Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
وهكذا قل في كل كاتب وكل شاعر وكل عازف وكل مغرد بالغناء، وكل فنان على اختلاف ألوان الفن، الإنتاج يتم في موضع يختاره الإلهام من الوطن العربي، والتلقي يكون في ذلك الوطن العربي كله دفعة واحدة؛ فحياتنا الثقافية لم تعرف التجزؤ والانقسام، لا قديما ولا حديثا، برغم ما قد يحدث بين الدول من خلاف ربما بلغ حد الصراع وحد القتال، إننا أمة واحدة في الثقافة، وبالثقافة هل رأيت عربيا واحدا يرضى ألا يكون المتنبي أو المعري شاعره؟ إنه لمن أقوى علامات الانتماء القومي أن يشعر الأفراد بالفخر لكونهم مع شاعر عظيم أو فنان نابه، أو مفكر موهوب، في وطن واحد، وهنا لا بد لنا من التفرقة بين أن تعرف لشاعر معين - مثلا - عظمة قدره وهو من أبناء أمة أخرى غير الأمة التي تنتسب إليها وبين أن تشعر ب «الفخر» نحوه، فالعربي المثقف يعرف لشكسبير قدره لكنه لا «يفاخر» به أحدا، لكنه إذ يعرف قدر أبي العلاء المعري فإنه يضيف إلى تلك المعرفة شعورا بالفخر أنه هو والمعري منتميان إلى أمة واحدة، وبناء على هذا المقياس - وهو مقياس قوي على بساطته - تستطيع أن ترى وحدة الأمة العربية في ثقافتها وبثقافتها، حين ترى أبناءها يفاخرون الغرباء بمن ينبغ من العرب - قديما أو حديثا - بغض النظر عن موضع ولادته في أي قطر كان ذلك الميلاد من أقطار الوطن العربي الكبير، وإذا كان شعور الإنسان بالفخر دليلا على انتمائه إلى الوطن الذي يجمعه مع من يفخر به، فكذلك يكون شعور الإنسان ب «الخجل» من شائنة اقترفها إنسان آخر يجمعهما معا وطن واحد؛ لأن مرتكب الشائنة إذا كان من أهل غير أهلنا ذممناه ذما لا يخالطه «خجل»، وأما مرتكب الشائنة من أهلنا فنذمه ونخجل بسببه أمام الآخرين، ومن هنا ترى العربي من أي قطر كان يهتم ذلك الاهتمام الخاص بما يقوله أو ما يفعله ذوو الشأن في قطر عربي آخر؛ لأن شعوره بالقوة التي يفاخر بها، وشعوره بالخذلان الذي يخجل له، مرهونان كلاهما بكل ما يحدث في أرجاء الوطن العربي الكبير.
وجاء يوم الجائزة التقديرية للثقافة العربية في اليوم العشرين من شهر ديسمبر 1984م، فلم أملك إلا أن أكون صادقا في الكلمة القصيرة التي استوجب الموقف أن أرتجلها ارتجالا، فلقد كنت أعلم من قبل أنني سألقي محاضرة عامة في اليوم التالي ليوم الاحتفال، ولكنني ظننت أن برنامج الاحتفال لم يشتمل على كلمات تلقى، أقول إنني لم أملك إلا أن أكون صادقا فيما قلت عن «أمتي» العربية، حتى في تلك الكلمة الموجزة المرتجلة، وذلك لأنها «أمتي»، وإني لأعرف ما لأمتي العربية الإسلامية من عظمة ومجد، لكنني كذلك لا أغمض عيني عما يعتورها من أوجه القصور والتقصير بالنسبة إلى عصرنا الذي نعيش فيه حياتنا، ولقد آثرت في معظم ما كتبته أن أعزف لأمتي على أوتار الغضب، ومن هنا جاءت دهشتي حين علمت بنبأ الجائزة، فلو كنت ممن اختاروا فيما يكتبونه عن أمتنا العربية طريق الإعلان عن عظمتها ومجدها - وإنها حقا لجديرة بمن يعلن لها عن ذلك - لكان من الجائز أن يقول قائل عن ذلك التكريم الذي كرمتني به أمتي العربية إنهما طرفان تحابا فأخذا يتقارضان الثناء، فالكاتب يمدح والأمة تكافئ! لكن أمري لم يكن كذلك في الكثرة الغالبة مما كتبته؛ لا لأني أجهل جوانب تلك العظمة وهذا المجد، بل لأني كنت أشد حرصا على إبراز مواضع التقصير لعلنا نلحق بمواضع الريادة من ركب الحضارة كما عودنا التاريخ وعودناه، لقد جاء الشطر الأعظم من كتابتي أقرب إلى لذعات الضمير تريد للأمة أن تصحو بوعي أشد يقظة لما حولها، كانت قيثارتي التي عزفت عليها من غضب وكان لحنها من نار! إنني لم أكتب سطرا واحد ليكون لي مصدر رزق أعيش منه وأحيا به! بل كتبت ما كتبته بصدق المؤمن الذي عاهد نفسه ألا يتملق أحدا في الحق! ومع ذلك فقد يخطئ الهدف، لكنه عندئذ يكون خطأ بريئا من الخبث والخسة وموت الضمير، فقدمت لي الأمة العربية جائزتها الرفيعة لأول مرة في تاريخ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فعاهدتها على رءوس الأشهاد أن أرد لها ذلك الفضل العظيم، بالمضي فيما كنت ماضيا فيه أكثر من خمسين عاما، وهو أن أكون لها ذلك الضمير اللاذع الذي كنته، وأن أظل عازفا لها على القيثارة التي عزفت عليها طوال تلك السنين وإنها - كما قلت عنها - لقيثارة من غضب وإن لحنها لمن نار .
وكان اليوم التالي لاحتفال الجائزة موعدا للمحاضرة العامة المقرر إلقاؤها، وقد اخترت لها أن تكون عن الخاصة الرئيسية التي أراها مميزة لجوهر الثقافة العربية، لكنني كنت أستهدف بها أن يتبين من خلال الصورة المعروضة وجه القصور في تلك الثقافة إذا ما واجهنا بها العصر الحاضر بظروفه الجديدة دون أن نضيف إليها ما تقتضي هذه الظروف إضافته! وفي قاعة كبيرة مدرجة المقاعد مزدحمة بالحاضرين أخذت ألقي في أنفاس هادئة حديثا أصور به الملامح التي أردت تصويرها، وكان محورها الرئيسي هو أن العربي مهيأ بحكم رؤيته التي طبعته بها طبيعة الصحراء - والصحراء هي بيت العربي من الخليج إلى المحيط - ولا ينفي ذلك أن تتناثر على ذلك الامتداد الصحراوي العظيم مساحات خضراء هنا وهناك، بما في ذلك وديان الأنهار، أقول إن العربي مهيأ بحكم تلك الطبيعة الصحراوية لأن يتعلق بما هو ثابت ودائم ومطلق؛ إذ هي صفات توحي بها الصحراء، وأما ما هو متغير وزائل من الكائنات والأحداث التي تمر عابرة فوق ذلك المسرح السرمدي الصامد، فهي عند العربي ضرورات عيش لا تستحق أكثر من أن تنزل من نفسه منزلة متواضعة، وبمقدار ما يكون الشيء أو الموقف مؤديا إلى خلود الثابت الدائم المطلق تكون قيمته.
وعلى هذا المرتكز أقيم الفكر العربي في شتى جوانبه، بل وأقيمت كذلك تصورات الأدب والفن، ففي كل هذه المجالات التي تولد فيها الحياة «الثقافية» وتنمو وتثمر ثمارها، يحرص العربي على أن يكون في خلفية فكره وإبداعه مبدأ له ثبات ودوام، وانظر إلى كلمة «مبدأ» نفسها لتدرك حقيقة ما تعنيه، فالمبدأ «لغويا» هو حيث يبدأ السير لمن يريد لنفسه الحركة، وهكذا أيضا تكون «المبادئ» في حياة الفكر والإبداع، فلا يصح فكر عند العربي إلا إذا انبثق من «مبدأ» ولا يسمو إبداع في أدب أو في فن إلا إذا كان وراءه «مبدأ » يستند إليه، ولعلك قد رأيت أو سمعت علماء العرب إذا ما عرضوا فكرة أو حكما في مسألة أخلاقية أو أدبية أو غير ذلك؛ كيف يحرصون على أن يتعقبوا «إسنادها» إلى الأصل الذي تستند إليه، أي المبدأ الذي ترتكز عليه أو تنبثق منه، فذلك واضح في الأحكام الشرعية وفي الأحكام اللغوية، وهو أيضا قائم في مجال الإبداع الأدبي، وإن يكن يحتاج إلى شيء من التحليل ليظهر في وضوح، فقد كان الشاعر يقاس إلى نماذج القدماء إذا أراد الناقد تحديد رتبته بين الشعراء، فتلك الرتبة تعلو أو تنخفض بمقدار ما اقترب الشاعر أو ابتعد عن نماذج الشعر القديم، ومن هنا جاء مبدأ «عمود» الشعر، وذلك حين أخذ الشعراء فيما بعد ينحرفون عن تلك النماذج، فأقيم عمود الشعر أمام أبصارهم ليحتذوه، وليس ذلك العمود بمقتصر على أن يكون للقصيدة وزن وقافية - كما هو شائع بين نقاد الأدب في يومنا هذا - بل هو يمتد ليشمل صفات أخرى كذلك واجبة، وأظنها تبلغ في عددها سبعا، ذكرها المرزوقي في مقدمته التي قدم بها شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام.
وإنك لتلحظ فرقا واضحا بين الفلاسفة العرب الأقدمين وبين فلاسفة أوروبا ابتداء من اليونان القديمة؛ إذ ترى الفلاسفة العرب لا يقيمون بناءاتهم الفلسفية وكأنهم يقيمونها من إبداع عقولهم، بل هم يرتكزون في عملهم على «نصوص» يبدءون منها، فهنالك النصوص الإسلامية من جهة (وأعني القرآن الكريم بصفة خاصة)، ثم هناك النصوص التي ترجمت بها الفلسفة اليونانية من جهة أخرى، ومن هذه الأصول يبدأ الفيلسوف العربي سيره الفكري.
لكننا إذ نقول عن العربي إنه مهيأ للاستناد في تفكيره إلى «مبدأ» أو أصل يتصف بالثبات والدوام؛ فلا بد أن يرد إلى أذهاننا تساؤل وهو: ألم يكن مفكرو اليونان كذلك يقيمون بناءاتهم الفكرية على «مبادئ»؟ وإذا كانوا قد فعلوا، فما الفرق إذن بين عربي ويوناني في هذه الخاصة؟ وهنا سرعان ما نجد الجواب الذي يفرق بين الحالتين، فبينما يكون المبدأ عند اليوناني من افتراض العقل حتى لقد تتعدد المبادئ بتعدد الفلاسفة في العصر الواحد، يكون المبدأ عند العربي إما وحيا في مجال القصيدة، وإما موروثا من الآباء في سائر المجالات، مما لا سبيل فيه إلى اختلاف بين مفكر ومفكر آخر من أبناء العصر الواحد.
وها هنا نأتي إلى أهم نقطة نريد إبرازها في طبيعة الرؤية العربية لنبني عليها نتيجتنا الختامية، وتلك هي أن تاريخ الفكر البشري قد شهد ثلاثة أنماط ثقافية، أحدها هو ما ظهر أساسا في الشرق الأقصى وهو نمط طابعه الإدراك الصوفي المباشر، وثانيها هو ما ظهر عند اليونان (وفي الغرب بعد ذلك) وطابعه الإدراك العقلي الذي يستند إلى استدلال للنتائج من المبادئ، وأما ثالثها فهو ذلك الذي نرى أنه قد تميزت به الأمة العربية، وهو الاشتمال على نوعي الإدراك في وقت واحد، فهو قادر على الرؤية الوجدانية المباشرة، ومن هنا كان إيمانه الديني وكان نبوغه في الشعر، وهو بنفس الدرجة قادر على الإدراك العقلي الذي يستدل النتائج والأحكام من النصوص التي بين يديه، وتاريخ الفكر العربي شاهد على وجود كلتا القدرتين وجودا بلغ ارتفاعه ذروة العبقرية، ففي مجال الإدراك الصوفي ظهر متصوفة من أعظم ما شهد العالم في هذا السبيل، وفي مجال التفكير العقلي ظهر من العلماء أعلام خالدون، وعلى أساس اجتماع القدرتين في الكيان العربي استطاع المسلمون العرب في عصور مجدهم أن يأخذوا عن الطرفين المتناقضين؛ فأخذوا عن الهند وأخذوا عن اليونان، وتمثلوا هذا وذاك معا، حتى انصهر في ثقافتهم وكأنه جزء أصيل فيها.
وننتقل الآن إلى النتيجة الختامية التي استهدفت الوصول إليها منذ بدأت حديثي، فها هو ذا عصر جديد نعيش اليوم فيه، وهو عصر قائم بصفة أساسية على العلم بالطبيعة، وهو علم لم يظهر ظهورا يجعل له الغلبة والسيادة إلا في القرون الأربعة الأخيرة، وكان ذلك في أوروبا وحدها؛ لأن تلك القرون الأربعة ذاتها بالنسبة إلى الأمة العربية كانت هي عصر الظلام، فماذا نحن صانعون بأنفسنا الآن؟ ونحن نهم بوثبة النهوض؟ هل نرى أمامنا من سبيل سوى أن نقبل على العلم بالطبيعة في كل خطوة من خطواتنا على طريق الدراسة والاستنارة؟ لقد كانت كل طاقتنا العلمية خلال العصور منصبة على النوع الاستدلالي الذي لم تكن الدنيا تعرف سواه، وحتى في الحالات القليلة التي ظهر فيها بين القدماء علماء في الطبيعة، مثل جابر بن حيان في الكيمياء نراه - برغم أن موضوعه هو جانب من ظواهر الطبيعة - نراه يصوغ فكره على القالب الاستدلالي الشائع في عصره، بأن يأخذ عن القدماء مقدمات يضعها لتكون هي نقطة البدء، كما فعل جابر بن حيان حين أقام علمه الكيميائي على أساس العناصر الأربعة التي وردت عند أرسطو في كتابه عن «الطبيعة».
ولو كنا ممن يتعذر عليهم اتخاذ طريق المنهج العقلي في شتى صوره لقلنا إننا معذورون الآن إذا كنا نعرض عن البحث في حقائق الواقع الطبيعي بالمنهج الذي يناسبها، لكننا - كما أسلفنا - قد احتوينا القدرتين معا في كيان ثقافي واحد. قدرة الغرب كما تمثلت عند اليونان، وقدرة الشرق كما تمثلت في الهند وفارس، فإذا كان العقل اليوناني قد عرف كيف ينتقل بواسطة شعوب أوروبية أخرى من منهج الاستدلال القديم إلى منهج البحث الاستقرائي لظواهر الطبيعة، بحيث يصبح المنهجان معا قطبين تدور حولهما رحى الفكر العلمي بطرفيه، فماذا يمنعنا نحن من حركة انتقالية مماثلة لا سبيل إلى دخول عصرنا إلا عن طريقها؟ ولكي أرد على دهشة قد تأخذ قارئا فيسألك لماذا يقول هذا الرجل ما يقوله ونحن ندرس في جامعاتنا كل العلوم الطبيعية بمناهجها التي يشير إليها؟ أقول: المطلوب هو أن يتسع النطاق بمنهج العلم ليصبح هو نفسه طريقة النظر عند جمهور الناس، في كل مشكلة تعترض لهم على طريق الحياة الجارية.
وهكذا لم تكن الجائزة التقديرية للثقافة العربية - التي تشرفت بها - ولن تكون لتحول بيني وبين أن أبين ما قد أصبح في تلك الثقافة من قصور وتقصير بالنسبة إلى العصر القائم، فحقها وواجبها معا يحتمان عليها أن تبلغ في عصر المنهجين ما بلغته في عصر المنهج الواحد، من قدرة وعظمة وريادة ومجد.
Bog aan la aqoon