Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
ومن أضر النتائج التي نتجت لنا من اتساع المنطقة المحرمة على الفكر الحر والأدب الحر، نتيجة أرادها في مقدمة العوامل التي أدت إلى رجحان فترة العشرينيات والثلاثينيات على هذه الفترة التي تجتازها، وذلك حين نعقد موازنة بين الفترتين، وأعني بتلك النتيجة ما قد أصاب «الحرية المسئولة» من تقلص وضمور، والذي أقصد إليه - على وجه التحديد - من عبارة «الحرية المسئولة» هو تلك الحرية التي يأخذها أصحابها على أنها «كل» لا يتجزأ؛ فالإنسان الحر - في هذه الحالة - مسئول عن تلك الحرية بالنسبة إلى سائر المواطنين، كذلك فإذا كنا - كما أسلفت - نقصر حديثنا هذا على حرية الفكر، كان معنى ما أقوله عند تطبيقه على حرية الفكر هو أنه إذا رأى مواطن معين أنه هو نفسه لم تحدد حريته في فكره، فذلك وحده لا يكفي إن زعم أنه حر مسئول عن الحرية، بل إن تلك المسئولية تقتضي أن يتصدى للدفاع عن ذلك الآخر الذي قيدت حريته في التفكير، حتى ولو كان ذلك الآخر خصما له في الرأي والحرية؛ وذلك لأن حرية الفكر في أمة بعينها - وكدت أقول في الإنسانية جمعاء - هي «كل» لا يتجزأ، ولكن ماذا تعني هذه العبارة؟ إنها تعني في عالم الفكر ما تعنيه حين تقال عن أي كائن حي فلا يستطيع عضو معين - كالقلب مثلا أو الرئتين - أن يعمل لصيانة نفسه وحده، وليحدث ما يحدث لسائر الأعضاء، وذلك لما بينه وبين تلك الأعضاء جميعا من ترابط، فإذا فرضنا - في عالم الفكر - أن استقل مفكر ما بالحرية التي ظفر بها وبعده يكون الطوفان، فهو لا يبالي، وجدنا أن حريته تلك هي في الوقت نفسه استبداد بالآخرين، فإذا دافع عن حرية كهذه فهو في آن واحد يدافع عن الاستبداد كذلك، وعلى سبيل التوضيح أعيد هذا المعنى في عبارة أخرى أقل تجريدا: افرض أن مواطنا ما قد سمح له أن يسيء إلى مواطن آخر في الصحف أو في الإذاعة أو في غيرهما من وسائل النشر، ثم لم يسمح لمن أسيء إليه أن يعرض وجهة نظره بالوسيلة نفسها أو بغيرها، هنا نجد أنفسنا أمام طرفين كان أحدهما «حرا» في عرض فكرته، وكان الآخر وبسبب الحرية التي أعطيت للطرف الأول محروما من حريته، فهل يجوز لنا في حالة كهذه أن نصف الأمة التي حدث ذلك في حياتها بأنها أمة تأخذ بمبدأ حرية الفكر؟ إنها لا تستحق هذه الصفة إلا إذا وجد الخصمان فرصة متساوية في عرض الرأي أو الفكرة أو المذهب أو كائنا ما كان مما يتصل بالحياة العقلية، ولقد شهدت مصر إبان العشرينيات والثلاثينيات أمثلة رائعة للحرية المسئولة بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يكون الفرد الحر مسئولا كذلك عن الحرية ذاتها لتكون حقا للآخرين، أما في مرحلتنا هذه التي نجتازها، فما أيسر أن يلوذ المواطنون الأحرار بالصمت إذا رأوا تلك الحرية نفسها تتقلص أمام الإرهاب بالنسبة لغيرهم، ولقد قالها فولتير عبارة قوية وواضحة حين قال: إنه لا يوافق على رأي خصمه، لكنه مستعد أن يقاتل حتى يتاح لذلك الخصم كل الحق في أن يعرض رأيه حرا وبلا قيود.
وأعود إلى «مخافة الله» التي هي رأس الحكمة في العبارة المحكمة الجميلة التي صادفها الصبي مني، وهو في عامه الثاني عشر، صادفها في كراسة الخط «مشقا» (هكذا كانوا يسمون النماذج التي طبعت في الكراسة لتحتذى، ولا أعرف من أين جاءتنا كلمة «مشق» هذه) فالتقط الصبي العبارة بذهنه حفظا لا فهما، ولطالما التقط في طفولته وصباه وبعض شبابه عبارات أو مفردات لجرسها وإيقاعها دون أن يدرك لها معنى، نعم، أعود إلى عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» لأعيد معناها ومرماها على نفسي وعلى القارئ معا، فأنت «حكيم» بمقدار الصواب في «حكمك» على الأشخاص والأشياء والمواقف، (لاحظ العلاقة اللغوية بين «حكمة» و«حكيم»)، وإنك لتبلغ من تلك الحكمة منتهاها الذي هو في وسعك أن تبلغه إذا أنت لم تخف أحدا سوى الله، الذي هو «الحق» سبحانه وتعالى، أما إذا أخذتك الرهبة أمام إنسان من البشر؛ فقد عرضت صواب فكرك للضياع، فالمهم هو بلوغ الحق كما تراه مع استعدادك للتراجع بطوع إرادتك إذا رأيت أنك على باطل، ولو كان ذلك الحق المنشود في عالم الفكر من الوضوح بحيث يسطع في أذهان البشر سطوع الشمس على من يتجه إليها ببصره لما تشعبت المذاهب وتفرعت الرؤى، تحت الفكرة الواحدة أو في رحاب العقيدة الدينية الواحدة، عد يا أخي إلى تراثنا الذي يعرف كاتب هذه السطور قيمته الكبرى. لحياتنا معرفة عاقلة هي خير ألف مرة من معرفة آخرين له، التي تشبه في صورتها إدراك المجنون وهو يصيح فيمن حوله قائلا إنه الإمبراطور الذي يسيطر على العالمين، أقول: عد يا أخي إلى ذلك التراث في أي كتاب تقع عليه من الكتب التي أخذت نفسها بتفصيل أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين ما كانوا يسمونه ب «الفرق» (جمع فرقة) مما ينطوي تحت فكرة واحدة، فالفكرة الواحدة أو العقيدة الإيمانية الواحدة لم تفهم دائما على صورة واحدة، بل تعددت فيها «الفرق بتعدد وجهات النظر». ارجع - مثلا - إلى كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي أو إلى كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، لترى كم تبلغ الفوارق بين رجال الفكر في طريقة فهمهم للفكرة الواحدة، ومع ذلك قلما حدث أن اضطهدت فرقة فرقة أخرى خالفتها في وجهة النظر، ودع عنك أن ترميها بما يمس سلامة عقيدتها الدينية، ومعنى ذلك أن الحرية المشتركة التي أسميتها في حديثي هذا بالحرية المسئولة، كانت هي المناخ السائد في سماء الفكر، فإذا دعونا إلى التمسك بتراثنا في أصوله؛ فإنما ندعو إلى الأخذ بكل ما عرفه أسلافنا من دقة في تحليل المعاني، ومن حرية في أن يأخذ كل بما يراه صحيحا ، وأن يعلنه في غير خوف إلا من ربه ورب العالمين.
الفصل التاسع
التراث هو أول الطريق
عن حرية العقل أتحدث
كان الفتى المراهق يتوقد ذكاء، وكان فوق ذكائه موهوبا في الرؤية الفنية، وأعني بذلك أنه كان مستعدا بفطرته للسير في أي طريق شاء لنفسه، أو شاء له أهله، فهو قادر على السير في طريق التعليم الجامعي بكل فروعه قدرته على السير في طريق الإبداع الفني، وهو كأي مراهق آخر، دائب الحيرة بين قدراته المختلفة، أيها يختار لمستقبل حياته؟ وقد سألني ذات يوم: بماذا أشير؟ فأجبته قائلا: ولماذا لا تملأ حياتك بالقدرتين معا؟ فالمهنة تقيمها على إحدى الدراسات الجامعية من هندسة وطب وما إليهما، والهواية تقيمها على فن من فنون؟ واعلم - يا بني - أن من مواضع القصور في حياتنا أن كثرتنا الغالبة تخرج من مراحل تعليمها وليس لها إلا شيء واحد تعرفه وترتزق منه، وأقل ما يقال في مثل هذه التربية المنقوصة هو أن حياة الإنسان - كل إنسان - مناوبة بين ساعات للعمل وساعات للفراغ، فإذا أعددنا أنفسنا بالمهنة المعينة لحياة العمل الكاسب للعيش، فلا بد لنا كذلك من هواية نختارها، أو هوايات لنجعل منها مشغلة ومسلاة في ساعات الفراغ، وإن شئت يا ولدي أن أضرب لك أمثلة كثيرة لأفراد لم يكن في مستطاعهم إلا مهنة أو حرفة يحبذونها ويعيشون من ربحها؛ فإذا كان فراغ لم يعرفوا كيف يستخدمونه إلا نياما، لسقت لك أمثلة من هؤلاء شاء لهم الله أن يصابوا فيما يعينهم على أداء المهنة أو الحرفة، فقضوا بقية حياتهم في حسرة وأسى، يثقل عليهم عبء الحياة فلا يجدون بين أيديهم الهواية التي يملئون بها الفراغ الثقيل، ومضت بيننا دقيقة صامتة، فكسرت حاجز الصمت بأن سألته: هلا أطلعتني على آخر ما أبدعته من تكويناتك الفنية الرائعة؟ فأسرع كالطائر المرح وعاد ليطلعني على رسم مثير للدهشة أولا، ومثير لسيل من الأفكار ثانيا؛ إذ هو رسم الإنسان من حروف الأبجدية، بمعنى أنه أقام الشكل من تلك الحروف وحدها، بغير إضافة أي شيء آخر إليها، فمن الحروف كان الرأس وكانت العينان وكانت الأذنان وكان الأنف وكانت الشفتان وكانت سائر الأجزاء جميعا، ولقد تعمد أن يكون الشكل دالا على مجرد إنسان، يصلح أن يكون رجلا وأن يكون امرأة في آن واحد معا. كان التكوين الفني من العناصر الأبجدية بديعا ورائعا، فأخذت أتفرسه، وقد أطلت فيه النظر، فسألني الفتى: ماذا ترى؟ فخرجت الإجابة من بين شفتي تمتمة بكلمات أرددها: أرى ... إلى أبعد الآماد! ففرح الفتى بما قد سمعه وسأل في خفة المراهق: كيف؟ قلت له سأحاول أن أعرض عليك الفكرة في أبسط صورة أستطيعها، فرسمك هذا هو أبرع ما يمكن أن نصور به الموقف الثقافي لشعب جمد عند ماضيه، وأبى على نفسه التطور والنماء، وكثيرا ما شهد التاريخ مواقف ثقافية في مثل هذا التحجر، وكان مصيرها بعد ذلك إلى فناء محتوم، بل إن الأمر في هذا لا يقتصر على تاريخ الإنسان وثقافاته، وإنما يتسع نطاقه ليشمل الكائنات الحية جميعا، فما أكثر ما جمدت أنواع حيوانية عن التكيف لظروف استحدثت في بيئاتها فأخذت تضعف جيلا بعد جيل حتى اندثرت.
ونحصر حديثنا الآن - يا بني - في الإنسان وثقافته بأوسع معنى لهذه الكلمة، وألخص لك الصورة قبل أن أنتقل معك إلى تفصيلاتها فأقول: إن موجة التاريخ إذا ما ارتفعت بأمة إلى ذروة حيويتها ومجدها، وجدت تلك الأمة مبدعة جديدا كل يوم، فهي اليوم أكثر امتلاء من الأمس، وستكون في غدها أكثر امتلاء من يومها، وقلما يحاكي إنسان من أبنائها ذوي الاهتمام المعين إنسانا آخر في مجال ذلك الاهتمام محاكاة تامة، ولماذا يحاكيه على تلك الصورة وهي له بمثابة إعدامه وإلغاء لوجوده؟ نعم، قد تجد من يتبعون إماما لمدرسة معينة، فيكونون تلاميذه في اتجاهه ومنهاجه، لكنهم يستقلون بشخصياتهم داخل ذلك الإطار، وأما إذا ما هبطت موجة التاريخ بتلك الأمة فها هنا قد يحدث أحد أمرين: إما أن تستعيد الأمة حيويتها الضائعة فتعود بها موجة أخرى إلى الصعود، وإما أن تعجز دون ذلك «فتحفظ» عن ظهور القلوب حفظا أصم لما خلفه لهم آباؤهم من تراث، وعندئذ يصبح العالم من علمائهم هو من حمل رأسه فوق كتفيه، وكأنه يحمل صندوقا مليئا بالمحفوظات، ثم يصبح التعليم كله عملية ملء للصناديق بمحفوظات - كل بمقدار ما تسعفه قوة ذاكرته - فإذا طرح سؤال على عالم أو على متعلم - ابتغاء إجابة تنفع في حل مشكلة طرأت على الناس - كانت الوسيلة الوحيدة للجواب هي البحث في تلك الصناديق المليئة بمحفوظاتها من مخلفات الآباء، عن قول أو جملة أو لفظة مما يمكن أن يكون لها صلة بالمشكلة الطارئة، فإذا أردنا أن نرسم صورة تبين ملامح الرجل من هؤلاء الذين يحملون أدمغة صندوقية ملئت بمحفوظاتها، لم نجد أبرع من الصورة التي رسمتها أنت يا ولدي، وكأنك ألهمت الحقيقة دون أن تدري؛ إذ الحقيقة في أمثال تلك الشعوب التي جمدت عروقها هي أن العالم فيها أو المتعلم لا يراد له ولا يراد منه إلا أن يكون جسدا قوامه كله الحروف الأبجدية وزعت على محفوظات من أقوال وجمل وكلمات، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج فهذه يتولاها من لم يسعدهم الحظ بحفظ التراث، فيكون لهم هو الثقافة وهو المرتزق في وقت واحد.
تلك هي الصورة في مجملها يا ولدي، ولأعد بك إلى شيء من التفصيل ضاربا لك المثل في المرحلتين معا: مرحلة الإبداع والحيوية، ومرحلة المحاكاة والذبول بالأمة العربية في ماضيها وفي حاضرها، ففي ماضيها الذي شهد عزها ومجدها، كان كل يوم في حياتها يزيد علما وخصوبة عن أمسها، وبالتالي كان غدهم يبنى على أمسهم، ثم يضيف من عنده ما قد أبدعه هو في هذا المجال أو ذاك، وخذ أمثلة لذلك في مجال اللغة وعلومها، وفي مجال الفقه وأصوله، وفي مجال الفلسفة وتأصيلها، وفي مجال الأدب ونقده، وفي مجال العلوم الطبيعية والرياضة، وفي مجال التاريخ وتدوينه، وفي مجال الرحلات والكشوف الجغرافية، وفي أي مجال آخر تشاء، ففي كل مجال تجد القرن الثاني للهجرة أوفر علما من القرن الأول، والثالث من الثاني والرابع من الثالث، وقد يصل بك الصعود إلى الخامس، ثم يبطئ الصعود ليلتقي رجال العلم عندئذ بعملية الترتيب والتبويب في الأعم الأغلب، حتى إذا ما جاء القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) لم يكن في وسع الأبناء إلا أن يحفظ علماؤهم حفظا أصم لما تركه آباؤهم، وهنا تحققت صورتك التي رسمتها، فلم يكن قوام العلماء إلا أقوالا يعيدونها مما حفظوه.
وجاء عصرنا، وكدنا نوفق إلى الخروج من تلك الساقية التي تدور بأوعيتها في بئر مغلقة، تمتلئ منها ثم تعود فتصب ماءها فيها، لا بل استطعنا أن نقطع شوطا في طريق الإبداع - أو على الأقل - في طريق الحث عليه، لكننا يا ولدي عدنا فانتكسنا إلى حياة ثقافية وعلمية، وهي الحياة التي صورتها في رسمك، فالعالم والمتعلم معا رأسه حروف، وعيناه حروف، وأنفه حروف، وشفتاه حروف، وكل جذعه وأطرافه حروف، تأتلف معه في أقوال وجمل خزنها في دماغ صندوقي حمله فوق كتفيه، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج، فبقدر ما عندنا منها. إنما توكل إلى من لم يسعد نجمهم ليحفظوا «التراث» عن ظهر قلب، ليكون لهم هو الثقافة وهو مصدر العيش معا.
والآن استمع إلي بكل انتباهك يا ولدي. إنك قد دنوت من الثامنة عشرة، وهي السن التي عندها تدخل من عالم المراهقة إلى دنيا الراشدين، ثم هي السن التي يباح لك عندها أن تشارك في انتخاب من ينوبون عن الشعب، وبالتالي من يحكمونه، وإنني - فضلا عن ذلك - لشديد الثقة في ذكائك؛ ولذلك فسوف أخاطبك وكأنني أخاطب الشباب جميعا، وأول ما أقوله هو أن تلك الحرية السياسية التي ستظفر بها وشيكا لن يكون لها كل معناها إذا لم يمهد لها ويصاحبها - ويلحق بها - حريات أخرى لا تكون هي شيئا بغيرها، وماذا تكون حرية سياسية نمارسها في انتخاب النواب ورجال الحكم إذا لم يكن معها حرية ضمير، وحرية فكر، وحرية عقيدة، وحرية تعبير، وإن هذه الحريات جميعا التي أقرها دستورنا وأقرها ديننا لتصبح هواء من هواء إذا لم نمارسها ممارسة حقيقية في حياتنا العملية ، فإذا صادفت يا بني من يريدون أن يجعلوا منها هي الأخرى محفوظات مع سائر محفوظاتهم، يكرونها لك كرا باللسان والشفتين، حتى إذا ما نطق ناطق بما لا يتفق مع هواهم حاصروه ليخنقوه؛ فاعلم أنهم هازلون.
Bog aan la aqoon