يحكم عليه رؤساؤه أنه «قدير، وربما كانت قدرته أشد مما ينبغي»، ويقولون عنه ذلك وهم يهزون رءوسهم، ويخفضون أصواتهم تخفيضا له مغزاه.
أجل لقد كانت قدرته أشد مما ينبغي، ولقد أصابوا فيه الحكم، وقد أحدث التفوق العقلي في هلمهلتز واطسن آثارا شديدة الشبه، بما أحدثه النقص الجثماني في برنارد ماركس، كان برنارد قليل العظام كثير العضلات، فانعزل عن قرنائه. ولما كان هذا الإحساس بالعزلة بكل المعايير السائدة تفوقا عقليا، فقد أصبح بدوره سببا في زيادة الاعتزال، وكذلك شدة اقتدار هلمهلتز جعلته شديد الإحساس بنفسه وبعزلته بدرجة مقلقة، فكان الرجلان يشتركان في العلم بأنهما فريدان بين أضرابهما - كان برنارد ذو العيب الجثماني يعاني طوال حياته من إحساسه بالعزلة، ولكن هلمهلتز واطسن لم يدرك تفوقه العقلي إلا منذ عهد قريب جدا، فأصبح كذلك يدرك الخلاف بينه وبين الناس المحيطين به، كان هذا الرجل بطلا في لعبة السكواش على الدرج المتحرك، كان عاشقا لا يفتر (يقال إنه اتصل بستمائة وأربعين فتاة مختلفة في أقل من أربع سنوات)، ولكنه أدرك فجأة أن الألعاب والنساء والنشاط الاجتماعي بالنسبة إليه مزايا ثانوية، أما في الواقع وفي حقيقة الأمر فقد كان يهتم بشيء آخر، ولكن بماذا؟ تلك هي المشكلة التي أتى برنارد ليناقشه فيها - أو قل إنه أتى ليستمع إلى صديقه مرة أخرى وهو يناقشها؛ لأن هلمهلتز كان دائما يقوم وحده بالحديث.
والتقى به وهو يخرج من المصعد ثلاث فتيات فاتنات، من مكتب الدعاية بالصوت الصناعي.
فتعلقن به وتوسلن إليه قائلات: «عزيزنا هلمهلتز، رجاؤنا أن ترافقنا إلى إكسمور، وتتناول معنا طعام العشاء.»
فهز رأسه وشق طريقه وسطهن قائلا: «كلا، كلا.» - «إننا لن ندعو رجلا آخر.»
ولكن هلمهلتز لم يهتز حتى بعد هذا الوعد الجميل، فأجاب قائلا: «كلا، إنني مشغول.» وواصل سيره في عزم شديد، فتعلق البنات بأذياله، ولم ييئسن من متابعته إلا بعدما اعتلى فعلا طائرة برنارد وأغلق بابها، ولم يخل من تأنيبهن.
وارتفعت الطائرة في الفضاء وهو يقول: «عجبا لهؤلاء النسوة!» وهز رأسه وقطب جبينه، ثم قال: «ما أشد إزعاجهن!» ووافقه برنارد نفاقا ودهانا، متمنيا - وهو يتفوه بالكلام - أن يكون له من البنات ما لهلمهلتز وبقليل من المشقة مثله، ثم استولت عليه فجأة رغبة ملحة في الزهو بنفسه فقال: «إنني سوف أصطحب ليننا كراون إلى المكسيك الجديدة.» وقد تكلف أن يكون الحديث عرضيا غير مقصود.
ولم يهتم هلمهلتز البتة لذلك فقال: «أفهذا صحيح؟» وصمت برهة ثم قال: «لقد انقطعت خلال الأسبوع أو الأسبوعين السابقين عن جمعياتي وفتياتي جميعا، ولا تستطيع أن تتصور الضجة التي أحدثوها في الكلية من أجل ذلك، ولكن الأمر كان يستدعي ذلك فيما أظن، والنتائج ...» وهنا تردد في الكلام ثم قال: «ماذا أقول؟ إنها عجيبة جدا.»
إن النقص الجثماني قد يسبب فيض النشاط العقلي، والظاهر أن العكس صحيح، فالنشاط العقلي المتوفر يجوز - لأغراضه الخاصة - أن يؤدي بصاحبه إلى عزلة مقصودة، يتكلف فيها العمى والصمم، كما يؤدي إلى الزهد، الذي يتصنع فيه العجز المطلق.
ولبثا بقية الرحلة الهوائية القصيرة صامتين، ولما بلغا غرفة برنارد واستلقيا مسترخيين فوق الأرائك الهوائية عاد هلمهلتز إلى الحديث.
Bog aan la aqoon