وتجتنب الفتاة الدنماركية تعقب كنديد لها بعض الزمن أيضا، وبينا كان يتنزه ذات يوم بخطا واسعة في حديقة مضيفيه إذ صرخ عن وجد غرامي قائلا: «آه! لو كانت عندي كباشي التي أتيت بها من بلد إلدورادو الصالح! لم أعجز عن شراء مملكة صغيرة؟! آه، لو كنت ملكا! ...»
ويقول صوت يصمي قلب فيلسوفنا: «ما تجعلني؟»
ويقول كنديد راكعا: «أنت هنا يا زنوئيد الحسناء! كنت أظنني وحدي، إن ما نطقت به من كلام قليل يضمن لي السعادة التي أصبو إليها كما يلوح، لن أكون ملكا، ولا غنيا على ما يحتمل، ولكن لو تحبينني ... لا تحولي عني هاتين العينين المملوءتين فتونا، فلأقرأ فيهما اعترافا يستطيع وحده أن يشفي غلتي، أي زنوئيد الحسناء، أعبدك، فافتحي باب الرحمة من فؤادك ... ما أرى؟ أنت تسكبين دموعا! آه! إنني سعيد جدا!»
وتقول زنوئيد: «أجل، إنك سعيد، ولا شيء يلزمني بكتم حناني عمن أعتقد أنه أهل له، إنك لم ترتبط في مصيري حتى الآن إلا بروابط إنسانية، وقد حل الوقت الذي نوثق فيه هذه الروابط بروابط أقدس منها، وقد استشرت نفسي، وعليك أن تنظر في الأمر مليا من ناحيتك، فتمثل - على الخصوص - كونك - إذا ما تزوجتني - ألزمت نفسك بحمايتي، وبتخفيف بؤسي الذي لا يزال الطالع محتفظا لي به على ما يحتمل، ومقاسمتي هذا البؤس.»
ويقول كنديد: «أتزوجك! تدلني هذه الكلمة على الغفلة في سلوكي، آه! يا معبودة حياتي العزيزة، إنني لا أستحق كرمك، فلم تمت كونيغوند ...» - «ومن كونيغوند؟»
ويجيب كنديد بسذاجته المعهودة: «إنها زوجتي.»
بقي العاشقان بضع دقائق صامتين، وكانا يودان الكلام، فيتلاشى الكلام على شفاههما، وتغرورق أعينهما، ويمسك كنديد بيديه يدي زنوئيد، ويشدهما على فؤاده، ويلتهمهما تقبيلا، ويجرؤ على وضع يديه فوق صدر خليلته، ويحس أنها تتنفس بصعوبة، ويطير روحه إلى فمها، ويلصق فمه بفم زنوئيد، فيعود بذلك وعي الدنماركية الحسناء إليها، ويظن كنديد أنه يبصر عفوها مكتوبا على عينيها الجميلتين، وتقول له: «أي عاشقي العزيز، إن كدري يدفع ما يسمح به فؤادي من هياج دفعا سيئا، قف إذن، فأنت تضيعني في نظر الناس، وستكون قليل الحب لي إذا ما صرت هدف ازدرائهم، قف واحترم ضعفي.»
ويقول كنديد صارخا: «كيف! ذلك لأن العامي الغبي يقول: إن فتاة تهتك سترها بجعلها سعيدا من تحبه ويحبها، وذلك بسلوكها سبيل الطبيعة الناعم الذي هو في أيام الشباب ...»
ولن نروي جميع هذا الحديث الممتع، وإنما نكتفي بأن نقول: إن بلاغة كنديد التي زخرفت بتعابير الغرام، كان لها أبلغ أثر مأمول في فيلسوفة فتاة حنون.
ولسرعان ما تحولت إلى نشوة دائمة أيام هذين العاشقين التي قضيت في الماضي بين الهم والسأم، فتجري في عروقهما عصارة النعيم اللذيذة، ويحملهما سكون الغاب، والجبال المكسوة بالعوسج والمحاطة بالهوى، والسهول الجامدة والحقول القاحلة المجاورة، على الاعتقاد التدريجي بتحابهما. أجل، لقد عزما على عدم ترك هذه العزلة الهائلة، غير أن القدر لم يتعب بعد من اضطهادهما، كما نرى ذلك في الفصل الآتي.
Bog aan la aqoon