Aduunka Iskandar Akbar
عالم الإسكندر الأكبر
Noocyada
شكل 4-2: شمال تيساليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
لا شك أن فيليب كان يثمن روح إبرام المعاهدات في اليونان؛ فمثلما تحالفت أثينا مع الميسينيين سنة 355 على الرغم من تحالفها منذ 369 مع عدو الميسينيين القديم اللدود إسبرطة، كانت علاقات فيليب تتقلب بالمثل تبعا لما تمليه المصلحة. ومن ناحية أخرى، كان يثمن قيمة الاتفاقيات المتعددة الدول، ووظفها في سيطرته المتنامية على الدول الإغريقية. أقيمت اتحادات كونفيدرالية من خلال معاهدات ثنائية في القرن الرابع، وعندما جمعت شبكة المعاهدات بين عدد كبير من الدول، برزت آليات لاتخاذ القرارات وتنفيذها بأسلوب فيدرالي، كمجلس لممثلي الدول الحليفة. كانت الدولة المسئولة عن الاتحاد الكونفيدرالي تقوم مقام الزعيم، أو القائد الأعلى، لتنسيق ما يلزم من دفاع مشترك وهجوم لكل الأعضاء. وازدادت مقدون نشاطا أكثر فأكثر في عالم التحالفات هذا؛ فلعقود طويلة، كما نوهنا، أبرم الملوك المقدونيون اتفاقات ثنائية تتسم بالطبيعة المائعة ذاتها كحال الاتفاقات المبرمة بين الدول الإغريقية. كان بيرديكاس بارعا في مثل هذه المناورات أثناء فترة الحرب البيلوبونيزية. تعامل الملوك المقدونيون أيضا مع الأحلاف، وخصوصا الحلف الخالكيذيكي القريب منهم، والاتحاد الإمبريالي الأثيني الذي شكل باسم الحلف الديلوسي. اتفق فيليب وأثينا في سنته الأولى على العرش على شروط معاهدة، وفي السنة التالية أعيد تأكيد التحالف بين مقدون ودولة لاريسا التيسالية، وبعدها بثلاث سنوات تحالف مع الحلف الخالكيذيكي، وسنة 346 أرسل اثنين من كبار ضباطه - أنتيباتروس وبارمنيون - إلى أثينا لتقديم شروط اتفاقية سلام ثنائية، فجرى تصويت في المجلس الأثيني أسفر عن إقرار هذه الاتفاقية باسم «سلام فيلوكراتيس».
كانت بجانب هذه الأحلاف عصب نظمت لرعاية الأحرام الدينية المهمة، وتسمى أمفكتيونيات أو أحلاف تضم الدول المحيطة (وتسمى بالإغريقية «أمفي») بأرض الحرم. وكانت أصول الأمفكتيونية الدلفية في البر الرئيس اليوناني تعود إلى الفترة العتيقة، وبحلول القرن الرابع اتسعت عضويتها إلى دول لم تكن بحال مجاورة لحرم أبولو، كإسبرطة وأثينا. وعلى الرغم من أن العمل العدواني لم يكن الوظيفة الرئيسة لأي أمفكتيونية، فربما كانت حماية الحرم المقدس تقتضيه. بالإضافة إلى تلك العصب المبكرة، أسفر تطور جديد في ثمانينيات القرن الرابع عن استحداث شكل آخر من أشكال الاتحاد يناضل من أجل الاستقلال الذاتي لدول فرادى لا اتحاد فيدرالي؛ سعيا إلى تحقيق السلام المشترك، ولا تعود أصوله إلى اليونان بل إلى بلاد فارس، التي عادت آنذاك كلاعب فاعل في الشئون الإغريقية؛ إذ قرر الملك أرتحششتا الثاني بنود «سلام الملك» سنة 387 لإنهاء الحرب المستمرة، التي كانت آثارها تمتد عادة فتصل إلى آسيا الصغرى.
يرى الملك أرتحششتا أن المدن الواقعة في آسيا وجزيرتي كلازوميناي وقبرص هي وحدها التي تتبعه. وسوى ذلك ستكون كل المدن الإغريقية الأخرى، صغيرها وكبيرها، مستقلة ذاتيا. ولو رفض أحد قبول هذا السلام، فسأشن عليه حربا أنا ومن يشاركونني الهدف ذاته، برا وبحرا، بالسفن والمال على السواء.
كما عقدت مؤتمرات دورية (375 و371 و366 و362) لمناقشة شروط هذا السلام وإعادة التأكيد عليها.
تورط فيليب في شئون الأمفكتيونية الدلفية مع استعار الحرب حول أرض أبولو، من منتصف خمسينيات ذلك القرن إلى منتصف أربعينياته. نتجت هذه الحرب، المعروفة باسم الحرب المقدسة، عن أفعال دولة عضو وهي فوكيس، عندما فرض عليها مجلس الأمفكتيونية غرامة لإقدامها على زراعة جزء من الأرض المقدسة. وبدلا من أن تدفع فوكيس الغرامة عارضتها وحشدت جيشا يضم في صفوفه مرتزقة، واستولت على معظم الثروة المحفوظة في دلفي. وفي ظل توافر الثروة والقوة الكبيرتين، نقلت فوكيس غضبها إلى أرض دول أخرى في الأمفكتيونية على مدى السنوات التسع التالية. ولوضع حد لقوة فوكيس، دعت الأمفكتيونية الدلفية قوة خارجية للإتيان بجيشها إلى وسط أثينا لتحقيق هذا الهدف؛ فنجح فيليب وجيشه في هزيمة فوكيس سنة 346، وكسروا قاعدة قوتها، وذهبت عضويتها في الأمفكتيونية الدلفية إلى فيليب، وبفضل هذا المنصب ترأس فيليب دورة الألعاب البيثية في دلفي في السنة ذاتها.
جلبت هيمنة مقدون المتزايدة في المجال الإغريقي دعم الكثيرين ممن رأوا فيليب حلا لصراع لا ينتهي بين الدول الإغريقية والأحلاف. من أوضح الأمثلة على ذلك الأثيني إيسقراط الذي عاش 98 سنة (من 436 إلى 338). كانت الحرب هي الحالة الدائمة في تلك السنوات، ووجهت نتائجها جهود إيسقراط نحو البحث عن السلام، فكتب خطبا إلى عدد من الزعماء الأقوياء حاضا إياهم على التوفيق بين الدول الإغريقية، ثم توجيه عدوانهم إلى الخارج؛ أي إلى الفرس. وفي خطبته المعنونة «فيليبوس»، حض فيليب على محاولة التوفيق بين الدول الكبرى: أرجوس وإسبرطة وطيبة وأثينا؛ لأن توحيد هذه القوى سيقلل كثيرا صعوبة ضم الدول الصغرى. ويمضي إيسقراط قائلا إنه ينبغي عندئذ على فيليب توسيع نشاطه في آسيا ضد الفرس البرابرة؛ ليكتسب أرضا يستحبها الإغريق ويقضي على عدو خطير. كان لفيليب أصدقاء آخرون؛ إذ تورد قائمة بأسماء «الخونة» قدمها رجل الدولة الأثيني ديموستيني، الذي لم يغير موقفه الناقد لفيليب، أشخاصا من تيساليا وأركاديا وأرجوس وإليس وميسيني وسيكيون وكورنثة وميجارا وطيبة ووابية وأثينا (ديموستيني، «عن التاج» الكتاب الثامن عشر، 295). وقد اجتذبت هؤلاء «الخونة» وغيرهم إلى فيليب نجاحاته، وكذلك سماته الشخصية. روى الخطيب ورجل الدولة الأثيني إيسخينيس أن مواطنه ديموستيني وصف فيليب بأنه «دينوتاتوس» أثناء عودة جماعة المبعوثين الأثينيين، التي كان كلاهما عضوا فيها، من مؤتمر مع الملك المقدوني («عن السفارة» الكتاب الثاني، 41). وعلى نحو ما بينا آنفا، فإن لكلمة «دينوس» الإغريقية معاني عدة، فمنها الإيجابي كالرائع أو المدهش أو القوي، ومنها المستحسن كالحاذق أو الماهر، لكن معناها الغالب هو المهيب أو الرهيب أو الخطير. وقد يستشعر المرء كل هذه السمات في موقف واحد في حضور مثل هذا الشخص.
برزت تحذيرات من الثقة في فيليب وشعبه المقدوني؛ إذ تحدث ديموستيني بصراحة ودون مواربة إلى الأثينيين في خطبته الفيليبية الأولى، معلنا أن لامبالاتهم تذهب قدرتهم على منع فيليب من جر المزيد من الإغريق إلى أحبولته؛ فبينما كان الأثينيون يراقبون دون حراك، كان فيليب يكد بلا توقف. وفي خطبته الفيليبية الثالثة، كرر تحذيره من أن الأثينيين يكتفون بموقف المتفرج على الرجل وهو يكبر ويكبر.
في نهاية المطاف وعى هذه التحذيرات أناس في دول أخرى؛ إذ لم يكن «حلفاء» فيليب الإغريق على يقين من قيمة انخراطه في الشئون الإغريقية، وبحلول أواخر أربعينيات ذلك القرن، أقنع «حلفاؤه» الأثينيون «حلفاءه» الطيبيين في الأمفكتيونية بتوحيد صفوفهما ضد فيليب وشعبه المقدوني، وانضم إغريق آخرون أيضا إلى هذا الحلف الجديد، كالوابيين والآخيين والكورنثيين والميغاريين والإبيدوروسيين من شبه جزيرة بيلوبونيز ووسط اليونان، والليفكاديين والكوركيريين والأكارنانيين والأمبراسيين من الغرب. واستقطب فيليب تيساليا إلى صفه، وعندما قامت حرب أخرى وشقت صف أعضاء الأمفكتيونية الدلفية، عين فيليب قائدا للقوات المشتركة ضد البغاة. كان وجود الجيش المقدوني في وسط اليونان سببا كافيا للدول المعادية لفيليب لكي تعد العدة للحرب . وكما رأينا فقد التقت أعداد شبه متساوية (ما بين 30 ألفا و35 ألفا على كلا الجانبين) في خيرونية في صيف 338. قاد فيليب الجناح الأيمن في مواجهة المشاة الثقيلة الأثينية، وأما الإسكندر فاحتل موقعه للتعامل مع المشاة الطيبية وكان على رأس الجناح الأيسر، فحقق المقدونيون نصرا تاما.
اتجه فيليب إلى إبرام معاهدات جديدة، في البداية على أساس تسويات ثنائية مع الدول الإغريقية منفردة، ومن الجائز تماما أنه استعان بأرسطو وتلاميذ مدرسته في رسم الحدود الرسمية بين الدول كخطوة على طريق الحد من النزاعات. ثم تكشف محاولة لإقامة سلام مشترك في عموم اليونان عن تثمين فيليب هذا الشكل الحديث من أشكال التحالف؛ إذ دعا إلى مؤتمر للممثلين من كل أنحاء اليونان في كورنثة سنة 337، مقدما شروطا لتحالف هجومي ودفاعي على السواء بين الدول الإغريقية ومقدون، على أن يتولى فيليب قيادة القوات التي يقدمها كل الأعضاء في حالة الحرب، لكنه لن يكون عضوا في مجلس الحلفاء الذي كان مسئولا عن اتخاذ القرارات بحيث يقوم بدور المحكمة العليا. وفيما عدا شئون الحلف، ستكون كل الدول مستقلة، وأي دولة عضو تنتهك شروط التحالف تعاقب، ويعاقب أي فرد يحدث خللا في سير العمل في دولته أو يعمل مرتزقا لمصلحة الملك الفارسي. تمخضت صياغة هذه الشروط عن قيام الحلف الكورنثي الذي كان لوجوده قيمة كبيرة من نواح كثيرة، إحداها تيسير خطط فيليب الوليدة لشن حملة ضد الفرس. ولو افترضنا مطمئنين أنه قرأ خطبة إيسقراط الموجهة إليه، لجاز لنا وصف حملته آنذاك بأنها حملة بالنيابة عن الإغريق.
Bog aan la aqoon