ولا أذكر بماذا كان يجيبني، ولكن ما أذكره أنه لا يرد أبدا بشيء مقنع أو يستطيع إقناعي؛ ذلك لأن ما كان يعتريه كان إحساسا، مجرد إحساس لا منطق فيه أو له. ولم يكن وحده صاحب إحساس كهذا؛ معظم الناس، بل أكاد أقول كل الناس، تنتابهم حالة غريبة من الأمر كلما اقترب يوم مولدهم أو ليلة رأس السنة مثلا، وأبدا ليس حزنا على عام انقضى أو تخوفا من عام سيجيء. ربما السبب الأعمق هو أن هناك زمانين لكل منا: ذلك الزمان العام الذي تسير على وقعه أحداث العالم وأحداث اليوم، والذي من أجله نحمل الساعات ونحرص على ضبطها (وإن كان حقا في منطقتنا العربية نحرص على وجاهتها). ذلك الزمن العام هو العداد العام الذي ما دام يعد السنين والأيام للناس كلها علنا وأمام بعضهم البعض وفي ونس من بعضهم لبعض وفي إحساس شامل أن الساعة إذا مضت فهي ساعة موزعة على أربعة آلاف مليون من البشر، وأن العام كذلك موزع علينا جميعا بالقسطاس، بحيث لا ينال الواحد فينا من العام بأكمله إذا مضى إلا فتفوتة إحساس، مجرد همسة زمن. وهناك - وهذا هو الأهم - ذلك الزمن الخاص، عدادك الخاص أنت، الذي صحيح كثيرا ما «تفكر» فيه، ولكنك نادرا تماما ما «تنظر» فيه، فأنت حين تنظر فيه من المحتم عليك أن توغل بنظراتك إلى أعمق أعماقك، إلى حبك الخفي الغويط، ودائما ما تدرك وتتيقن أن الجزء الذي يغوص منك في بئر الزمن المطلق، العدم، قد ازداد، وأن جزأك الباقي فوق سطح الحياة قد نقص، والنقص غير موزع على أربعة آلاف مليون بشري، بل ولا على أربعة حتى، النقص منك أنت ويخصك كله؛ ولهذا يرتدع البعض، وعند عمر معين يتجنبون النظر تماما إلى ساعاتهم أو زمنهم الخاص، إلا أن يرغمهم قدوم رأس العام مرة أو حلول عيد الميلاد مرة بالقوة الغاشمة، يلوي أعناقهم لتنظر إلى الداخل، إلى الغاطس والطافي من وجودهم، إلى ما ذهب وما تبقى أو مفروض أن يتبقى. هذه الساعة التي لا ننظر فيها إلا كل عام مرة، أو بالضبط هذه النظرة السنوية هي التي كنت أتحاشاها دائما؛ ذلك أن حساباتي في مسألة العمر مختلفة قليلا عن حسابات معظم الناس؛ فأنا أحسب السنين بحسب ما حققته وليس بعدد ما عشته، وأنزعج من فكرة العمر أيضا، لا بمقياسها الزمني ولكن بمقياسها التحقيقي. وهكذا كنت لا أحفل أبدا بالسنين في شبابي وصباي؛ ذلك أني كنت أنظر إلى الأهداف، وكان العمر يبدو طويلا وممتدا بالقياس إلى الأهداف التي كانت تبدو كعناقيد العنب في متناول الوثبة. بل أذكر أني وأنا في السادسة عشرة والسابعة عشرة كنت أستعجل الزمن، كنت أحلم في منامي ويقظتي أنني أصل بالواحدة والعشرين، ويا سلام، فمنتهى سعادتي أن أجد نفسي فجأة في السادسة والثلاثين، أما الاثنان والأربعون فقد كان لها في نفسي سحرها الغامر الذي لا يقاوم. كنت ألهو بلعبة الأيام كما يلهو الطفل بألاعيبه؛ إذ موقفي الجدي كان مع الأهداف التي كان معظمها ليس خاصا، وبالتأكيد ليست أحلاما أو أعمالا أحققها ككاتب. مصر الغنية المثقفة المصنعة، والعرب وقد أحالوا بترولهم حضارة كالإسلام، والاشتراكية في العالم وقد سادتها الديمقراطية تماما، والديمقراطية في الدنيا وقد سادتها الاشتراكية، ومن مجاميع الحضارات التي تنمو مع العالم النامي يصبح الكون مائة زهرة فعلا قد تفتحت وسخرت لخدمة وإمتاع إنسان هذا العصر الذي أحيا فيه، لعب عيال، كنت أظنها سنوات. أقصى ما أعطيه لها عشرون عاما يحدث فيه هذا كله، بحيث حين أكون في الخمسين أبدأ أعيش إذ أعيش في إجازة أتعلم فيها الموسيقى وأعزفها - ذلك كان حلم حياتي - وأشتغل بعض الوقت وبمزاجي جراحا.
أما أهم ما أوجه له جهدي فهو دراسة الطبيعة النووية التي كان حلم صباي أن أدرسها. وبالمرة أكتب، إلى بشرية ذهب عنها الظلم ولم تعد فيها الكتابة أنات من السخرة الحديثة ولا شكايات من القهر. ليست كتابة مرضى يحاولون علاج زملاء مرضى هم الآخرون، ولكن كتابة أصحاء لقوم أصحاء انتهت شكاواهم، وانتهى الأدب كوسيلة لإيصال رسالة سياسية أو اجتماعية، وانفتح على الروح البشرية مباشرة يستكشفها ويضيئها ويرويها، كتابة ما بعد اختفاء الجوع والمرض والظلم والحرب والجريمة، وآلاف الأسطر والكلمات يمكن أن أسوقها عما كنت أحلم به، ومتأكد تماما أنه سيتحقق آنذاك.
ولكن ها أنا ذا أفاجأ أن اليوم هو 19 مايو، وأن عمري أصبح فعلا خمسين، وأن مسائل قياس العمر بالأهداف قد استغرقتني تماما، قليل تحقق، هذا صحيح، ولكن كثيرا قد تحقق لي أسوأ، وزمان ونحن أطفال حين كانوا يقولون عن فلان: ياه! دا راجل عمره خمسين سنة يا شيخ! كنا نضعه نحن الأطفال تحت بند «الكهنة» البشرية؛ فخمسون عاما كانت كمية كبيرة جدا من السنين في الماضي؛ ذلك الماضي الذي كان يجري يومه بهدوء وانسياب وراحة بال، وكأنك ممتط «كارتة» ساعة العصاري على الكورنيش. الخمسون عاما اليوم تمضي في ومضة، في ومضة ملهوفة عصبية قلقة تقضيها مروعا من ألف اعتبار، وكأنك تعبر ميدان التحرير عن غير طريق المشاة ومشدود من العربات القادمة التي تفاجئك من كل اتجاه، وإن كنت في عربة خائف أن تقتل، وإن كنت من المشاة خائف أن تقتل، وإن كنت على دراجة خائف من الماشي ومن الراكب ومن الأتوبيس ومن كل شيء يتحرك أمامك أو خلفك أو على جانبيك، والخوف يطيل اللحظة ولكنه يقصر العمر، وهكذا في ومضة تستيقظ على الخمسين.
ولأنها غريبة وراودتني فيها عن الناس وعن الحياة وعن نفسي أفكار لم تخطر على قلبي، وربما على قلب بشر، فقد غامرت وجعلتها البداية لعودتي للانتظام في كتابة المفكرة. أفكار، منها مثلا فكرة أن الناس تكبر بالعكس أو على الأقل بعض الناس، فأنا من هؤلاء الذين قضوا طفولة جادة تماما لم يعرف المرح طريقه إليها؛ رجل رهيب في ثوب طفل، كل ما أعتقد أني أريده أحرمه على نفسي بل وأنظر له وكأنه خطيئة أرتكبها تجاه الآخرين، همي الأكبر كله أن أصنع مثلما يصنع الكبار لأكون كبيرا، وألا تبدو من طفولتي بارقة نزق واحدة تشف عن «الولد الصغير» المرتدي جاكتة أبيه أو معطفه، فالطفولة كانت في طفولتنا «عيبا»، ولا تزال لغتنا حافلة «ده شغل عيال.» و«أنت عيل.» «هو لعب عيال؟» الطفولة واللعب، الانطلاق وحق ارتكاب الخطأ، المطالب والهدايا واللعب؛ كل هذه كانت «تهما» نموت حنينا إليها في أعماقنا، ولكننا نموت خوفا أيضا أن نطلبها أو نصرح بها وإلا أصبحنا «عيالا» وكأن كلمة «طفل أو عيل» مرادفة لكلمة «امرأة» حين تذكر على محمل التأنيث والإهانة.
وكان الصبا أيضا جادا؛ إذ قام «الواجب» فيه محل معطف الرجل. من طبقات مطحونة، علينا أن نأخذ من المدينة كل علمها، وكل وسائل تقدمها، لنطفو فوق سطح الحياة، ولا نطفو وحدنا، وإنما في الغالب ينفق والد الواحد فينا فيكون عليه هو الكبير أن يصبح حاملا فوق كاهله ربما نصف دستة أو أكثر من الإخوة والأخوات، وبهذا يحكم عليه أن يعوم ويظل يطفو ... ضاعت الطفولة في إرهابنا أن نتصرف كالأطفال.
وضاع الصبا في صعود الجبال الوعرة إلى الطريق الأكثر إنسانية وراحة.
وجاء الشباب لندرك أن المشكلة ليست مشكلة كل منا بمفرده، وإنما هي مشكلة بلد، بل منطقة، بل عالم بأكمله علينا أن نغيره، نحلم بتغييره ونحقق الحلم ونواجه حكومات تلو حكومات، وعقوبات تلو عقوبات، وسجونا ومعتقلات، ويضيع الشباب في مقاومة الشر ومحاولة استنبات ما أمكن من خير، ثم يطل عليك عامك الخمسون وهو يخرج لك لسانه، فجيشك شرد معظمه وتشتت، وجيلك كرش واصلع وشاب، وأمانيك أصبحت لا تصلح إلا كعناوين لمواضيع إنشائية أو شعارا من شعارات تنظيمات الشباب الرسمية. •••
وليس ما ذكرته مرارة ولا ندما؛ فقد كان لا يمكن أن يحدث إلا ما حدث، فإننا ومن أجل وفي سبيل هذا كله، ومن الأفعال وردود الأفعال، من الزق والدفع والجذب، من الأمل والإحباط، من جماع ذلك كله وأنت تناضل موجة أعتى منك بكثير وأطول قامة، وبحرا كالغول فاغرا فاه، من هذا كله صنعت دون أن تدرك «نتيجة»؛ نتيجة حياة هي هذا الشيء الذي تجلس اليوم تتأمله وتحس بكل ذرة منه حفنة من دمك، وكل واقعة فيه كومة من لحمك وعمرك، ولكنك أيضا تحس بروعة لأن هذا كله كان اختيارك وباختيارك صرفا، وأنها حياة لم تفرض عليك، ولكنك أنت الذي فرضت حياتك تلك على الحياة ...
بل المضحك الذي أكتشفه الآن فقط أنني نجحت في تربية نفسي حقا ... فإذا كانوا قد ربونا على أن نكون رجالا ونحن أطفال، ومسئولين ونحن صبية، وشهداء ونحن شباب، أي نعكس وضع الأمور جميعا، ونستلب من كل فترة الممتع من محتواها؛ فقد كان علي وعلى كثيرين مثلي أن يقوموا لأنفسهم بالثورة التربوية؛ تلك التي لا تقسم الإنسان إلى مراحل هرمية ينبذ أي منها بكل ما فيها من ألم أو متعة بعد انتهائها. ولكن أن يعيش كل مراحل العمر معا وفي كل آن، في كل جزء من يومه يطلق الطفل المحروم، وفي لحظة تنبت له أحلام الصبا، شابا ينزق ويتصرف إذا عن له أن يفعل، شيخا في السبعين أو الثمانين يتأمل، مراهقا وكأنها اللحظة الأولى التي تنبت فيها أول مجموعة من شعر الشوارب، حكيما وكأنه وصل إلى لحظة الاستغناء المطلق عن متع الدنيا كلها والحكم عليها وعلى نفسه وعلى الناس بموضوعية، تكاد تقترب من موضوعية القديس.
وكان هذا - وإليكم أعترف - أصعب جزء من المهمة، مهمة أن تحيا، ليس كما أريد لك، ولكن كما اخترت أنت وكما قررت - فكأنها اللحظة التي عليك أن تخضع فيها عالما بأكمله لمشيئتك البشرية المحدودة، والنصر الحقيقي، والحياة الحقة، والفوز الأعظم - أن تفعلها.
Bog aan la aqoon