أما رحلاته إلى غير الحبشة فالذي لا شك فيه أنه قد رحل إلى الشام وبيت المقدس، وحمل إليهما بضاعة من اليمن والحبشة والحجاز، ولكن الذي تحيط به الشكوك رحلة له إلى مصر، يوشك - لولا ما فيها من الخرافة - أن تكون أقرب الرحلات إلى التصديق؛ لأن جهله بمصر أدعى إلى الشك من بعض الخرافات، فإن لم تكن رحلة إليها فعلم بها على الأقل يساوي العلم بالمشاهدة والاختبار.
وخلاصة هذه الرحلة، كما تناقلها مؤرخو العهد، أن عمرا كان يرعى إبله وإبل أصحابه في جبال بيت المقدس نوبا بينه وبين أولئك الأصحاب، فبينما هو يرعى إذ أقبل إليه شماس يكاد يهلك من العطش، فسقاه عمرو حتى روي، وتركه ينام مستريحا إلى جواره وإنه لنائم إذ خرجت عليه حية عظيمة، فقتلها عمرو قبل أن تصل إليه، فاستيقظ الشماس وشكره وقبل رأسه، وقال له: لقد أحياني الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فكم ترجو أن تصيب من تجارتك؟ قال: أرجو أن أشتري بعيرا فتكون لي ثلاثة أبعرة، فسأله الشماس: كم دية أحدكم بينكم؟ فأجابه عمرو: إنها مائة من الإبل.
فقال الشماس: لسنا أصحاب إبل بل أصحاب دنانير، فكم تكون الدية بالدنانير؟ قال: ألف دينار.
عند ذلك أنبأه الشماس أنه غريب في بيت المقدس، قدم إليه وفاء بنذر قديم، وسيعود إلى إسكندرية بلده، وعليه عهد الله لئن صحبه إليها ليعطينه ديتين؛ لأن الله تعالى قد أحياه به مرتين.
وسأله عمرو: كم يكون مكثه في هذه الرحلة؟ فأخبره الشماس أنه شهر ينطلق في ذهابه عشرا، ويقيم بالإسكندرية عشرا، ويعود في عشر.
فانطلق عمرو وصاحب له حتى انتهوا إلى الإسكندرية، فرأى من عمارتها وثروتها ما أعجبه، ووافق دخوله إليها عيدا يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم يترامون بكرة من ذهب، ويحفظون فيما اختبروه منها أن من وقعت في كمه لم يمت حتى يملك عليهم، فلما جلس عمرو والشماس على مقربة من ملعب الكرة، أقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فتعجب القوم لأنها لم تكذبهم خبرها في مرة من المرات، وتساءلوا: أترى هذا الأعرابي يملكنا؟
ثم حدث الشماس قومه حديث إنقاذه على يدي عمرو، فجمعوا له المال الذي وعده به، ورده محروسا مكرما إلى أن بلغ أصحابه.
تلك خلاصة القصة التي تناقلها المؤرخون عن رحلة عمرو إلى مصر قبل إسلامه، وهي قصة مريحة في تلفيقها؛ لأن القارئ لا يتعب في الاهتداء إلى مواضع التلفيق منها، فلا يخفى على قارئ من قراء العصر الحاضر موضع التلفيق من حكاية الكرة، ولا موضع المبالغة من حكاية الدنانير، وشفاعة القصة الوحيدة أنها تروي لنا مدخل عمرو مصر على أقرب الوجوه أن يكون هو الوجه الصحيح، وهو النظر إلى شعبها وحكومتها وعمارتها ومجمل أحوالها في صحبة شماس يريه من أسرار ذلك جميعه ما لا يراه في صحبة رجل غيره، إذ كان الشماسون يومئذ أعرف الناس بحقائق الخلاف بين الحكومة والكنيسة وبين شعب الكنيسة في داخلها، وكان عمرو خليقا أن يعرف منه مصر تلك المعرفة التي هونت عليه الهجوم على فتحها بذلك العدد القليل من الجند، وتلك العدة القليلة من السلاح.
غير أن هذه القصة على أية حال ليست مرجعنا الوحيد في العلم بزيارة عمرو للديار المصرية، فقد روى الكندي أنه كان يحمل التجارة إليها كما كان يحملها إلى بيت المقدس والشام.
والغريب حقا ألا يكون عمرو قد زار مصر في جاهليته مرة أو مرات، ويتجاوز حد الغرابة أن يكون قد وصل إلى تخوم مصر تاجرا ومقاتلا ولم يسمع من أخبارها الوافية ما فيه غنى عن الزيارة!
Bog aan la aqoon