Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
وعلم آدم الأسماء كلها (سورة البقرة)، يذكر ابن جني هذه الآية الكريمة في سياق حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص»، ثم يجيء في تعليقه هذا التساؤل: وماذا عن الأفعال والحروف من مفردات اللغة؟ وكتاب «الخصائص» هذا، أي خصائص اللغة العربية، يكاد ينفرد وحده في التراث العربي كله ، من حيث تناوله للغة العربية تناولا هو أقرب ما يكون لما يصح تسميته ب «فلسفة» اللغة، دون أن يورد المؤلف في كتابه الضخم هذه الصفة لما يكتبه، فلعلك تعلم أننا حين نضيف اسم «الفلسفة» إلى أي جزء من أجزاء المعرفة، كأن نقول - مثلا - فلسفة التاريخ، فلسفة العلم، فلسفة الفن، فلسفة السياسة، فلسفة اللغة، فإنما نعني البحث عن المبادئ الأساسية العامة، الكامنة وراء مجموعة القواعد والقوانين الخاصة بالموضوع الذي نتحدث عنه، فاللغة - مثلا - لها قواعد تضبط استعمالها استعمالا صحيحا كقواعد النحو وقواعد الصرف وقواعد الاشتقاق، وهكذا، فيكون السؤال هو: ما هو المبدأ أو المبادئ التي انبثقت منها تلك القواعد؟ فإذا وقع الباحث على ذلك المبدأ، أو على تلك المبادئ، كان ذلك هو ما يؤلف «فلسفة» اللغة، وكتاب «الخصائص» لابن جني هو أوفى ما عرفه الفكر العربي في هذا السبيل، وكان من بين أسئلته المطروحة ذلك السؤال الذي أسلفت لك ذكره، والذي جاء تعليقا على الآية الكريمة
وعلم آدم الأسماء كلها ، وماذا عن بقية مفردات اللغة من أفعال وحروف؟
ولعل ما دعا ابن جني إلى سؤاله هذا هو أن تكملة الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن المقصود ب «الأسماء» هو أسماء الكائنات العينية على اختلافها؛ إذ تقول الآية الكريمة:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، وكلمة «عرضهم» تدل على أن المسميات بتلك الأسماء تشمل الكائنات العاقلة، والذي عرض على الملائكة بعد أن علم الله آدم الأسماء كلها هو مسميات تلك الأسماء، ليطلب منهم أن ينبئوه بأسمائها، فإذا كانوا لا يعلمونها ويعلمها آدم - عليه السلام - كان ذلك بمثابة البيان عن بعض العلة التي لا تجعل الملائكة أحق بالخلافة ممن استخلفه الله سبحانه وتعالى، فقد اختص الله آدم بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فإذا كان الذي علمه آدم - عليه السلام - هو «الأسماء» فهنا يجيء سؤال ابن جني: وماذا عن الأفعال والحروف؟ وعند قراءتي لهذا الجزء من أقوال ابن جني علقت عليه في مذكراتي، بكل التواضع الذي لا يسمح لي بأن أجعل لنفسي قدرا أكثر من قدري، وكانت خلاصة تعليقي هي أن ابن جني قد نظر إلى المسألة من زاوية علم النحو، ولما كانت مفردات اللغة - من هذه الزاوية - تنقسم ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، فقد حق له أن يطرح سؤاله عن الأفعال والحروف ماذا كان شأنها، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علم آدم - عليه السلام - «الأسماء كلها»؟
لكن السؤال لم يكن لينشأ لو أن ابن جني نظر إلى الموقف من زاوية «منطقية» لا من زاوية «علم النحو»، فمن زاوية المنطق الخالص يمكن اعتبار كل كلمة من كلمات اللغة «اسما» له مسماه الخاص به، فالفعل «يكتب» - مثلا - هو اسم يطلق على نشاط حركي نعرفه جميعا إذا ما رأينا كاتبا ممسكا بقلمه، يحركه على الصورة التي نعرفها عن الكتابة. ولولا أن أبناء اللغة المعينة قد تعلموا في لغتهم ماذا يطلقون على تلك الصورة الحركية من ألفاظ لما فهم بعضهم عن بعض حين يستخدم المتكلم اللفظة الدالة على فعل الكتابة. فلا فرق بين أن يعرف أبناء اللغة العربية - مثلا - أن يكون اسم الأداة المعينة هو «قلم» وبين أن يكون اسم الصورة الحركية المعينة هو «يكتب»، وكذلك قل في «الحروف»، فالحرف دال على «علاقة» معينة بين الأشياء، فإذا قلنا إن الكتاب «على» المكتب، كانت كلمة «على» في هذه الجملة مشيرة إلى «العلاقة» بين الكتاب والمكتب، ومرة أخرى أقول إنه لا فرق بين اسم نسمي به كتابا واسم آخر نسمي به علاقة معينة بين ذلك الكتاب وغيره من الأشياء، على أن قولي هذا لا ينفي ما يكون بعد ذلك من فوارق بين النوعين من أنواع اللفظ من حيث الطبيعة المنطقية لكل منهما على حدة، والمهم هنا أن ألفاظ اللغة جميعا، أسماءها وأفعالها وحروفها، هي - من زاوية ما - أسماء كلها، برغم ما هنالك من اختلافات بين الحقائق الواقعية التي يسميها كل نوع منها.
فإذا كانت الآية الكريمة تنص على أن الله سبحانه وتعالى علم آدم «الأسماء» كلها، فهنالك وجه بأن تفهم على أنه - سبحانه - قد علمه «اللغة» بكل مقوماتها، فضلا عن تعليمه «طبائع» الأشياء التي تشير إليها تلك الأسماء؛ إذ الأسماء بغير معرفة مسمياتها تفقد دلالاتها، وإنه لمما يرجح لنا أن نأخذ الأسماء على أنها تعني مقومات اللغة جميعا، كما قد تعني كذلك الاستعداد الفطري لتعلم اللغة، وهو استعداد يميز بني آدم دون سائر الأحياء، أقول إنه مما يرجح لنا هذا الفهم الأوسع أن مفردات الأسماء، مهما بلغ عددها، لا تتضمن عملية «التفكير»، أو «العقل»؛ وذلك لأن عملية التفكير إنما تبدأ حين نربط اسمين أو أكثر برباط يجعل منهما جملة تحمل حكما ما، أي تحمل فكرة ما، فإذا نطقت بلفظة «كتاب» وحدها، وبلفظة «مكتب» وحدها، فلا جملة هناك، وبالتالي فلا فكرة، أما إذا ربطت الاسمين برباط دال على علاقة بينهما فنقول - مثلا - الكتاب على المكتب، فقد أصبح عند السامع صورة متكاملة يمكنه أن يتصرف على أساسها إذا أراد، وقل هذا في كل فكرة عند إنسان.
ولقد طال بي التمهيد الذي أردت به أن أهيئ ذهن القارئ لما قصدت إلى عرضه، والذي قصدت إلى عرضه هو بدوره مستمد من آيات قرآنية كريمة، وأعني الآيات التي أشارت إلى ما أراده الله سبحانه وتعالى من أن يكون لبعض الأسماء «سلطان»، قال تعالى في سورة يوسف:
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، وقال تعالى في سورة النجم:
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، وقال تعالى في سورة الأعراف:
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ، فهذا كله قد يعني فيما يعنيه أن الإنسان ربما استخدم اللغة على نحو يجعلها بغير «سلطان»، أي بغير قوة، وقوة اللغة إنما تكون في دلالتها، وفيما تثيره تلك الدلالة عند السامع من نزوع نحو أن يؤدي عملا ما، فألفاظ اللغة، مفردة أو مركبة في جمل، تتفاوت تفاوتا بعيد المدى بين من يستخدمونها، من حيث قدرتها على التعبير من جهة القائل وعلى التعبير من جهة المتلقي، وإنني لعلى عقيدة بأننا إذا ما درسنا حالة اللغة وطرائق استعمالها في أمة معينة، إبان عصر معين من عصور تاريخها، استطعنا أن نستدل على مقدار النشاط الإيجابي المنتج في حياة تلك الأمة، من صور اللغة التي استخدمها أبناؤها فيما كتبوه، وذلك لأن طريقة استخدامك للغة في محاولة التفاهم مع الآخرين، تحمل في طيها الدلائل على مقدار «القوة» الكامنة فيها، وأعني بتلك القوة قدرتها على استحداث التغير عند من يتلقونها، وهذا التغير قد يقف عند حد الاستنارة العقلية، وقد يتعدى تلك الاستنارة إلى ما يترتب عليها من ضروب الفعل.
Bog aan la aqoon