ولا يخفى أن اللغة الهيروغليفية كانت لغة تصوير، تغلب فيها المقاطع على الحروف، وأن المصريين استخدموا الأبجدية اليونانية وزادوا عليها بعض الحروف التي لا وجود لها عند اليونان، حين أرادوا الكتابة باللغة الوطنية، والاستقلال بها عن كتابة الدول الرومانية! وقد وجدت صور الأرض والشمس عليها دالة على البلاد المصرية في الآثار القديمة، أما نطقها بألفاظ تقارب لفظ مسر أو مصر فليس له سند معروف، بل كان الكتاب المصريون المخضرمون بين عصر اللغة الهيروغليفية وعصر اللغة القبطية يذكرون مصر كما يذكرها اليونان باسم وسط بين «جبت» و«قبت» أو قبط، ويظهر أن كتاب العربية أنفسهم كانوا يطلقون كلمة «قبط» على البلاد أحيانا، ولا يقصدون بها السكان كما فعلوا بعد ذلك؛ ولهذا كانوا يذكرون المصريين باسم «القبطيين»، وتكررت هذه النسبة بعد الفتح الإسلامي بزمن غير قصير، ولم يلجئهم إلى التفرقة بين النسبة إلى مصر والنسبة إلى «قبط» إلا الرغبة في توضيح الفرق بين المصريين بعد الإسلام والمصريين قبل الإسلام، وقد كان المؤرخون المسلمون يذكرون «المصريين» إلى عهد «معاوية» ويعنون بهم العرب المسلمين المقيمين في الديار المصرية؛ ولهذا كانوا يقولون: إن «المصريين» أيدوا عليا في خلافه مع معاوية، وأنهم لم يبايعوا معاوية إلا بعد ولاية عمرو بن العاص الثانية، على أن العرب كانوا يسكنون مدينة «قفط» قبل الإسلام، وقال سترابون: إن نصف سكانها منهم، وربما أخذوا كلمة قبط من النسبة إلى هذه المدينة القديمة في طريق الحجاز.
ومن المحقق بعد جميع التأويلات والاحتمالات أن اسم «مصر» كان معروفا في أرض كنعان قبل وفود العبرانيين، وأن اليونان عرفوا مصر باسم «إيجبت» قبل عصر الشاعر هوميروس، وأن ألواح تل العمارنة ذكرت مصر باسم «هكبتاه» الذي يرجع إليه الاسم اليوناني، وأرادت به أرض منف وعاصمة بتاه أو فتاح، وأن «مصر» بغير التعريف لم تطلق على قطر غير وادي النيل، وأن العرب هم أول من تسمى بالمصريين، ولم يأنفوا من مساواة أبناء البلاد بالانتساب إليها كما أنف الرومان واليونان من قبلهم! وقد كان المؤرخون قبل الميلاد وبعده يحصون سكان البلاد المصرية فلا يشملونهم بإحصاء واحد، ويفردون كل فريق من السكان بتعداد خاص، كالروم واليهود وأبناء البلاد الأصلاء، ومعظمهم كانوا يقيمون في الصعيد وفيما بين فرعي النيل المعروفين الآن باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكانت الأقاليم التي تقع إلى شرق فرع دمياط وإلى غرب فرع رشيد، مقاما لقبائل متفرقة تعرف بالأنساب، ولا تعرف بأسماء المدن والقرى في أسمائها الشائعة.
وقد أحصى ديودورس الصقلي ويوسفيوس اليهودي سكان مصر، فلم يجاوزوا بهم ثمانية ملايين، وأولهم من مؤرخي القرن الأول قبل الميلاد، والآخر ممن شهدوا عصر الميلاد في أوائله، وكلاهما فرق في التعداد بين المصريين واليهود والروم!
وكانت هذه الأجناس جميعا في نزاع دائم بينها، وفي نزاع دائم مع الدولة الرومانية، وربما تجرد بعض القساوسة لقتال اليهود بجنود يجمعها من الوطنيين، ويغير بها على الأحياء اليهودية في الإسكندرية، وقد كانت عدتهم فيها وفي عين شمس تزيد على مائتي ألف في بعض الأوقات.
ولما حان عصر الفتح الإسلامي - أي القرن السابع للميلاد - لم يكن في مصر كلها من يود بقاءها في حوزة الدولة الرومانية، حتى الروم، ولم يكن هؤلاء الروم يثقون بدوام ملك الدولة الرومانية بعد تكرار هزيمتها أمام الفرس وأمام العشائر الهمجية في أوروبة الشرقية وأوروبة الوسطى، ومن كان من الروم يدافع الأجانب عن أرض مصر، فإنما كان يدفعهم ليستبقي له ملك الأرض، ويتحين الفرصة لاقتطاعها من الدولة البيزنطية أو الدولة الرومانية الشرقية، فلم يكن حكم الرومان حكم رضى من المحكومين، ولا حكم ثقة بالبقاء والدوام.
كان القبطيون، أو أبناء البلاد من غير الروم واليهود على أشد السخط من الدولة الرومانية، لأسباب دينية وأسباب سياسية؛ إذ كانت كنيسة بيزنطة قد نازعت كنيسة الإسكندرية سلطانها وأرادت أن تفرض عليها مذهبا في المسيحية لا تقره، وهو المذهب الذي اشتهر باسم المذهب الملكي، واعتقد التابعون له أن المسيح ذو طبيعتين، خلافا للإسكندريين الذين كانوا يدينون بطبيعة واحدة، ويطلق عليهم خطأ اسم اليعقوبيين، وقد كان المصريون يثورون على الدولة الرومانية قبل دخولها في المسيحية ويقابلون اضطهادها بالإضراب أو بالرهبانية والاعتكاف على الصوامع والأديرة في الصحراء، ثم دان عواهل الرومان منذ أيام قسطنطين بالمسيحية، فتغير سبب الاضطهاد ولم يتغير طغيانه وبغضاؤه التي شقي بها أبناء البلاد عدة قرون. كان الاضطهاد لاختلاف الدين، فتحول إلى اضطهاد لاختلاف المذهب والنحلة، ولم يزل أتباع الكنيسة الوطنية يرمون أتباع الكنيسة الملكية بالكفر والمروق، ويقولون عنهم: إنهم يمزقون طبيعة السيد المسيح ويؤمنون بإلهين مختلفين، ومن قبل هذا كان النزاع السياسي الوطني قد بلغ غايته بين المحكومين والحاكمين، ولكن المحكومين - على الأقل - كانوا يستقلون بالعقيدة في الأمور التي تصطدم فعلا بسلطان الدولة، فلما دان عواهل الروم بالدين المسيحي فرضوا لأنفسهم سلطانا روحيا إلى جانب السلطان السياسي، ولم يتركوا للمحكومين منفسا يشعرون فيه باستقلال الرأي والضمير، وقد تفاقم الخطب في عهد الإمبراطور فوقاس - قبل الفتح الإسلامي مباشرة - فصدر أمره إلى ولاته على مصر بطرد جميع الوطنيين من وظائف الحكومة، وإلزامهم طاعة الكنيسة في القسطنطينية، ويكفي لبيان السخط على الدولة الحاكمة أن الخلاص منها أصبح حلما من الأحلام التي تساور زعماء الكنيسة الوطنية في يقظتهم ومنامهم، فرأى البطرق بنيامين في منامه أن مصر ستفتح لأناس مختونين ينقذونها من أعدائها المتسلطين عليها، وروي هذا الحلم على روايات مختلفة منسوبا إلى أناس غير البطرق بنيامين.
ولم تكن عداوة المصريين للدولة القائمة خافية على سكان البلاد المصرية من الروم، بل هم كانوا يعلمون أن كراهة المصريين للسكان «المحليين» من الروم أشد من كراهتهم لرؤسائهم في القسطنطينية؛ لأن هؤلاء الروم المحليين يخالفون الوطنيين في العقيدة والجنس كما يخالفهم رؤساؤهم في العاصمة الكبرى، ويزيدون على رؤسائهم بعداوة أخرى هي عداوة المنافسة الشخصية والغطرسة المحسوسة، ويحيك في نفوسهم أن كل زيادة في سلطان الوطنيين نقص في سلطان الولاة والموظفين الرسميين، وبخاصة بعد التجاء الدولة إلى استرضاء الوطنيين ببعض مناصب الرئاسة والقيادة، وتوكيلهم في تحصيل الضرائب والإشراف على حقوق الالتزام في الجهات النائية، فهذه العداوة المحلية تضاف إلى العداوة العامة التي تكون على الدوام بين الدولة الغاصبة والأمة المغصوبة. فلا جرم يتخوف الروم المحليون من أبناء البلاد عند هجوم العرب على تخومها، ويبلغ من تخوفهم وسوء ظنهم أنهم يفضلون الانفراد بالدفاع عنها على الاستعانة بجيش من أبنائها، ولم يكن هذا الجيش قائما قبل ذلك للاستعانة به في ساعة الخطر المفاجئ. فلما وجد الروم المحليون أن الأمر يحتاج إلى تنظيم جيش جديد مستعد للدفاع في حالة الاطمئنان إليه، عظمت عليهم مشقة التنظيم العاجل، فانفردوا كذلك بشروط الصلح والاتفاق، فكانت شروطهم غير الشروط التي اتفق عليها الوطنيون.
وينبغي أن نتنبه إلى خطأ يتعرض له المؤرخون في هذا السياق؛ لأنهم يقيسون الأمور في ذلك العصر على أشباهها في العصر الحديث، فيخطر لهم أن الروم سكان مصر كانوا يشعرون مع الدولة القائمة بوحدة الوطنية أو وحدة الجنس والقومية، وليس لهذا الخاطر مسوغ من تكوين الدولة، ولا من وحدة العنصر، ولا من شعور الولاء للنظام الحكومي الذي كان قائما في دولة الرومان شرقا وغربا عند فتح العرب للديار المصرية.
لم تكن الدولة الرومانية دولة روم بمعزل عن اللاتين وسائر الأقوام التابعين لرومة القديمة ورومة الجديدة؛ أي: القسطنطينية، بل كان الروم اليونانيون قلة في مناصب الدولة الشرقية، وكان اللاتين من أهل الغرب يشعرون أن رومة الجديدة قد جارت على مكانة رومة القديمة وعرضتها للهوان والإهمال، وكان الرعايا في الشرق والغرب خليطا من الأجناس المتعادية المتنافرة، لا تربطهم رابطة غير سلطان القوة والخوف من الغارات المشتركة والقبائل البربرية، ولم يكن نظام الجلوس على العرش قائما على وراثة محترمة أو حقوق مرعية، بل كان باب القصر المالك مفتوحا لكل غالب وغاصب، وكان فوقاس على عرش القسطنطينية وحوله أناس يتآمرون مع هرقل حاكم إفريقية الشمالية في ذلك الحين لإغرائه بالهجوم على العاصمة وانتزاع العرش من صاحبها، فقتل فوقاس في هذا الصراع، وخلفه هرقل بتأييد المنشقين على العاهل القتيل، ثم انقلب هؤلاء على هرقل بعد تأييده، فهم بترك العاصمة والانتقال إلى إفريقية حيث كان، ولولا أن بطرق العاصمة خاف على مكانته من منافسة كنيسة الإسكندرية وكنيسة رومة القديمة، لانتقل إلى إفريقية وترك الدولة الشرقية للمغيرين عليها، ولكن بطرق العاصمة فتح له كنوز خزائنه وحشد له أعوانه، واستخدم سلطانه الديني في تهدئة جأشه وتوهين الدعاوى التي ادعاها عليه أعداؤه ومنازعوه، وهذا كله يجري بعلم الولاة الكبار والقادة البارزين، فيضعف في نفوسهم ولاء الطاعة والإذعان، كما يضعف فيها ولاء الإخلاص والوفاء. ولم يكن أحد في الدولة الرومانية يجهل أنها دولة منهارة تتصدع وتؤذن بالزوال، ولم يكن قد غاب عن بالهم هزائم هرقل وأسلافه أمام الفرق وأمام القبائل البربرية، ولا غاب عنهم أن أساطين الدولة يتربصون به الدوائر من الداخل لمنازعته السلطان، أو لتحويل الدفة مع اتجاه الريح، وقد كان لها اتجاه مختلف كل الاختلاف ما بين عام وعام.
فالمؤرخ الذي يقيس موقف الروم المحليين في ذلك العصر على مواقف العصر الحاضر يجهل الموقف ويخطئ القياس، إذ لم يكن هنالك شعور قومية من سلالة اللحم والدم، ولا شعور وطنية من تقاليد النظام السياسي وقواعد الحكومة، وكل ما كان هنالك أن آحادا من زعماء الروم المحليين في مصر كانوا يعتمدون على قوة القسطنطينية للمحافظة على مصالحهم «المحلية» والتغلب على الوطنيين، وكانوا مع هذا الاعتماد على قوتها يشكون في دوامها ونجاحها، ولا يطمئنون إلى وعودها ولا يأمنون انقلابها، وخطتهم هذه إنما هي خطة مداورة واغتنام فرصة، قد تتحول من عاهل إلى عاهل كما تتحول من فريق إلى فريق.
Bog aan la aqoon