدل تحقق توقعنا إن لم يدل على أن بين العقل والطبيعة توافقا وانسجاما؟ وكيف يستسيغوا أن يمجدوا الصلة الجوهرية بين المحمول والموضوع في القضية الاستقرائية وأن يردوا العلية إلى مجرد علاقة تعاقب، على حين أن أساطينهم واضعي مناهج البحث العلمي - كما يدعون - يعترفون بأن الغرض من هذه المناهج عزل «المقدم الضروري الكافي» من بين سائر المقدمات، واعتباره علة لتال معين بسبب ما ظهر من اتفاقهما في الحضور والغياب ودرجة التغير. ماذا عسى أن يكون المقدم الضروري الكافي إلا أن يكون هو العلة؟ وماذا عسى أن يكون مثل هذا الاتفاق بين المقدم والتالي إلا أن يكون صلة جوهرية؟ إن الفلاسفة الحسيين ليذعنون لهذه البديهيات في قرارة أنفسهم، وإنهم ليعلمون أن الواحد منا ومنهم متى وقف على العلة التي يبحث عنها أيقن بها لفوره دون انتظار تأييد مستقبل ودون تدرج في الاحتمال. ولكن اقتناعهم بمبدئهم يصرفهم عن الإذعان الصريح المطرد ويدفع بهم إلى العناد واللجاج.
إلى هنا نقف الحديث مع الحسيين ريثما نستأنف في مواضع أخرى، فقد قصرنا غرضنا في هذا الباب على تحليل أفعال العقل وبيان أصالتها، ومن ثمة على إثبات وجود العقل، وبقي علينا الفحص عن مسائل كثيرة. وللحسيين في كل مسألة رأي، وإن تكن آراؤهم فطرية هزيلة من الطراز الذي عرفناه للآن، وقد نجمل تهافت مذهبهم بقولنا: إنه من الجهة الواحدة يزعم مشايعة التجربة ومتابعة الواقع المحسوس، ومن الجهة الأخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضرورتها، فيدع العلم بلا سند.
الباب الثاني
نقد العقل
الفصل الأول
الشك واليقين
(1) مذهب الشك
Bog aan la aqoon