نعود إلى «لا تكذبي»، فبرغم حماسي للديوان ولحصولي عليه في النهاية وبموافقته، إلا أني لم أذهب في اليوم التالي لآخذه كما اتفقنا. لا، ولا في اليوم الذي بعده، وظلت النسخة المهداة إلي والموضوعة في ظرف مكتوب عليه اسمي بخط يده حتى فوجئت بابن أخيه الشاب فاروق الذي كان يقطن معه في أعوامه الأخيرة يحمل لي المظروف بعد شهر من الوفاة وقد وجده بين أوراقه. ولكم أن تتصوروا مبلغ فجيعتي وأنا أقرأ اسمي بخطه، ثم وأنا أفتح المظروف وأجد كلماته الرقيقة الحنونة الأنيقة موجهة إلي تحمل - إلى جانب ما كان يسبغه علينا دائما من ألقاب عطف وتشجيع - ذلك التعبير الذي احترت في تفسيره «إلى الواهب الموهوب.» لكم أن تتصوروا مبلغ إحساسي به ويده الأبوية الأخوية الحبيبة تمتد من وراء القبر وعالم النهاية وتحمل إلي إهداءه كالتحية الحية الطازجة، وتحمل سؤال الطفل الكبير أمام الوجود الأصم المارد.
قدر واثق الخطى
سحقت هامتي خطاه
دمعتي ذاب جفنها
بسمتي ما لها شفاه
صحوة الموت ما أرى
أم أرى غفوة الحياة
سؤال وكأنه به يقرأ من كتاب مفتوح، ويعرف أنه في أيام صدور ديوانه كانت حقيقة صحوة الموت، وصدقا كانت غفوة الحياة، ولكنها الغفوة التي لا صحوة منها.
في ذكراه التي اقتربت ها أنا ذا أعود إلى مطالعة ديوانه، إلى ذلك الجزء الذي بقي وسيبقى حيا من كامل الشناوي، أعود وثمة خاطر قوي يلح علي ولا يهيب بي وحدي وإنما بكل الكامليين الشناويين، وما أكثرهم! أن نتيح الحياة لأكبر قدر من كامل الشناوي، ألا نجعله يموت مرتين، ميتة ربه مرة وميتتنا نحن مرة أخرى، نتكاسل عن جمع أعماله، ومعظمها يتشرف باحتوائه أي كتاب، ونصدرها لنجعله يعيش مرتين، مرة فينا، وفي كل منا جزء حي وخالد من كامل الشناوي، ومرة في كتبه كي نقرأها وتحياها الأجيال الحاضرة والقادمة. إن لكامل الشناوي في رقاب أصدقائه ديونا لا تعد، وألف يد بيضاء له لا بد أنها تؤرق مئات الضمائر، فلنصنع شيئا ليس لضمائرنا كي تستريح، ولا حتى لكامل الشناوي كي يخلد، وإنما للأدب العربي نفسه، للتاريخ الذي سيحاسبنا - لو ضيعنا آثاره - حسابا عسيرا.
Bog aan la aqoon