Wakiilka Qarsoodiga ah: Sheeko Fudud
العميل السري: حكاية بسيطة
Noocyada
تمتم، وهو يتشاور مع نفسه: «يا ترى ما أفضل شيء أفعله الآن؟»
قال صوت أجش من عند مرفقه، بازدراء هادئ: «وطد علاقتك مع المرأة فهي تستحق.»
بعد التفوه بتلك الكلمات، سار البروفيسور مبتعدا عن الطاولة. أجفل أوسيبون، الذي باغتته تلك الفكرة، وظل ساكنا، تعلو وجهه نظرة توحي بانعدام الحيلة، وكأنه تسمر في الكرسي الذي كان جالسا عليه. عزف البيانو الوحيد، من دون مقعد عازف يساعده، بعض الألحان الحماسية، وبدأ بمختارات من ألحان وطنية، وفي النهاية عزف له لحن «بلو بيلز أوف سكوتلاند». أخذت الألحان الموسيقية غير المترابطة تتلاشى من خلفه وهو يصعد الدرج ببطء، ويعبر القاعة، ويخرج إلى الشارع.
أمام الباب الكبير، اصطف عدد من بائعي الجرائد بعيدا عن الرصيف يوزعون بضاعتهم من صحف تافهة. كان يوما باردا وقاتما من أيام أوائل الربيع؛ وتوافقت السماء الملبدة بالغيوم والشوارع المبتلة بالطين والرجال ذوو الأسمال البالية تمام الاتفاق مع اندفاع أوراق الصحف الرطبة المليئة بهراء ملطخ بأحبار الطباعة. كانت الملصقات، الملطخة بالأوساخ، تزين حجارة الرصيف مثل بساط حائط. كان بيع صحف بعد الظهيرة منتعشا، ولكن بالمقارنة بالحركة السريعة المتواصلة لسير المارة، كانت النتيجة هي عدم الإقبال عليها، وقلة التوزيع. نظر أوسيبون بتعجل إلى كلا الاتجاهين قبل أن ينخرط مع تيارات المارة عبر الشارع، ولكن البروفيسور كان قد اختفى بالفعل عن الأنظار.
الفصل الخامس
كان البروفيسور قد انعطف في شارع يسارا، وسار فيه، رافعا رأسه بصرامة، وسط حشد من الناس كان كل واحد منهم يفوق قامته القصيرة طولا. لم يكن مجديا أن يتظاهر أمام نفسه بأنه لم يكن محبطا. ولكن ذلك كان مجرد شعور؛ إذ لم يكن من الممكن أن تضطرب رزانة تفكيره من فشل كهذا أو من أي فشل آخر. في المرة القادمة، أو التي تليها، ستوجه ضربة قوية، شيء مذهل حقا، ضربة مدوية لدرجة أن تحدث أول تصدع في الواجهة المهيبة للصرح العظيم للمفاهيم القانونية التي تحمي الظلم السافر للمجتمع. وإذ كان ينحدر من أصل متواضع، ويتسم بمظهر رذيل وقف عقبة أمام قدراته الطبيعية الكبيرة، اتقدت مخيلته مبكرا بحكايات رجال ارتقوا من أعماق الفقر إلى مواقع السلطة والثراء. كانت نقاوة فكره الشديدة والتي كادت تصل إلى درجة الزهد، ممتزجة بجهل مذهل بما يجري في العالم، قد وضعت أمامه هدفا، هو الوصول إلى السلطة والمكانة، أراد تحقيقه من دون حيلة أو حظوة أو لباقة أو ثروة؛ وإنما بجدارته وحدها. ومن ذلك المنظور، اعتبر نفسه مستحقا لنجاح مفروغ منه. كان والده - الذي كان رجلا متحمسا رقيقا أسمر اللون ذا جبهة فيها ميل - مبشرا متجولا ومؤثرا بإحدى الطوائف المسيحية الغامضة والمتزمتة؛ كان رجلا واثقا تمام الثقة في فضائل صلاحه. ما إن حلت في الابن، الذي كان ذا نزعة فردية بطبعه، علوم الجامعات حلولا تاما محل الإيمان الكنسي، ترجم هذا الموقف الأخلاقي من تلقاء نفسه إلى نزعة تعصب محموم تجاه طموحه. ورعا هذه النزعة وكأنها شيء مقدس بطريقة علمانية. فتحت رؤيته محبطا عينيه على طبيعة العالم الحقيقية، الذي كانت أخلاقياته مصطنعة وفاسدة وتقود إلى الكفر. إن طريق حتى أكثر الثورات قابلية للتبرير تمهده الدوافع الشخصية المخفاة تحت غطاء العقائد. وجد سخط البروفيسور في ذاته علة غائية أحلته من خطيئة الركون إلى التدمير واتخاذه عاملا للوصول إلى طموحه. كان تدمير إيمان العامة بالشرعية هو التركيبة غير الكاملة لتعصبه المتحذلق؛ ولكن الاقتناع اللاواعي بأن إطار نظام اجتماعي قائم لا يمكن تحطيمه فعليا إلا ببعض أشكال العنف الجماعي أو الفردي كان اقتناعا دقيقا وصحيحا. استقر في عقله أنه شخص لديه القدرة على تمييز الصواب من الخطأ وتحمل المسئولية عن أفعاله. بممارسة تلك القدرة بتحد مستميت، تحصل لنفسه على مظاهر القوة والهيبة الشخصية. كان لا يمكن إنكار أن ذلك كان راجعا إلى ما كان يشعر به من مرارة ونزعة إلى الانتقام. هدأ هذا من اضطرابها؛ وربما لا يسعى أكثر الثوريين تحمسا، بطريقتهم الخاصة، إلا إلى تحقيق سلام مشترك مع باقي البشر، السلام الذي يكتنفه سكون الغرور، أو إشباع النزعات الغريزية، أو ربما استرضاء الضمير.
ضائعا وسط الزحام، بائسا وضئيل الحجم، تأمل واثقا في قدرته، مبقيا يده في الجيب الأيسر لسرواله، وقابضا برفق على الكرة المصنوعة من المطاط الهندي، الضمان الأمثل لحريته المهددة لمن سواه؛ ولكن بعد فترة، انتابه شعور بالاستياء من مشهد الطريق الذي يعج بالسيارات والرصيف المزدحم بالرجال والنساء. كان في شارع طويل مستقيم لا يشغله سوى قلة من البشر؛ ولكن كلما نظر من حوله وجال ببصره إلى الأفق الذي تحجبه المباني العملاقة، أحس أن قوة الكتلة البشرية تكمن في أعدادها. كانوا مثل الجراد في انتشارهم، ومثل النمل في كدهم، ومثل قوى الطبيعة في طيشهم، يواصلون اندفاعهم دون ترو وبنظام وانهماك، لا يتأثرون بعاطفة، ولا منطق، ولا حتى بإرهاب.
كان ذلك هو مظهر الشك الذي كان يخشاه أكثر من غيره. عدم التأثر بالخوف! في كثير من الأحيان عندما كان يتجول خارجا، حينما يتصادف أيضا أن يخرج من قوقعته، كانت تنتابه تلك اللحظات من انعدام الثقة المخيف والمعقول في البشر. ماذا لو لم يتمكن أي شيء من أن يؤثر فيهم؟ تنتاب لحظات كتلك جميع الرجال الذين يطمحون إلى فهم مباشر للطبيعة البشرية؛ للفنانين، أو السياسيين، أو المفكرين، أو المصلحين أو القديسين. إن هذه حالة عاطفية دنيئة، تحصن منها العزلة شخصية سامية؛ وبابتهاج شديد، فكر البروفيسور في الملاذ المتمثل في غرفته، وخزانتها المقفولة بقفل، الضائعة في قفر من المنازل الفقيرة، صومعة اللاسلطوي المثالي. من أجل الوصول إلى أقرب مكان يمكنه أن يستقل منه حافلة المواصلات العامة، انعطف بسرعة وخرج من الشارع المكتظ بالناس إلى زقاق ضيق ومظلم مرصوف بالحجارة. على أحد الجانبين، كانت المنازل المنخفضة المبنية من الآجر بنوافذها المغبرة تحمل المظهر الخفي والفاتر لاضمحلال لا يمكن إصلاحه، هياكل خاوية تنتظر هدمها. أما الجانب الآخر فلما يكن خاويا تماما من مظاهر الحياة بعد. في مواجهة مصباح الغاز الوحيد، كانت توجد فتحة مغارة تاجر أثاث مستعمل، وفي أعماق ظلمة درب ضيق ومتعرج وسط غابة عجيبة من خزانات تتشابك فيها أرجل طاولات، كانت تتلألأ مرآة مستطيلة عمودية طويلة مثل بركة ماء في غابة صغيرة. وفي العراء، كانت تقبع أريكة بائسة منبوذة، وبجوارها كرسيان من طرازين مختلفين. أما الإنسان الوحيد الذي سلك الزقاق، بالإضافة إلى البروفيسور، والذي كان رجلا قوي البنية يمشي منتصبا آتيا من الاتجاه المعاكس، فتوقف فجأة ولم يكمل خطواته المتمايلة.
وقف قليلا على أحد الجانبين مترقبا وقال: «مرحبا!»
كان البروفيسور قد توقف بالفعل ، واستدار نصف استدارة جعلت كتفيه على مقربة شديدة من الجدار الآخر. سقطت يده اليمنى برفق على ظهر الأريكة المنبوذة، وتعمد ترك اليسرى في جيب سرواله، وأضفت العدسات المستديرة ذات الإطار السميك طابعا متجهما على وجهه ذي المزاج المتقلب والبارد.
Bog aan la aqoon