Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
إن الأمة العربية في تمزقها وتخلفها اللذين يسودان حياتها الحاضرة لو كانت مدركة حقا كم تمزقت وكم تخلفت لحاولت بكل ما ورثته من مقومات الحضارة والثقافة أن تتخلص مما انحدرت إليه، لكنها تزداد كل يوم تمزقا وتخلفا، فالمقياس الوحيد الذي أراه معيارا للتقدم هو أن أرى كم تشارك في بناء عصرها، وإذا كان العصر تشوبه عيوب، فمن المشاركة أيضا أن تتصدى لإصلاح عيوبه، باعتباره عصرنا الذي كتب علينا أن نعيش فيه، وبهذا المقياس الوحيد، نرى في وضوح كم يكون مقدارنا، فلو كان المعيار عدد المدارس والجامعات ومن تخرجوا فيها، لكان من الجائز أن نجد لأنفسنا ما نعتز به في موكب العصر، لكن المدارس والجامعات برغم قيمتها الكبرى في تخريج أصحاب المهن والحرف، فهي دون المطلوب، والمطلوب هو أن نشارك في الابتكار في عملية البناء، وإلا فهل يعقل أن نشتري سلاح الحرب ممن هو عدو لنا، لو كنا لنقاتل أحدا لقاتلناه؟ هل يعقل أن أطب لمرضاي بطب من هو عدوي الذي يسعى إلى محوي إذا استطاع؟ إننا نخدع أنفسنا إلى الحد الذي يجعلنا نشتري من عدونا مصانع نقيمها على أرضنا، ثم نقول إننا منافسوه، ولو كنا ممن تسكع على طريق الحضارة الإنسانية دون أن يضيف إليها شيئا لقلنا إن ذلك - إذن - هو قدرنا في الحاضر كما كان قدرنا في الماضي، ولكننا بناة حضارة كأمهر من بنوها، وينبوع ثقافة كأغنى ما عرفت الثقافة الإنسانية من ينابيع، وهذا يعني أن البركة الآسنة التي نعيشها الآن لا تتطلب منا سوى أن نشق لها الأخاديد لتتدفق أنهارا هادرة كالتي عشناها في معظم عصور التاريخ، لكن ما حيلتنا وفينا من أخذته الغيبوبة، ثم حسب أنه هو الواعي وهو العالم، وهو الشاعر وهو الفنان، وهو الرائد، وهو كل شيء في الدنيا، وماذا يعرف عن نفسه من لا يعرف إلا نفسه؟!
لقد مرت في تاريخ الأمة العربية تجربتان تستحقان النظر الصادق والدراسة الجادة المتأملة، كانت الأولى هي حكمها للأندلس ثمانية قرون - ومع ذلك - فقد استطاع عدوها انتزاعها منها بعد تلك المدة الطويلة، والثانية هي أن استولى الصليبيون على فلسطين ولبثوا فيها نحو ثلاثة قرون، ولكننا عدنا فجمعنا عزيمتنا وطردنا الصليبيين من فلسطين، والسؤال الذي يتطلب منا الدراسة العميقة لنهتدي بنتائجها فيما نحن فيه الآن من تمزق وتخلف هو هذا: لماذا فشلنا في تجربة الأندلس ونجحنا في تجربة الصليبيين؟
إنني في أعماق نفسي مؤمن أشد الإيمان بإمكانات الأمة العربية لو صدقت عزيمتها وصحت نظرتها إلى الأمور، ولم يرتفع فيها صوت كالذي سمعته من ذلك المسئول الكبير - وذكرت لك أمره في مناسبات سابقة - وذلك حين أعلن في اجتماع رسمي أنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع أن يقاوم الحضارة القائمة، ولو هداه الله إلى الصواب لقال إنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع به أن يشارك في بناء الحضارة القائمة؛ لأنها حضارة عصر يعيش هو فيه.
إن الدراسة المستفيضة التي قام بها فيلسوف التاريخ «توينبي» عن الحضارات متى تندثر ومتى يكتب لها البقاء، يمكن أن تضيء لنا الطريق فيما نحن الآن بصدد الحديث عنه، فلقد تناول «توينبي» بالتحليل أكثر من عشرين حضارة عرفها التاريخ، منها ما انقرض وزال، ومنها ما ثبت ودام، (وكانت حضارتنا نحن من الصنف الثاني) ومن تلك الدراسة استخرج القاعدة العامة، وهي التي أطلق عليها عبارة «التحدي والاستجابة»، فالحضارة المعينة قد تنشأ العوامل التي تعمل على هدمها، وعندئذ يكون الأمر بين ثلاثة احتمالات: الأول هو أن يكون التحدي أضعف جدا من أن يؤثر في قوة الحضارة المراد هدمها، فيزول التحدي وتبقى الحضارة، والثاني هو أن يكون التحدي أقوى جدا من أن تستطيع الحضارة المراد هدمها أن تقاومه، فتزول الحضارة ويبقى ما جاء ليتحداها، والثالث هو أن يكون التحدي بين القوة والضعف، فيفعل في الحضارة المراد هدمها فعل التطعيم الطبي، الذي من شأنه أن يوقظ في الجسم قوة المقاومة فيقاوم فيصح ويقوى ويعيش، وليس من شك في أن الأمة العربية يتهددها في هذا العصر ما يتحدى وجودها نفسه، ولست أعني بوجودها مجرد وجود لأفراد يأكلون ويتكاثرون، بل أعني وجودا فيه العزة والبأس الشديد، وعقيدتي هي أن التحدي هذه المرة هو من الصنف الثالث فيما ذكرنا من أصنافه، أي إنه من النوع الذي لا هو من الضعيف بحيث نتجاهله ولا هو من القوة بحيث يسحقنا، وإنما هو بين بين، أي من النوع الذي يمكن أن يوقظ فينا قوة المقاومة لو اشتدت بنا العزيمة.
لكن العزيمة القوية وحدها لا تكفي؛ إذ هي بحاجة إلى هدف تشتد من أجل بلوغه، وتلك هي علة العلل في حياتنا الحاضرة؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، أو ربما كان لكثير منا هدفه الواضح، لكنه ليس الهدف الذي يمكن قبوله ليكون هدفا قوميا تماما، نعمل من أجله ونعلم أبناءنا من أجله ونفكر من أجله ونكتب الأدب وننشئ الفن من أجله، ولن يكون ذلك الهدف القومي واضحا، إلا إذا استطاع خيالنا أن يتصوره مجسدا في الأفراد، فماذا نريد للمواطن العربي أن تكون صورته؟ وعن هذا السؤال أجيب إجابة لا أتردد فيها، وقد عبرت عنها في مناسبات كثيرة سابقة، وهي أن يكون المواطن العربي الجديد ملتقى طبيعيا لموروثه من جهة ولجوهر الحضارة العصرية من جهة أخرى.
على أن هذه الصورة الثقافية الجديدة لا تتحقق لنا لمجرد ذكرها فيما نقوله وما نكتبه، فالدواء لا يشفي المريض لمجرد أن يكون المريض قد كرر اسمه ملايين المرات، إنما هو قد يشفيه إذا هو تجرعه ليسري في كيانه، كذلك إذا استهدفنا للمواطن العربي صورة جديدة كان لا بد من تنشئته على تلك الصورة، بالتعليم الخاص وبالتعليم العام، وأعني بالتعليم الخاص تعليم المدارس والجامعات. وأعني بالتعليم العام تعليم وسائل الإعلام كلها، وقنوات الثقافة كلها، وإنما يتحقق لنا ذلك لا بالتلقين المجرد، بأن يقول المعلم، أو المذيع، أو الكاتب للمتلقي: عليك بأن تكون في حياتك تجسيدا لثقافتين يلتقيان في شخصك هما كذا وكيت، بل لا بد - في أمثال هذه الحالات التي يراد فيها للإنسان أن يغير اتجاهه العام - من عملية التحليل والتأصيل، التي نكشف بها عن الجذر المبدئي الذي تلتقي عنده الثقافتان المذكورتان، لنبثه فيما نعلمه من مواد، وما نكتبه أو نذيعه من فكر وأدب وفن وإعلام.
وأما ماذا يكون ذلك الجذر المبدئي الذي نجعل نقطة فيكون بالتالي هو الأساس النظري الذي نقيم عليه البناء؟ فهو - فيما أرى، وقد يرى غيري شيئا آخر - أن نبدل ما هو قائم في نفوسنا الآن، من أن السكون لا الحركة، هو الأصل، أن نبدل ذلك بنقيضه، وهو أن الحركة هي الأصل، والسكون هو العرض الزائل، فنحن الآن في وقفتنا الثقافية العامة كمن يرى أن الجمود على صورة الحياة السلفية لا يحتاج إلى تفسير؛ إذ هو عندنا الوضع الطبيعي الذي لا يثير سؤالا، أما الذي يتطلب السؤال ويحتاج إلى تفسير، فهو أن ينادي أحدنا بوجوب أن نتغير، والذي نراه هو عكس ذلك، وهو أن نربي جيلا جديدا، يبني وجهة نظره على أساس أن التغير الدائب الذي لا ينقطع في كل أسس الحياة، بحيث تواكب عصرها دائما، إنما هو الوضع الطبيعي للأمور، فإذا طالب أحدنا بأن نتوقف ونجمد على صورة سلفت سألناه لماذا؟
إن موضع المأساة في الصورة التي رسمها الشاعر العربي من حمار مربوط برمته إلى وتد هو أن الحمار والوتد كليهما قد استسلما ورضيا بما أصابهما من تقييد للحركة، في حين أنه - كما قال ذلك الشاعر - «لا يقيم على ضيم يراد به» إلا الذليل، بل ما هو أذل من الذليل، ولست أجد ما أختم به حديثي هذا أكثر دلالة من صورة امرأة لفت جسدها بما يشبه عباءة سوداء، من رأسها إلى قدميها، رأيتها في إحدى العواصم الكبرى وفي شارع تجاري مزدحم من تلك العاصمة، وقد تعثرت في غطائها الأسود فوقعت بين الزحام، ثم أسرعت مقرفصة إلى ركن المدخل من محل تجاري قريب منها، وقبعت فيه وكأنها ترتجف داخل سوادها مما أصابها، وما كان يمكن أن يصيبها، فوثبت إلى ذهني الصورة التي رسمها الشاعر العربي في بيتين من شعره، ولم أجد هذه المرة عسرا في أن أعرف أين الحمار وأين يكون الوتد الذي ربط فيه الحمار برمته، لكني قلبي الحزين أنطق لساني بصيحة ملتاعة: متى يجيء اليوم - يا رب - الذي تكون فيه هذه المرأة نفسها رائدة من رائدات الفضاء؟!
الفصل الحادي عشر
ضمير مكتوم
Bog aan la aqoon