أجل، لقد أذعن الابن وتظاهر بالعمل في مكتب لأحد المحامين.
ويبلغ فولتير الثالثة والعشرين من سنيه، وتنشر أهجوة عن الوصي على العرش وتعزى إلى فولتير على غير حق، فيعتقل في الباستيل حيث قضى أحد عشر شهرا، وحيث عزم على تغيير اسمه، فلما خرج من الباستيل عرف بفولتير بعد أن كان يعرف باسم أسرته أرويه كما قدمنا.
وليست هذه المرة وحدها هي التي يزج فيها بفولتير في الباستيل، فبعد ثمانية أعوام من ذلك التاريخ أهانه أحد الأشراف، الفارس دوروهان، وأرسل من الأجراء من يضربونه بالعصي، ويدعو فولتير دوروهان إلى المبارزة، ويرضى هذا الشريف الفارس بما دعاه إليه فولتير، ولكن فولتير يقابل بالاعتقال في الباستيل في صباح اليوم المعين للمبارزة بدلا منها، ويقضي في هذا المعتقل نصف عام، فلما خرج من الباستيل هاجر إلى إنكلترة حيث أقام ثلاث سنين (1726-1729).
وقد تعلم فولتير الإنكليزية في أثناء إقامته بإنكلترة، واتصل بعلية القوم اتصالا وثيقا، وأعجب بالدستور الإنكليزي وبتسامح الإنكليز الديني وحريتهم السياسية أيما إعجاب، وكان لأخلاق هؤلاء الناس وعاداتهم بالغ الأثر فيه.
ويعود إلى باريس حاملا في ذهنه كثيرا من المشاريع في الحرية السياسية والإصلاحات الدينية، فينشر في سنة 1734 كتابه «الرسائل الفلسفية» أو «الرسائل الإنكليزية»، حيث أثنى على نظام ذلك البلد، فقال: «إن أميره البالغ القدرة على صنع الخير مقيد اليدين في صنع الشر.»
وفي هذا الكتاب يعرض فولتير نظريات الفيلسوف الإنكليزي لوك، ويحمل حملة شعواء على الاستبداد والتعصب الديني وسلطان الإكليروس، فيعد هذا الكتاب هداما، فتقضي المحكمة العليا (البرلمان) بجمع نسخه وإحراقها «لمخالفته للدين وحسن الأخلاق»، ويؤمر باعتقال فولتير، ولم ينج من السجن في الباستيل للمرة الثالثة إلا بالفرار، ويقضي عاما في دوكية اللورين المستقلة، ثم يلغى أمر اعتقاله، وتطلق له حرية العود إلى باريس (1735).
وبعد عام - أي: في سنة 1736 - يتلقى أول كتاب من ولي عهد بروسية: فردريك، وتكثر المراسلة بينهما، وينادى بفردريك ملكا لبروسية، ويحاول اجتذاب فولتير إليه في بوتسدام، وهو لم يجب فردريك الأكبر إلى طلبه إلا في سنة 1750، ففي هذه السنة غادر باريس إلى برلين حيث أقام ثلاث سنين، وقد أجرى فردريك الأكبر عليه راتبا سنويا في هذه المدة.
وما كان فردريك ليقتصر على صلته الأدبية بفولتير مع ما كان يحبوه به من رعاية شاملة، وما كان فولتير ليطيق مساواة أحد به في الحظوة لدى ذاك العاهل، فيضيق كل منهما بصاحبه ذرعا، وأخيرا يبلغ تشبيه فردريك له بالبرتقالة التي تعصر فيطرح قشرها، فيجيب فولتير عن هذا بأنه ما فتئ يزيل الأقذار عن ثياب فردريك، ويترك فولتير بوتسدام في سنة 1753.
وكان فولتير قبل سنة 1735 يعد من ذوي النباهة فقط، فلا يحسب من ذوي الخطر، ولا ينظر إليه بعين الجد. وأما في السنين العشرين التي عقبت سنة 1735 فكان من سماته البارزة أنه مدون لوقائع لويس الخامس عشر بفرساي، وضيف كريم لدى فردريك الأكبر، مع محاولته تمثيل دور سياسي عنده.
وقد عني فولتير في هذا الدور من حياته بالعلوم والتاريخ والروايات المسرحية على الخصوص، فلم يبلغ الستين من عمره حتى كان مخرجا للناس كتب «عصر لويس الرابع عشر»، و«الطبائع والأخلاق»، و«الروايات».
Bog aan la aqoon