تمهيد
مقدمة
1 - حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
2 - أصله المقدوني
3 - نسبه الأرغي
4 - مجاورة اليونان
5 - البقاء بالقوة
6 - ملاقاة التهديد البعيد
7 - إعادة بناء شخص الإسكندر
المراجع
تمهيد
مقدمة
1 - حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
2 - أصله المقدوني
3 - نسبه الأرغي
4 - مجاورة اليونان
5 - البقاء بالقوة
6 - ملاقاة التهديد البعيد
7 - إعادة بناء شخص الإسكندر
المراجع
عالم الإسكندر الأكبر
عالم الإسكندر الأكبر
تأليف
كارول جي توماس
ترجمة
خالد غريب علي
تمهيد
ينجذب المعلمون والكتاب المعنيون بتاريخ منطقة البحر المتوسط القديم إلى موضوع الإسكندر الثالث المقدوني؛ إن لم يكن بإرادتهم، فبفعل اهتمامات تلاميذهم وقرائهم؛ فرغبة الناس عارمة في معرفة كل ما تسعهم معرفته عن هذا الرجل الذي غير مسار التاريخ في عمره القصير. وقد احتل الإسكندر مكانة بارزة في المقررات التي درستها، وأعترف أنني وضعت مؤلفين صغيرين يتناولان جوانب معينة من سيرته، غير أنني لا أنتمي إلى كادر المتخصصين في الإسكندر الأكبر، ولم تكن نيتي وضع مؤلف يتناول سيرته وطبيعته. أعني أن هذا لم يكن حتى مجرد خطة دفينة، حتى لعبت الصدفة السعيدة دورها.
فمنذ بضع سنين تعرفت على آل برتراند - الذي يشغل الآن منصب محرر التكليف في دار نشر بلاكويل ببلشنج - في إطار تقييم عدد من المقترحات تمهيدا لنشرها المحتمل، وكان بعضها يتناول مسائل مقدونية؛ مما أثار في النهاية سؤالا طرحه آل علي: أيمكنني التفكير في نهج جديد لوضع سيرة للإسكندر تضم إلى سلسلة سير بلاكويل؟ كان سؤاله يلتمس اقتراحات لا مؤلفين. أحد التوجهات المغرية أن تتناول سيرة الإسكندر من المنظور الفارسي، لكننا لم نمض في هذا الطريق لأن المصادر اللازمة لهذا النهج أقل حتى من المصادر الإغريقية والرومانية التي تتناول الإسكندر.
بعد استنفاد كل الاحتمالات التقليدية، ذكرت اتجاها أتبعه دوما في مجالي البحثي، وهو اليونان فيما قبل التاريخ وفي فجر التاريخ؛ إذ تستلزم طبيعة الشواهد فهم السياق الأكبر. فهل من شأن تناول العالم الذي ولد فيه الإسكندر وترعرع أن يقدم لمحة عن طبيعة هذا الشخص ذاته؟ سبق أن اتبعت هذا المسار في حلقاتي الدراسية المعنونة «فتوحات الإسكندر: لماذا؟» التي كان الطلاب يستقصون فيها مجموعة منوعة من «تفسيرات» نجاح الإسكندر، كهويته المقدونية، وطبيعة مقدونيا ذاتها، وانتمائه إلى السلالة الملكية، وبنوته لفيليب وأوليمبياس، وعلاقاته مع الشعوب المجاورة، وحالة الإمبراطورية الفارسية أثناء حياته. فطرحت على آل إمكانية أن يوظف أحد المؤلفين هذا النهج لوضع سيرة من إصدار بلاكويل.
بعد ذلك بنحو أسبوعين دعاني آل إلى كتابة سيرة مختصرة للإسكندر تتمحور حول موضوع مقرري الدراسي. وبالرغم مما في هذه الدعوة من إطراء، فإنني اعترضت محتجة بأنني لست «متخصصة في الإسكندر»، فرد علي آل بقوله إن تناول الموضوع دون وجود فكرة محددة عن دوافع الإسكندر وشخصيته وأمانيه وأحلامه ربما يكون نقطة إيجابية.
وهكذا أقدم هذه الدراسة مصحوبة باعتذار أسوقه إلى كل «المتخصصين في الإسكندر»، الذين لا غنى عن أبحاثهم ومنشوراتهم للتوصل إلى أي فهم للإسكندر الثالث المقدوني. تسعى الدراسة إلى النظر بعمق في ظروف عالمه، إيمانا بعدم إمكانية فهم الأفراد بمعزل عن الثقافات التي تشكل حياتهم، دون الدخول في نقد المصادر، أو محاولة حل قضايا محددة تتعلق بالحقائق أو التفسيرات.
سيرا على خطى الكتب الأخرى في هذه السلسلة، لا يحتوي هذا الكتاب على حواش سفلية، وكل الأعمال المذكورة في المتن متضمنة في ثبت المراجع. وتشير الاستشهادات من قبيل «الكتاب السابع، 56» من «تاريخ هيرودوت»، إلى مؤلفين قدامى لا يلزم ذكر طبعة معينة عند النقل عنهم؛ بما أن الاستشهاد يقدم للقراء معلومات للعثور على مصدر الاقتباسات في أي طبعة. أما الإسنادات إلى مجموعات الشواهد الأكاديمية من قبيل «النقوش الإغريقية، المجلد الثاني، الجزء الثاني» فيتم نقلها بصيغة أتم بين قوسين في قلب المتن.
كانت قراءتي الشواهد وفي نفسي هدف مختلف، واستكشافي الأرض التي ولد فيها الإسكندر من سلسلة جبال بيندوس في الغرب إلى الخليج الثيرمي وما وراءه شرقا؛ مغامرة مثيرة؛ إذ تمخضت تنقلاتي بإرشاد من الخبيرين ثيو أنتيكاس ولورا وين أنتيكاس عن أفكار جديدة أساسية عن مقدونيا، وكيف كانت أرضها هدفا للفتوحات ونقطة انطلاق للفتوحات في آن واحد، ففتحت معرفتهما بالمنطقة وبالباحثين الذين يعكفون على تعزيز الشواهد التاريخية على ماضي مقدونيا أبوابا كثيرة، فكرية ومادية على السواء. ويعود الفضل في أكثر الأشكال التوضيحية إلى صداقاتهما مع سكان أرض الإسكندر الحاليين، وذلك على نحو ما ستكشفه مصادر هذه الأشكال.
ساهم أشخاص كثر بمساعدات لا غنى عنها في هذا العمل، فقرأ ثيو أنتيكاس مخطوطة الكتاب ثلاث مرات، مقدما اقتراحات وتصحيحات مشكورة؛ وقام زوجي وزميلي ريتشارد ريجبي جونسون بدور المصور الفوتوغرافي أثناء مغامرتنا المقدونية؛ وأدى لانس جينوت، طالب الدكتوراه بجامعة برنستون حاليا، مهمة إنشاء الخرائط؛ وأجرى ريان بوهلر، طالب الدكتوراه في التاريخ القديم، تعديلات على هذه الخرائط وأعد الكثير من الأشكال؛ وتبرع زميلي وصديقي دانيال وا بخبرته ووقته الثمينين لتحرير غالبية هذه الأشكال؛ وأتاحت منحة قدمها لي صندوق العوائد للبحوث التابع لجامعة واشنطن إعفائي من مهام التدريس لمدة ثلاثة أشهر قضيتها في استقصاء أرض مقدونيا، وتخصيص الوقت اللازم للبحث والكتابة. ومن جديد أعرب لشريكي في تأليف كتابين آخرين عن شكري على إعداد الفهرس، وهو عمل يستمتع به ويتقنه بحق. وأشكر آل برتراند وآخرين في بلاكويل ببلشنج لتعاونهم وتسامحهم طوال العملية برمتها.
مقدمة
يوجد موضوعان استحوذا على اهتمام غير عادي منذ القدم وحتى يومنا هذا في عالم اليونان القديمة، وهما هوميروس والإسكندر الثالث المقدوني، ويجدر بنا أن نذكر وجه الصلة بينهما؛ إذ زعم الإسكندر أنه ينحدر من نسل آخيل، ويقال إنه كان ينام وفي متناول يده نسخة من الإلياذة (ومعها سيفه بالطبع). هذان الموضوعان مترابطان من وجه آخر يساعد على تفسير جاذبيتهما على مر العصور؛ إذ يطرح كلاهما تساؤلات جادة يبدو كثير منها بلا جواب نظرا لطبيعة الشواهد التي وصلتنا. وربما تستحيل معرفة هوية هوميروس أو الإسكندر الحقيقية؛ إذ رأى بعضهم أن هوميروس لقب لا اسم شخص حقيقي، بمعنى أن هوميروس هو المغني الملحمي الأول الخيالي الذي تصوروه على رأس فرق الغناء الملحمي الإغريقية؛ ومن ثم كان هناك أكثر من هوميروس واحد جمعت حكاياتهم في النهاية كقصيدة طويلة واحدة، لكن كثيرين غير مقتنعين بهذا الطرح ، وهكذا يستمر الجدال. وتعزى الصعوبة في اكتشاف طبيعة الإسكندر إلى طبيعة ما وصلنا من شواهد تسبغ عليه شخصيات مختلفة متعددة؛ فمع أن حقيقة وجود فرد يعرف باسم الإسكندر الثالث المقدوني ليست محل شك، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة أكثر من إسكندر واحد؛ ومن ثم فالجدل الأكاديمي المحيط بهوميروس والإسكندر له جذور عميقة وأثار نقاشا محتدما.
موضوع هذه الدراسة هو الإسكندر، فلا نأتي على ذكر هوميروس إلا هامشيا؛ وبهذا نكون اجتنبنا الوقوع في الأحبولة المعروفة باسم «المسألة الهوميرية»؛ ف «مسألة الإسكندر» عويصة بما يكفي، وهي ليست مجرد شاغل أكاديمي؛ فبفضل قوة شخصية الإسكندر يجري تقديمها لجماهير شعبية فيما لا يحصى من الكتب والمقالات والقصص المصورة والوثائقيات والأفلام الطويلة، التي كلف إنتاج أحدثها، وعنوانه «الإسكندر» وأخرجه أوليفر ستون، مئات الملايين من الدولارات، وستنتج أفلام أخرى يقينا في محاولة لاكتشاف الإسكندر الحقيقي. ونتيجة لذلك، توجد بالفعل صور مختلفة كثيرة جدا لهذا الملك المقدوني، وتواصل هذه الصور الازدياد.
يصعب استيعاب هذا الموقف في البداية؛ بما أننا نعرف أسماء 20 من معاصريه نشروا كتابات عنه، لكن جزءا كبيرا من المشكلة منبعه أن هذه الكتابات ذاتها لم يكتب لها البقاء؛ فلم يكتب البقاء إلا لجزء من عمل معاصر واحد تضمنه عمل نشر فيما بعد، ونعني التقرير الرسمي الذي أعده قائد أسطول الإسكندر الذي أبحر عائدا من الهند إلى الخليج الفارسي، والذي كتب له البقاء ضمن سرد أوفى لحياة الإسكندر وضعه آريانوس في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد. أما سائر الأعمال الكبرى التي كتب لها البقاء فتعود إلى القرن الأول قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد؛ ومن ثم فقد وضعت بعد موت الإسكندر بثلاثة قرون أو أكثر. توجد أيضا مواد مقتبسة من أعمال أخرى - لم تصلنا - ضمنت أعمالا متأخرة؛ إذ كتب بطليموس، أحد ضباط الإسكندر وأصدقائه، قبل موته سنة 283 قبل الميلاد، تأريخا لقائده اعتبر من بين مصدرين أساسيين، مشهورين بموثوقيتهما، اعتمد عليهما آريانوس في مؤلفه. ما يدعو للأسف أن الجودة الظاهرية لكثير من الأعمال الأصلية الأخرى لم تكن عالية بالقدر نفسه، وهو ما يفسر عدم الحفاظ عليها؛ فعن أحد واضعي هذه الأعمال قال الخطيب ورجل الدولة الروماني شيشرون: «كان موضوعه سيئا، شأنه شأن أسلوبه في الحديث.» ونذكر مثلا أنه في معرض تفسير احتراق معبد أرتميس يوم ميلاد الإسكندر، ذكر كاتب العمل الذي احتقره شيشرون قراءه بأن أرتميس كانت بعيدة عن معبدها تساعد في وضع هذا الوليد غير العادي.
مثلما كشف ليونيل بيرسون في دراسته هذه «التأريخات الضائعة»، تخلط الروايات التي كتب لها البقاء ملخصات التأريخات السابقة بكتابات متأخرة؛ ومن ثم يشدد بيرسون على ضرورة فصل الإضافات الجديدة عن الكتابات القديمة للوقوف على هوية المؤلف المسئول عن أجزاء معينة من القصة. ولا يصدر أي حكم بالإجماع على عملية فرز الكتابات ونسبتها. وهكذا نجد باحثا حديثا - وهو دبليو دبليو تارن - يصف بطليموس بأنه «موثوق فيه» كمصدر، بينما نجد آخر لا يتفق مع هذا التوصيف، مؤكدا أن مصدر هذه المعلومة أحد التأريخات «غير الموثوق فيها». وسيؤثر هذا التباين على الصورة التي تبرز لنا؛ لأن معقولية أي إعادة بناء للشخصية تعتمد دون شك على موثوقية الشواهد.
لا يقتصر الجدل على البيانات الواقعية بشأن الموضوع الرئيس، والحقيقة أنه يمكن تجميع تسلسل زمني لا اختلاف عليه عموما للتواريخ والأحداث الأساسية في حياة الإسكندر القصيرة؛ غير أن إنجازاته كانت من العظمة بحيث تجعلنا نريد التعرف على دوافعه وأهدافه ومشاعره، بمعنى أننا باختصار نريد التعرف على الكينونة الداخلية والشخصية اللتين وجهتا حياة الملايين في اتجاهات جديدة بعد إنهاء حياة ملايين غيرهم. وفي هذه الناحية تحديدا تخذلنا المصادر. وصف أحد كبار الباحثين المحدثين الإسكندر بأنه حالم يرجو إقامة أخوية بين البشرية، ووصفه بلوتارخس - الذي عاش في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني بعد الميلاد - بأنه أعظم الفلاسفة. وسيقت حجج قوية دعما لتوصيف مناقض لهذا تماما؛ إذ يرى البعض أن الإسكندر برع في سفك دماء الملايين من البشر، أما صورته الذائعة الصيت كقائد فذ فتلطخها صورة أخرى له كسكير. ويعتقد أنه كان يرى نفسه بطلا هوميريا، أو ربما ابن الإله زيوس، أو من الجائز أنه كان مدفوعا بمكائد أمه أو بنرجسيته. ويرى بعضهم أن الصداقة كانت السبيل إلى نجاحه، بينما يعتقد آخرون أنه كان ببساطة يستغل الناس ويتخلى عنهم تبعا لنزواته المشوبة بالغضب، وذهب بعضهم إلى أن الإسكندر أدرك حكمة اعتناق عادات الفرس ما إن ألحق هزيمة بقواتهم، بينما تقول الحجج المعارضة إنه كان يرى نفسه بحق كملك شرقي. انطلق الإسكندر: (1) لمواصلة خطط أبيه. (2) أو للانتقام للإغريق من الفرس. (3) أو لأنه كان مدفوعا بحماس المستكشفين. هذا مجرد عدد ضئيل من التقييمات، لكنها تبرهن على صحة اعتراف برادفورد ويلز (الذي جاء في مراجعته كتاب «الإسكندر الأكبر: الحصافة والقوة» لمؤلفه فريتس شاخرماير، المنشورة في «أمريكان جورنال أوف أركيولوجي» 55 (1951) 433-436): «من الأمانة أن نعترف بأننا في النهاية نقدم الإسكندر بالصورة التي نريدها أو نراها معقولة.»
يبدو لي أنه يوجد متسع لنهج آخر في تناول هذا الشاب الإشكالي، الذي وصفه ويل كابي في كتابه «اضمحلال وسقوط الجميع تقريبا» وصفا موجزا وبدقة بالغة فقال: «لا أستطيع في الحقيقة أن أقول بالضبط ماذا كان هذا الشاب المزعج يظن نفسه فاعلا، ولماذا. ولست على يقين من أنه كان يستطيع تفسير هذه النقطة تفسيرا معقولا. كان من عادته تقطيب حاجبيه، ولا غرو» (الصفحة 48).
وأعترف - شأني شأن كابي، لكن على النقيض ممن وجدوا مفتاحا سريا إلى كينونته الداخلية - بأنني لا أستطيع قول ماذا كان الإسكندر يظن نفسه فاعلا. لكن توجد سبل لفهم الشخص الذي صار إليه الإسكندر، والأسلوب الذي تعامل به مع ظروفه؛ إذ توجد معلومات لا بأس بها معروفة عن عالمه؛ فالقرن الرابع قبل الميلاد موثق جيدا في الروايات التاريخية المكتوبة وفيما وصلنا من شواهد آثارية؛ وهذا مرجعه نوعا ما إلى أن الأحداث المضطربة التي شهدتها فترة حياة الإسكندر أثارت التعليقات، ونوعا ما إلى أن الحضارتين الإغريقية والفارسية قد صارتا آنئذ على مستوى عال من معرفة القراءة والكتابة بالمقارنة بالفترات السابقة. ومع أن هذا النوع من الشواهد موجود، فإنه محدود. من حسن الحظ، توجد أبواب أخرى تقود إلى الماضي؛ ذلك أن الناس يولدون في بيئات اجتماعية ومادية معينة، وينشئون كأطفال في مجتمعهم ويتعلمون قيمه وتقاليده، ومع بلوغهم النضج يمضون لمواكبة عالمهم وتعلم الاستراتيجيات التي يغلب نجاحها في ضوء أعراف تلك الجماعة وبيئتها الاجتماعية والمادية. لا شك أن البشر لديهم موروث بيولوجي جيني يحدد قدرا معينا من سماتهم الفردية البدنية والعقلية، أو يفسر افتقارهم إليها؛ ومن ثم توجد فرصة للقصدية الفردية، لكن حتى تلك القصدية تتأثر - دون أن تتحدد بالضرورة - بفعل قوى خارجة عن الفرد. وتقدم الشواهد المادية التي وصلت إلينا معلومات عن هذه البيئات؛ وفي حالة مقدونيا، يشهد السجل الآثاري والمعرفة بالطبيعة المادية للمملكة أثناء فترة حياة الإسكندر تناميا مستمرا، وأكثر ما كان ذلك في فترة الثلاثين سنة الماضية أو نحوها.
إيمانا بصحة هذه الرؤية بشأن التفاعل بين الفرد وعالمه، فإن استقصاء دور القوى التكوينية الفاعلة في القرون التي تطورت فيها مقدونيا إلى المملكة التي عرفها الإسكندر وحكمها؛ سيقربنا إلى الإسكندر ذاته. ربما لن نتمكن أبدا من الولوج إلى دواخل عقله، لكننا سنفهم العوامل التي أدت إلى سيرته المتألقة. وسيتناول هذا الكتاب، بعد تقديم نبذة مختصرة عن التسلسل الزمني الأساسي لحياته، ست قوى رئيسة شكلت تلك الحياة.
سنبدأ بمقدونيا التي ولد الإسكندر فيها وترعرع؛ حيث حددت الأوضاع المادية للمنطقة طبيعة الحياة الممكنة داخلها. كان ذلك البلد، وفقا لرؤية القدماء بشأن الفروق بين المناطق، بلدا «صعبا» لا «سهلا»، وهكذا فالأرجح أن يكون سكانه أقوياء لا ضعفاء. وعندما نأخذ الموارد الطبيعية بعين الاعتبار، يتسنى لنا توسيع فهم دور مقدونيا إزاء الآخرين. فهل كانت هناك موارد طبيعية اجتذبت الآخرين إلى المنطقة؟ ولو كان الأمر كذلك، فما العلاقات التي تطورت بين المقدونيين وغيرهم؟ وهل أتاحت تلك الموارد ميزة داخلية للأطراف الفاعلة المستقبلية في منطقتي بحر إيجة وشرق البحر المتوسط الأوسع، سواء في دور شركاء تجاريين أم كفاتحين؟
سكان مقدونيا هم الجانب الثاني من جوانب دلالة مقدونيا في حياة الإسكندر. فمن المقدونيون القدماء؟ ومن أي صنف كان الجيران الذين وجدهم المقدونيون على حدودهم؟ وكيف ارتبط مختلف تلك الجماعات البشرية بعضها ببعض؟ بمعنى هل تمخض الجوار عن استعارات ثقافية، أم عداوة متواصلة، أم انصهار جماعات كانت ذات يوم مستقلة؟ معروف أن أبا الإسكندر أنشأ مملكة موحدة امتدت من البحر الأدرياتي مرورا بشمال بحر إيجة وحتى الأراضي الواقعة على ساحل البحر الأسود الشمالي وعلى نهر الدانوب. والطريقة التي ضمت بها هذه الأراضي إلى المملكة عامل آخر له دور في العالم الذي ولد فيه الإسكندر ونشأ حتى صار رجلا. وتكشف عملية التوحيد التي اتبعها فيليب عن «الأدوات» التي يحتاج إليها الموحد المستقبلي الذي صار إليه الإسكندر لدى «وراثته» الملك، وتكشف التوترات التي تمخضت عنها. إذن فطبيعة الحياة في مقدونيا منتصف القرن الرابع تقرر معلمين أساسيين في قصة أي فرد عاش في مملكة مقدون (مقدونيا القديمة) في ذلك الوقت، وتحديدا البيئة المادية والبشر الذين شكلوا حياة تناسب موقعهم.
سنلتفت بعد ذلك إلى نسبه، الذي سيعيد تركيز الاهتمام من مقدونيا ككل إلى مقدونيين أفراد؛ ففيليب الثاني - أبو الإسكندر - كان متألقا في إنجازاته؛ فما الميراث (البدني والمزاجي وعلى وجه الخصوص الإنجازات) الذي تركه لابنه؟ وماذا عن أمه أوليمبياس ونسبها وشخصيتها؟ وهل يبرز دورها كابنة الأسرة المالكة في مملكة إبيروس وفيما بعد كزوجة للملك المقدوني بقوة في تكوين الإسكندر؟ بالإضافة إلى أبويه، سيكون من المفيد أن نلقي نظرة أوسع على نسبه؛ لأن الإسكندر كان أحد أبناء السلالة المالكة، بمعنى أنه كان أرغيا. فما الذي كان متوقعا من ابن ملك حاكم؟ وكيف درب كوريث محتمل للملك؟ وهل نشأت مشكلات عن انتمائه إلى السلالة الأرغية؟ ولو كان الأمر كذلك، فما مدى خطورة تلك المشكلات؟
ترتبط قصة مقدون القديمة ارتباطا لا ينفصم بقصة اليونان، وكان ذلك في البداية من خلال القرب الجغرافي الذي أدى إلى استعارات ثقافية من أنواع كثيرة. وطبيعة تلك الرابطة هي العنصر الثالث الأساسي في عالم الإسكندر. يكتمل وصف التفاعل من فترة الحروب الفارسية في أوائل القرن الخامس، أثناء حكم فيليب الذي ضم الدول الإغريقية تحت الهيمنة المقدونية عسكريا وسياسيا على السواء؛ فهل يمكن تفسير هذا النجاح انطلاقا من عوامل تضاف إلى القوة العسكرية المقدونية؟ لا ننس أن الإغريق والمقدونيين استشعروا من قبل آثار المحاولات الفارسية للتوسع في غرب بحر إيجة في أواخر القرن السادس وأوائل القرن الخامس، وربما كان الإحساس بوجود عدو مشترك رابطة أخرى محورية؛ مما جعل من «انتقام» الإغريق من الفرس مجهودا مشتركا لذلك الاتحاد الرسمي. وكان للتفاعل بين اليونان ومقدون دلالته أيضا من الناحية الثقافية، وكان مصدر أحد جوانب هذا التأثير الثقافي على الإسكندر معلمه الفيلسوف أرسطو المولود في مدينة أسطاغيرا الإغريقية في شمال بحر إيجة؛ فهل سيعطينا فهم احتكاك الإسكندر بهذا الفيلسوف الموسوعي الإغريقي لمحة عن طبيعة الإسكندر نفسه؟
تلعب ضرورة وجود القوة العسكرية دورا بارزا في العلاقات مع الآخرين، لكنها تستحق أيضا استقصاء مستقلا في الفصل الخامس، وخصوصا لأن سلامة تراب المملكة كانت تقتضي قوة عسكرية فعالة دائمة التأهب. فما ركائز المملكة فيما يخص هيكل مقدونيا الاجتماعي وتنظيم جيشها ومتطلبات نجاحها العسكري؟ وكيف لعب الملك المقدوني دورا في هيكل مملكته العسكري؟
رأت مقدون واليونان رأي العين قوة الإمبراطورية الفارسية التي كان ملكها أحشويرش من القوة بمكان - كما روى هيرودوت - حتى إن شخصا عاديا عجب لأمره بقوله: «لماذا اتخذت يا زيوس هيئة رجل فارسي واسم أحشويرش بدلا من زيوس لكي تدمر اليونان، ومن خلفك كل هؤلاء الرجال؟ كان بإمكانك فعل هذا دون كل هذه الجهود» (الكتاب السابع، 56). فلماذا يتوقع ملك مقدوني بأي حال أن يهزم مثل هذا الحاكم القوي الذي يتربع على عرش أكبر إمبراطورية قامت في تاريخ الشرق الأدنى القديم حتى ذلك الزمان؟ يجب أن تشمل الإجابة عن هذا السؤال معرفة بالهيكل الإقليمي والإداري لتلك الإمبراطورية، وحالة ذلك الهيكل في منتصف القرن الرابع؛ فإلى أي مدى كان الملوك المقدونيون يعرفون طبيعة بلاد فارس معرفة جيدة؟ وهل وجدت بين المملكتين أوجه تماثل معينة من شأنها تيسير فهم إحداهما الأخرى؟ وبما أن الإسكندر نجح في إلحاق هزيمة بالفرس، صارت قوة التقاليد الفارسية وتأثيرها على الإسكندر عاملا آخر في عالمه.
يمكننا تكوين صورة أوضح للإسكندر الثالث المقدوني، المعروف منذ القدم باسم الإسكندر الأكبر، على أساس التوصل إلى فهم للظروف والقوى والأعراف السائدة في منطقة بحر إيجة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. وسيتألف الفصل الأخير من «صورة» لذلك الشخص؛ إذ نبين كيف أن مقدونيا ونسبه الأرغي وتفاعله مع اليونان والزخم العسكري للمملكة الأصلية والعلاقات مع الإمبراطورية الفارسية قد شكلوا الرجل ومسيرته على السواء. قد يقول قائل إن انحرافه عن تلك التأثيرات هو بالضبط ما جعله «الأكبر»، لكن سيتضح أنه لم يكن بوسعه أن يتخلى عن إرثه قصدا أو دون قصد. وفي الوقت نفسه، فإنه لم يكن طرفا سلبيا في عالمه؛ إذ استخدم منصبه الموروث في ظروف لم يشهدها أرغي سابق. ومع ذلك، فمن دون الأدوات والمنصب اللذين حصل عليهما الشاب لدى المناداة به خليفة للملك فيليب الثاني، ما كان ليفوز بلقبه هذا.
الفصل الأول
حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
على الرغم من أن طبيعة الشواهد المتعلقة بالإسكندر الثالث المقدوني يصعب معها - إن لم يكن يستحيل - اكتشاف كينونته الداخلية، فثمة ما يكفي من أوجه الاتفاق بين المصادر القديمة لرسم سيرة حياته بدرجة معقولة من اليقين فيما يخص الأحداث الكبرى وتواريخها.
تختلف المصادر الأساسية المعنية بالإسكندر من نواح مهمة عديدة، فهي تغطي الفترة من حياة الإسكندر إلى القرن الثاني الميلادي، ويضمر مؤلفوها أغراضا متباينة من وراء كتابتها، ومعظمها ناقص، وبعضها لا يوجد إلا على هيئة شذرات متناثرة في مصادر أخرى، والشهادة التي تقدمها غالبا ما تختلف مع المصادر الأخرى. أهم أسباب هذا الخلاف المستمر هو طبيعة المصادر التي وصلت إلى أيدينا؛ إذ إن أقدم الروايات التاريخية الموثوق فيها ضاعت، أو في أحسن الأحوال لم تحفظ إلا على هيئة شذرات متناثرة، وأما التي كتب لها البقاء فهي كتابات متأخرة، وغالبا ما يتضارب بعضها مع بعض، وتنطوي على أهدافها الخاصة.
لكن هناك فعلا بعض المصادر، ومن خلال العمل الصبور الدءوب الذي بذله الباحثون تسنى لهم تحديد المواد الأسبق التي اعتمد عليها المؤلفون المتأخرون. وتتيح «شجرة النسب» هذه بدورها للقراء استبانة موثوقية العديد من الروايات التاريخية أو عدم موثوقيتها؛ فأتم الروايات التاريخية مثلا اعتمدت على اثنين من صحابة الإسكندر، بينما يوجد مؤلف آخر متهم بتأليف رواية خيالية. وأظهرت مقارنة الروايات التاريخية أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها؛ ومن ثم قدمت شيئا أشبه بموقف مشترك تجاه جوانب معينة من سيرة الإسكندر.
تتراوح أهم المصادر الموجودة من حيث تاريخها بين أواخر القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، وأبكرها هو التقرير الرسمي الذي أعده نيارخوس عن الرحلة البحرية من مصب نهر السند إلى الخليج الفارسي. وفد نيارخوس، الكريتي المولد، على مدينة أمفيبوليس في مقدونيا أثناء حكم فيليب الثاني، ويوجد رأي معقول يقول إنه كان واحدا من المستشارين الأكبر سنا للإسكندر الشاب، وقد أسندت إليه مناصب مهمة أثناء حكم الإسكندر، منها على سبيل المثال مرزبان ليقيا وبامفيليا، لكن المنصب الذي سجل وقائعه هو أميرال المهمة الاستطلاعية البحرية من جنوب الهند إلى رأس الخليج الفارسي، وكتب لهذا الوصف البقاء لأنه كان الأساس الذي قام عليه فيما بعد تقرير آريانوس المتأخر المعروف باسم «إنديكا».
سرد تاريخ العالم الذي وضعه ديودورس الصقلي بعنوان «مكتبة التاريخ»، والواقع في 40 كتابا؛ أحداثا يعود زمانها إلى منشأ العالم ويمتد إلى فترة حياته هو شخصيا، وتحديدا سنة 60 قبل الميلاد. ولم يكتب البقاء إلا لخمسة عشر كتابا منها، لكن من حسن حظ الباحثين المعنيين بمقدونيا أن من بينها الكتابين 16 و17 اللذين يتناولان فيليب والإسكندر.
يرقى مؤلف كورتيوس روفوس عن الإسكندر إلى القرن الأول أو مطلع القرن الثاني بعد الميلاد. ضاع الكتابان الأولان من كتبه الأصلية العشرة، وتوجد ثغرات في الأجزاء المحفوظة، التي تتناول الأحداث حتى تاريخ توزيع الإسكندر مناصب الولاة سنة 324 قبل الميلاد. وعلى الرغم من دعوة بعض الباحثين إلى إعادة تقييم دقيقة لهذا المصدر، يوجد تقييم عام لجدارته أورده معجم أكسفورد الكلاسيكي (الإصدار الثاني، الصفحة 416): «لا يوجد إلا قليل من الاتساق ... ومقتضيات البلاغة هي التي تقرر اختيار المادة المصدرية . ومن ثم، يتنقل المؤلف تنقلا عشوائيا من مصدر إلى مصدر، وأحيانا يمزج هذه المصادر في خليط عديم المعنى، وكثيرا ما اتهم بتعمده كتابة الخيال.»
يكاد يتزامن مع كورتيوس روفوس، مستريوس بلوتارخس، ابن مدينة خيرونية بمقاطعة بويطية في وسط اليونان - التي ألحق فيها فيليب وجنوده المقدونيون الهزيمة بالجيش الإغريقي سنة 338 قبل الميلاد - وعاش في الفترة ما بين عامي 50 و120 تقريبا بعد الميلاد. كان بلوتارخس مؤلفا غزير الإنتاج؛ إذ تعدد قائمة وضعت في فترة لاحقة 227 مؤلفا من وضعه، من أشهرها «السير المقارنة لعظماء اليونان والرومان» الذي اشتمل على سير 23 من العظماء اليونانيين، ومثلهم من العظماء الرومانيين، مع مقارنة كل واحد منهم بنظيره، ومن بينها سيرة الإسكندر الأكبر وسيرة قرينه يوليوس قيصر. ألف بلوتارخس أيضا، ربما في مرحلة مبكرة من مشواره التأليفي، مقالا بعنوان «عن حظ الإسكندر» ضمنه كتابه «الأخلاق». وصف دبليو دبليو تارن، وهو من الباحثين البارزين المتخصصين في الإسكندر في منتصف القرن العشرين، الفرق في العملين قائلا: «وضع بلوتارخس الجزء الأول من «عن حظ الإسكندر» في شبابه وبكل حماس الشاب المنكب على تصحيح ما اعتبره خطأ كبيرا، لكن بحلول الوقت الذي وضع فيه بلوتارخس المسن، أثناء اشتغاله بوظيفته السهلة المريحة في دلفي، كتاب «حياة الإسكندر»، كانت جذوة الحماس قد فترت، وكان الرجل متأثرا بفعل قراءاته الوفيرة» (1948: 296إف).
ينسب ماركوس جونيانيوس جوستينوس - أو جوستين - على وجوه مختلفة إلى القرن الثاني أو الثالث أو الرابع الميلادي، وجاءت مساهمته في دراسة الإسكندر على هيئة ملخص للدراسة الطويلة التي وضعها مؤلف سبقه، وهو بومبيوس تروجوس، بعنوان «التواريخ الفيليبية» في 44 كتابا. وعن هذا العمل قال تارن: «لكن الإسكندر كما يصوره تروجوس - أو لعل الأحرى أن نقول: كما يصوره جوستين - شديد السوء، عدا في نقطة واحدة، لدرجة أن الأمر لا يكاد يستحق استقصاء المصادر بالكلية» (1948: 122).
على النقيض من ذلك، فإن الدراسة التي وضعها آريانوس - أو لوكيوس فلافيوس آريانوس - في القرن الثاني كتب لها البقاء كاملة أو تكاد، وتعتبر بوجه عام التأريخ الأكثر موثوقية من بين ما وصل إلى أيدينا من تأريخات. وتعزى هذه الموثوقية إلى اثنين من مصادر آريانوس؛ إذ اعتمد آريانوس أولا على السجل الذي أعده أرسطوبولوس، الذي صاحب الإسكندر في حملته كخبير فني؛ ومن ثم نجد تفاصيل كثيرة تعكس اهتماماته غير العسكرية كبناء السفن والجسور. وأما المصدر الثاني فهو الذي وضعه صديق الإسكندر وخليفته بطليموس، الذي شارك أيضا في تلك الحملة. من المعقول أن نعتقد أن بطليموس وضع مؤلفه في أواخر حياته (مات سنة 283 قبل الميلاد) بعد تعزيز سيطرته على مملكته المصرية. ما يتساوى في أهميته في الحكم على جدارة «أنباسة الإسكندر» لآريانوس كشفه عن نيته السير في كتابته التاريخية على خطى ثلاثي المؤرخين الإغريق الكلاسيكيين: هيرودوت وثوكيديدس وزينوفون.
وصلت إلى أيدينا بقايا مصادر كثيرة وجدت ذات يوم وتناولت الإسكندر؛ فكانت الحملة تضم مؤرخا رسميا هو كاليسثينيس، تلميذ أرسطو وأحد أقربائه؛ وعندما فقد كاليسثينيس حظوته لدى الإسكندر، انتهى أيضا دوره كمؤرخ. معروف أن حاجب الإسكندر كاريس الميتيليني كتب «قصصا» عن الإسكندر في 10 كتب، كما فعل آخرون من ضمنهم أونيسيكريتوس، الفيلسوف الذي شارك في الرحلة البحرية مع نيارخوس. استحوذ فيليب والإسكندر على اهتمام كبير. وينسب إلى مؤرخ مقدوني يسمى مارسيا البيلي كتابة تاريخ لمقدونيا في 10 كتب، بالإضافة إلى رسالة بعنوان «عن تعليم الإسكندر». ويستمر النقاش حول وجود عدد من التأريخات الأخرى، التي تتراوح بين وصف للمرتزقة الإغريق الذين يخدمون مع ملك الفرس، و«وصية» تخص الإسكندر، وشذرات من «يوميات» (روزنامة) للحملة ذاتها. ما يفاقم هذه المشكلة وجود حوالي 80 نسخة مختلفة من «رومانسية الإسكندر» بأربع وعشرين لغة، وهي عبارة عن مجموعة أساطير تقدم الإسكندر باعتباره الجد الأعلى الذي تحدرت منه العائلة المالكة الملايوية، وكقاتل تنانين، وكرجل يكلم الأشجار، وكمؤمن برب اليهود والنصارى، وفي هيئات أخرى كثيرة. الحقيقة أنه يوجد أكثر من إسكندر واحد. ويقدم ريتشارد ستونمان عددا من هذه الأساطير، وجمع الباحث الألماني فيليكس ياكوبي شذرات الأعمال الضائعة. ويتمخض التوفيق بين هذه الشواهد المتباينة عن السرد التقريبي التالي.
ولد الإسكندر في صيف عام 356ق.م لفيليب الثاني، ملك المقدونيين آنذاك ، وأوليمبياس، التي تزوجها فيليب قبل ذلك بسنة على الأرجح. كان محل ميلاده مدينة بيلا، التي صارت المركز الرئيس في مقدونيا في أوائل القرن الرابع وباتت آنذاك بمنزلة القلب السياسي للمملكة. قام على تعليم الإسكندر العديد من المعلمين؛ إذ كان ليونيداس - أحد أقرباء أوليمبياس - وإغريقي يسمى ليسيماخوس قوتين مهمتين في سنواته الأولى، وعندما استهل الإسكندر العقد الثاني من عمره، استعين بالفيلسوف الإغريقي أرسطو لتعزيز نضجه الفكري ومعه العديد من رفاقه وأصدقائه. عاش التلاميذ ومعلمهم منفصلين عن بيلا في موضع يعرف باسم نمفايون، أو مكان حوريات الماء. وتوجد خيوط تلقي بعض الضوء على الموضوعات التعليمية التي تناولها أرسطو، وسنتناول ما نرجحه منها في الفصل الرابع. جاءت المعرفة الضرورية الأخرى، بطريق مباشر أو غير مباشر، من أبوي الإسكندر، وهذا موضوع الفصل الثالث. يتجلى لنا أن التدريب البدني كان يشكل جزءا كبيرا من تلك المعرفة من واقع قدرة الإسكندر على ترويض جواد بري لم يقدر حتى الرجال المتمرسون الأسن منه على امتطاء صهوته. صار هذا الجواد، المسمى بوسيفالوس، جواد مروضه الأثير، فسافر معه إلى نهر السند ومات هناك. وتضمنت صور التدريب الأخرى جميع المهارات التي كان يحتاج إليها ابن الملك فيليب وخليفته المحتمل. وتتضح الشواهد الدالة على نجابته كتلميذ في حكم الأب فيليب على الإسكندر، وهو في السنة السادسة عشرة من عمره، بأنه كفء لحكم مقدون في غيابه (340)، وبعد ذلك بعامين بأنه مؤهل لقيادة ميسرة الجيش المقدوني في خيرونية، التي ألحق فيها الجيش المقدوني، بقيادة فيليب والإسكندر المشتركة، هزيمة بالإغريق (338). شاب السنة التالية خلاف خطير بين الأب وابنه بسبب زواج فيليب من زوجته السابعة كليوباترا، وكان من خطورة هذا الخلاف أن رحل الإسكندر وأمه عن بيلا قاصدين مملكتها الأصلية إبيروس؛ ثم عقدت مصالحة سنة 336 عادا على إثرها إلى مقدونيا، وفي تلك السنة اغتيل فيليب الثاني.
وهكذا كانت سنة 336 مستهل حكم الإسكندر. طالب خلفاء محتملون آخرون من أبناء الأسرة الأرغية أيضا بأحقيتهم في الحكم، ومنهم ابن آخر لفيليب الثاني، وابن شقيق فيليب، الذي لم يكن يقدر - بينما كان طفلا سنة 359 - على مواجهة الاضطراب الذي تمخض عنه موت أبيه. على النقيض من ذلك، ففي سنة 336 كان الإسكندر قد برهن بالفعل على قدرته برهانا كافيا لكي تنادي به جمعية الجيش ملكا، ولكي يضمن دعم ضباط والده وأصدقائه، وكلاهما حيوي للوصول إلى الملك. استهلت فترة حكمه التي دامت 13 سنة بانتفاضات في شمال مقدونيا وفي اليونان، حيث حنت كلتا المنطقتين إلى استقلالها السابق. وفي سنة 335 كان الجيش يشن حملة بقيادة الإسكندر فيما يعرف اليوم باسم ألبانيا، عندما استدعي للتعامل مع ثورة قامت في وسط اليونان، وتحديدا في طيبة. وعندما تم الاستيلاء على طيبة ونهبها، خضعت بقية اليونان مجددا للهيمنة المقدونية التي سبق أن بسطها فيليب. تحقق آنذاك الهدف من وراء «الحلف الكورنثي» الذي أقامه فيليب بعد انتصاره في خيرونية؛ إذ كان أعضاء الحلف قد وافقوا على تحالف هجومي ودفاعي بقيادة الملك المقدوني بهدف محدد، هو شن حملة ضد بلاد فارس. والحقيقة أن فيليب أرسل قبل موته قوة متقدمة إلى آسيا الصغرى، وبعد أن استتبت الأوضاع للإسكندر في اليونان وعلى حدوده الشمالية، صار بإمكانه الالتفات إلى الحملة الكبرى التي أشعل فتيلها أبوه، ونعني العملية ضد الفرس.
شكل 1-1: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس الإسكندر الثالث. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كانت معظم التحضيرات الأساسية للحملة جاهزة؛ وهكذا، بعد أن عين الإسكندر أنتيباتروس، أحد كبار ضباط والده، وصيا على العرش، قاد جيشه المؤلف من نحو 30 ألفا من المشاة و5 آلاف من الخيالة عبر الدردنيل في ربيع سنة 334. لم تكن وجهته الأولى ساحة قتال لتحدي السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى، بل ساحة القتال الأسطورية طروادة. وعلى الرغم من أن هذا الاختيار مدهش في أعين دارسي الإسكندر في العصر الحديث، فإنه كان قرارا طبيعيا من رجل من نسل آخيل مقدم على الانتقام من محاولة الفرس السيطرة على مقدونيا واليونان. غير أن المقدونيين تحدوا في الخطوة التالية السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى في معركة دارت عند نهر جرانيكوس، ولم يكن الجيش الفارسي بقيادة ملك فارس بل بقيادة مرازبة الأناضول. وما من شك بخصوص المحصلة، التي كانت انتصارا مقدونيا كبيرا فتح الباب إلى الأناضول؛ فاستسلمت سارديس، أقصى عاصمة فارسية في الغرب، وعمل الإسكندر على إحلال السلام في المنطقة طوال ما تبقى من تلك السنة وغالبية السنة التالية. وفي خريف سنة 333 مضى قدما تاركا ضابطا آخر من كبار ضباط فيليب، وهو أنتيغونوس، ليقود العملية الجارية لتعزيز السيطرة المقدونية على الأناضول.
التقى الجيشان من جديد في موقعة إيسوس في شمال سوريا، وكان الجيش الفارسي - الذي يقدر قوامه بستمائة ألف رجل - في هذه المواجهة بقيادة ملكهم داريوس الثالث؛ ومع أن هذا القوام مشكوك فيه بشدة، فإن الفرس كانوا يفوقون المقدونيين عددا، لكن تبين أن كثرة عدد الفرس «عديمة الفائدة لضيق المكان» (آريانوس، الكتاب الثاني، 8، 11). بعد الانتصار المقدوني في الميدان، تمكن داريوس من الفرار، لكن من اصطحبهم معه من أفراد أسرته وقعوا في الأسر، ولتأمين إطلاق سراحهم عرض التنازل عن الأراضي الفارسية الواقعة غرب نهر الفرات، فرد الإسكندر على ذلك بطريقتين؛ إذ رفض العرض، وراح يفتح منطقة سوريا وفلسطين. استسلمت مدن كثيرة للمقدونيين، وبعضها تم الاستيلاء عليه دون صعوبة كبيرة، لكنهم اضطروا إلى ضرب حصار دام سبعة أشهر للاستيلاء على مدينة صور الحصينة، التي كانت موقعا حيويا للسيطرة على القوة البحرية. وبعد أن تمكن الإسكندر وجيشه من فتح صور في النهاية، واصلوا مسيرتهم جنوبا إلى غزة، آخر مدن جنوب فينيقيا، وكانت محاطة بأسوار حصينة شأنها شأن صور، ويتطلب الاستيلاء عليها إقامة استحكام مضاد بارتفاع 250 قدما (75 مترا) وآلات حصار وحفر أنفاق تحت سورها.
في أعقاب الاستيلاء على المدينة وقتل سكانها أو استرقاقهم، واصل المقدونيون مسيرتهم نحو أقصى أقاليم الإمبراطورية الفارسية غربا وهو مصر، فوصلوها في أواخر خريف سنة 332. لم يتطلب تغيير تبعية مصر أي قتال. ظل الإسكندر على مدى أشهر مشغولا بالمسائل الإدارية، فوضع الخطط لإقامة عاصمة جديدة هي الإسكندرية، وفي جولة أخرى مفاجئة، سار نحو 370 ميلا (600 كيلومتر) عبر الصحراء الغربية لاستشارة عرافة آمون الشهيرة. على خلاف محصلة المعارك، يتركز قدر كبير من النقاش على سبب هذه الرحلة الطويلة الشاقة، وكذلك على السؤال الذي يطرحه الإسكندر والإجابة التي تقدمها العرافة؛ فهل علم فعلا أن أباه الحقيقي ليس فيليب بل آمون-زيوس؟ وسنعود إلى هذه المسألة وأفعال أخرى مماثلة في الفصل الختامي.
شهد ربيع سنة 331 عودة الإسكندر إلى سوريا مستأنفا التعامل مع مسائل إدارة مملكته المتسعة، قبل مواصلته طريقه نحو بلاد ما بين النهرين، وبعد عبوره نهري دجلة والفرات دون مقاومة، أراح جنوده استعدادا للمعركة المقبلة التي كان الفرس يتأهبون لها. كانت تلك المعركة، التي دارت رحاها خريفا عند جاوجاميلا في شمال بلاد ما بين النهرين، مجهودا هائلا من جانب الفرس؛ إذ ربما كانوا يفوقون المقدونيين عددا بما يصل إلى ستة أمثالهم، لكن لم تستطع الأعداد ولا العجلات الحربية ذات المناجل، التي نشرت لبث الفوضى بين الجنود المقدونيين، تحقيق النصر في المعركة. وعلى الرغم من فرار الملك داريوس من جديد، ضمن النصر المقدوني الكنوز الفارسية الموجودة في المدينة القريبة من ساحة المعركة، وفتح طريقا عبر بلاد ما بين النهرين، ثم آخر إلى العاصمتين الفارسيتين شرق دجلة. استسلمت بابل وحذت شوشان حذوها. وبعد إجراء تعيينات رسمية وإحداث بعض من إعادة التنظيم في صفوف الجيش، سار الإسكندر صوب الجنوب الشرقي نحو العاصمتين الفارسيتين تخت جمشيد وباسارجاد. كان يقوم على حماية الأولى مرزبان وتحت يده قوة قوامها 40 ألفا من المشاة (آريانوس، الكتاب الثالث، 18، 2)، متخذين مواقع استراتيجية لوقف الزحف المقدوني، وتطلب الاستيلاء عليها الالتفاف حول مواقع العدو بالسير عبر تضاريس وعرة. أما باسارجاد فلم تتطلب مجهودا مماثلا. تمخض الاستيلاء على المدينتين عن ثروة طائلة على هيئة كنوز، لكنه تمخض أيضا عن الوصول إلى مركز السلطة الفارسية، فصار بإمكان الإسكندر إعلان انتزاعه عرش الأسرة المالكة الأخمينية. وفي تخت جمشيد، أعفى الفرقة الإغريقية من المزيد من المشاركة في مهمة الحلف الكورنثي، ثم أحرق المدينة؛ وهذا فعل آخر يتطلب دراية بعقل الإسكندر وعواطفه، وبما أننا لا نعرف كينونته الداخلية، يظل سبب تدمير المدينة محل جدل شديد.
ثم راح الإسكندر يطارد داريوس، سائرا شمالا صوب ميديا. وبينما كان يؤكد السيطرة المقدونية على ميديا، وصلت إليه أنباء مرور داريوس عبر بوابات قزوين في طريقه إلى الأقاليم الشرقية بالإمبراطورية الفارسية. وعندما وصل المقدونيون إلى جنوب منطقة قزوين، اكتشفوا مقتل الملك السابق داريوس على أيدي رفاق سفره. واصل الإسكندر طريقه شرقا في صيف سنة 330 سعيا وراء المطالبين الجدد بالملك، ولفتح ما تبقى من أرض الإمبراطورية على ما يبدو.
تبين أن الهدف الأول أصعب من الثاني؛ فبينما شق الجيش المقدوني طريقه عبر المرزبات الشرقية في عامي 330 و329، عرض كثير من المرازبة استسلامهم بينما واصل آخرون القتال. ولم يتحقق إعدام بيسوس، وهو أول من أعلن خليفة لداريوس على عرش البلاد، إلا سنة 328؛ فواصل الوريث المعلن الثاني، وهو سبيتامينيس، حشد القوات ومحاربة المقدونيين لمدة نصف سنة أخرى أو نحو ذلك. وواصل الإسكندر وقواته تهدئة الأوضاع واستتبابها في سوقديانا وباخترا لسنة أخرى، وتحديدا حتى صيف سنة 327.
هذه السنوات الثلاث جديرة بالملاحظة لأسباب هي أكثر من مجرد توسيع السيطرة المقدونية والقضاء على المطالبين بعرش فارس بخلاف الإسكندر نفسه. وأخيرا اتخذ قرار الزواج، فوقع اختياره على رخسانة ابنة وخش آراد، أحد أعيان سوقديانا، لتكون زوجته الأولى. كانت رخسانة - بجانب زوجة وخش آراد وابنتين أخريين له - قد وقعت في الأسر في حصار ناجح، ومع أن قرار الزواج بها كان من ثمرته كسب دعم أبيها، يقال أيضا إنها كانت ثاني أجمل امرأة في آسيا كلها، ولم تفقها جمالا إلا زوجة داريوس الثالث، وإن الإسكندر وقع في غرامها من أول نظرة.
ثمة نتيجة أخرى أقل سرورا بكثير لكن تتساوى في الأهمية، وهي أن المقدونيين بدءوا يعبرون عن عدائهم لملكهم، على المستوى الفردي وربما في صورة مؤامرات على حد سواء؛ فتورط بارمنيون، أحد كبار ضباط الإسكندر والشخص الذي اختاره فيليب لقيادة القوة المتقدمة التي زحفت إلى آسيا الصغرى سنة 337، في مؤامرة شهيرة حاكها ابنه فيلوتاس، وهو الآخر شخصية مهمة في حاشية الإسكندر. ولدى علم الإسكندر بالمؤامرة المحاكة ضده، أمر باستدعاء فيلوتاس أمام جمعية الجيش، فدافع فيلوتاس عن نفسه في مواجهة اتهامه بالتورط، لكن ثبت أنه مذنب لعدم مبادرته إلى إبلاغ الإسكندر بالمؤامرة على الرغم من الاتصال اليومي بينهما. قتل فيلوتاس والمتآمرون الآخرون برماح رماها مقدونيون، وابتعث آخر من أصحاب الإسكندر بأوامر إلى القادة الذين تركوا في ميديا بقتل بارمنيون أبي فيلوتاس على أساس أنه كان ضالعا في المؤامرة، ولو لم يكن ضالعا فيها فعلى أساس أنه كان عنصر استقطاب محتمل للغضب ضد الملك لما يتمتع به هو وأسرته من احترام كبير لدى الجنود المقدونيين والمرتزقة.
وفي السنة التالية، قتل كلايتوس الأسود - الذي تذكر المصادر التي وصلت إلينا أنه أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس - أثناء ندوة شهدت إسرافا في الشراب؛ فبينما كان أصحاب الإسكندر يتملقونه، ذكر كلايتوس الصحبة بأهمية العون الذي قدمه المقدونيون الآخرون، فنشبت مجادلة صاخبة انتهت بتناول الإسكندر رمحا أو حربة من أحد الحراس، وقتله الرجل الذي حماه أثناء معركة جرانيكوس. شهدت السنة ذاتها مؤامرة أخرى مزعومة، وأثارها هذه المرة عدد من غلمان الإسكندر الصغار، وضلع فيها مؤرخ الحملة الرسمي كاليسثينيس، وكان قد فقد حظوته لدى الإسكندر لسببين: أولهما اقتراحه ضرورة التخفيف من التسبيح بحمد الملك، وثانيهما رفضه السجود للإسكندر الذي استحدثه على الطريقة الفارسية. أسفرت المؤامرة المزعومة عن موت كاليسثينيس رجما أو شنقا أو بسبب إنهاكه نتيجة جرجرته في أغلاله بصحبة الجيش الزاحف.
بعد أن حل الإسكندر - على المدى القصير على الأقل - القضايا المقدونية الداخلية وحقق السيطرة الاسمية على معظم المنطقة الشرقية من الإمبراطورية الفارسية، استعد لمواصلة الزحف شرقا في الهند. أقيمت مستوطنات جديدة بكثرة في المرزبات الشرقية للإمبراطورية الفارسية التي كان معظمها قد أخضع آنذاك، وأقيم العديد من المدن الجديدة التي حملت اسم الإسكندرية (في فرادا، وهيرات، وقندهار، وغزني، وميرف، وترمذ، وعلى جبال هندوكوش وعلى نهر سيحون)، وأعيد تأسيس مدينة باخترا باسم الإسكندرية. بالإضافة إلى ذلك، أنشئت حاميات في خوجند وفي المنطقة الواقعة بين خوجند والحد الشمالي للحملة عند نهر سيحون.
وفي ظل وجود خط للمواصلات، شقت قوة قوامها نحو 35 ألف رجل طريقها عبر جبال هندوكوش إلى وادي نهر السند في صيف 327. ثم فتحت الهزيمة التي وقعت بجيش الملك الهندي بوروس سنة 326 عند نهر هايداسبيس طريقا إلى شبه القارة الشاسعة؛ فسار الجيش المقدوني شرقا حتى بلغ نهر بياس (أقصى نقطة شرقا في شبكة الأنهار الكبيرة)، وعندئذ ظهر على السطح رد فعل مقدوني آخر؛ إذ رفض رجال الإسكندر مواصلة الزحف (تقدر عملية حسابية أجراها الكونت يورك فون فارتنبورغ أن المقدونيين كانوا قد قطعوا 12 ألف ميل أو أكثر من 19 ألف كيلومتر في ثماني سنوات ونصف سنة)، فاضطر إلى موافقتهم والعودة إلى الغرب. عادت القوة أدراجها غربا إلى نهر هايداسبيس الذي كان يجري بناء أسطول فيه، ثم شقت طريقها جنوبا برا وبحرا حتى وصلت إلى دلتا نهر السند في صيف 325. وضع الإسكندر الأسس لإدارة الأقاليم المستولى عليها حديثا، ثم نظم عملية العودة، فواصل جزء من القوة سيره بحرا بهدف استكشاف الطريق من مصب نهر السند إلى مصبي نهري دجلة والفرات في الخليج الفارسي، على أن يواصل جزء من القوة البرية مسيره متخذا طريقا شمال صحراء جيدروسيا، وأما الإسكندر فسار على رأس بقية الجيش عبر الصحراء ذاتها مباشرة. شهدت المجموعات الثلاث صعوبات بالغة، لكن من كتبت لهم النجاة من الجيشين التأموا مجددا غرب الصحراء الكبرى، والتقى الأسطول الإسكندر داخل مضيق هرمز بالضبط، فواصل الأسطول إبحاره شمالا، وأما الجيش فسار نحو باسارجاد التي بلغها مطلع 324. وفي ربيع ذلك العام، توجه الإسكندر إلى العاصمة الفارسية شوشان، وفي الربيع التالي إلى بابل.
كان الإسكندر، خلال آخر سنة ونصف سنة من حياته، أكثر انشغالا بنتائج حملته الناجحة منه بتجريد حملات أخرى، وإن كانت ثمة مصادر تروي أنه كان يخطط لحملات جديدة كالإبحار حول شبه الجزيرة العربية. أسس الإسكندر أيضا المزيد من المستوطنات. كان شاغله الأكبر محاربيه القدامى والرجال الذين أسند إليهم مهمة العمل على استتباب الأوضاع والحكم، وكان بعضهم غير كفء للمهمة أو غير مخلص للملك أو الاثنين معا. وأثناء الإقامة في شوشان، توجت العلاقات الغرامية التي جمعت كثيرين من جنوده بنساء آسيويات (يذكر آريانوس أنهم كانوا أكثر من 10 آلاف) بالزواج، وكان الإسكندر نفسه يقدم هدايا الزفاف. وقدم أيضا شكلا آخر من الهدايا بسداده ديون الجيش التي بلغ مجموعها 20 ألف وزنة. تزوج الإسكندر أيضا وأصحابه المقربون بنات عائلات فارسية كبيرة؛ إذ تزوج الإسكندر نفسه ابنة داريوس الكبرى، والابنة الصغرى لنبيل فارسي من فرع آخر من فروع الأسرة المالكة الفارسية. ويذكر آريانوس زيجات هفايستيون وكراتيروس وبيرديكاس وبطليموس ويومينس ونيارخوس وسلوقس، ويفيد بعقد نحو 80 زيجة مماثلة بين أصحاب آخرين وبنات نبلاء الفرس والميديين.
لكن شوشان شهدت التئاما آخر بوصول 30 ألف شاب آسيوي بعد تدريبهم على الطريقة المقدونية؛ إذ أسفرت تداعيات هذا الوصول عن مزيد من التمرد في صفوف جيشه المقدوني، عندما أعلن الإسكندر أنه بصدد تسريح عدد كبير من محاربيه القدامى وإعادتهم إلى مقدونيا. استقبل كثيرون من المقرر تسريحهم هذا الإعلان بغضب ساخر، مطالبين إياه بتسريح جميع المقدونيين ومواصلة الحرب بمساعدة أبيه «الحقيقي» الإله آمون. ولم يكونوا أيضا راضين كل الرضا عن صحبه الآسيويين الجدد. كان أول رد للإسكندر أن أمر باعتقال رءوس التحريض وقتلهم، ثم ألقى خطابا غاضبا وبخ فيه البقية، واختتمه بكلمة «انصرفوا!» وذهب عنهم. أبدى قدامى المحاربين ندمهم واسترحموا مليكهم، فصولحوا بمأدبة ضخمة، وبعدها كان نحو 10 آلاف محارب قديم متأهبين للعودة إلى مملكة مقدونيا تحت قيادة أحد كبار قواد الإسكندر، وهو كراتيروس.
كان تدبير إدارة الإمبراطورية التي ظفر بها الإسكندر حاجة أخرى ملحة؛ إذ كان كثيرون ممن تركهم وراءه في مواقع السلطة يعتقدون على ما يبدو أنه لن ينجو من حملته الشرقية، فحوسب عدد منهم وعوقبوا واستبدلوا. لم يكن الأفراد وحدهم بحاجة إلى ترتيب، بل كانت أقاليم بأكملها خارج نطاق الإمبراطورية الفارسية السابقة تحتاج إلى ترتيب أوضاعها، وخصوصا اليونان؛ ففي أواخر ثلاثينيات القرن الرابع، جمع الملك الإسبرطي أجيس بين هدف استعادة قوة إسبرطة وهدف ثان هو القضاء على السيطرة المقدونية على اليونان، ولتحقيق هاتين الغايتين، نجح في حشد جيش من المشاة قوامه 20 ألف رجل، بالإضافة إلى 10 سفن وأموال من بلاد فارس. وكان في أثينا جندي محترف يشغل منصب القائد العسكري منهمكا في حشد ائتلاف ضد المقدونيين سنة 324. وعلى مبعدة أكبر من ذلك، يروى أن وفودا من شعوب منطقة البحر المتوسط والشعوب الأوروبية جدت في التماس هذا الفاتح الشاب المذهل.
تدخل الموت ليختصر هذه الجهود ويربكها. في البداية جاء موت الرجل الذي صار أقرب صديق ومعاون له، وهو هفايستيون، في أواخر 324، مما أحزن الإسكندر حزنا عظيما. وسرعان ما أصابت الإسكندر نفسه حمى في ربيع 323، فمات في يونيو (الثالث عشر من الشهر هو التاريخ المقبول عموما) قبيل عيد ميلاده الثالث والثلاثين. •••
كان الإسكندر الثالث المقدوني شخصا لافتا للأنظار خلال حياته، وأسبغت عليه إنجازاته لقب الإسكندر الأكبر منذ القدم، وهو لقب مرتبط دوما باسمه. كان بطلا في أعين الكثيرين من الطامحين إلى محاكاته، بداية من خلفائه ذاتهم، إلى الإمبراطور الروماني تراجان الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، إلى نابليون بونابرت الذي كتب يقول: «غزا الإسكندر ثلاثمائة ألف فارسي بعشرين ألف مقدوني، وقد حققت نجاحا مشهودا في مساع جريئة.» ويمكن القول بأن الوصف الذي أورده المؤرخ إف إيه رايت للإسكندر هو الأروع؛ إذ بعد أن قال إن الإسكندر ويوليوس قيصر وكارل الكبير ونابليون «أعظم بكثير من المستوى العادي للقدرات البشرية، حتى إنه قلما يمكن الحكم عليهم بالمعايير العادية»، أكد رايت أن الإسكندر في عمله وفي شخصيته «يستحق المرتبة الأولى» (1934: 1).
إننا نتوق إلى ما هو أكثر من بعض التواريخ والأحداث فيما يخص شخصا كهذا. فما الذي كان يدفعه؟ وماذا كانت أهدافه الحقيقية؟ وماذا كانت خواطره وردود أفعاله ومخاوفه، هذا إن كانت انتابته مثل هذه الانفعالات التي لا تليق بالأبطال؟ هذه هي أنواع الأسئلة التي يثيرها الإسكندر، والتي لا تتسنى لنا الإجابة عنها إجابة واضحة. لكن عندما ننظر إلى عالمه، سنقترب من التوصل إلى فهم ما.
الفصل الثاني
أصله المقدوني
ثمة رأي ينسب إلى أبقراط، الطبيب الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يقول إن موضع نشأة الثقافة يحدد طبيعتها. ومن بين العدد الكبير من الكتابات المنسوبة إلى أبقراط دراسة تحمل عنوان «المدن والماء والهواء» تربط الصحة البشرية بغذاء الفرد وبيئته وطريقة حياته، ويؤكد المؤلف أن اختلاف سمات الشعوب الآسيوية والأوروبية مرتبط بالمناخ، فانعدام الأحوال المناخية الشديدة التقلب في آسيا يتمخض عن شعب لين، وأما مناخ أوروبا الأشد تطرفا وتقلبا فينتج شعبا صلبا. وقال أرسطو مثل قوله في القرن الرابع (السياسة، الكتاب السابع، 7، 1327بي20إف): الشعوب الآسيوية ذكية لكنها تفتقر إلى النشاط، أما الأوروبيون فنشيطون وإن كانوا يتسمون بقدر أقل من الذكاء الفطري. والمنازل التي بين هذين الطرفين هي الأوفر حظا؛ يرى أرسطو وأبقراط أن الإغريق يحتلون المنزلة الوسط؛ ومن ثم كانوا على درجة عالية من الذكاء والنشاط. لكن من نواح كثيرة يستحق المقدونيون - بل يستحقون أكثر من الإغريق - وصفهم بأنهم أصحاب منزلة وسط وافرة الحظ. والحقيقة أن ثمة حكاية تقول إن أبقراط شخص حالة الملك بيرديكاس الثاني المقدوني (454-413)، تدل - إن صدقت - على أن أبقراط خبر بيئة مقدونيا خبرة مباشرة. ويقينا كان أرسطو على دراية جيدة بمقدونيا والمقدونيين؛ إذ نشأ طفلا صغيرا في العاصمة بيلا، ثم اشتغل فيما بعد كمعلم للإسكندر الثالث الشاب. يسمح لنا استقصاء طبيعة مقدونيا المادية بأن ننظر كيف كان من شأن الأحوال الطبيعية هناك أن تحدد طريقة حياة سكانها؛ المقدونيين بوجه عام وأفراد الأسرة الأرغية الحاكمة والإسكندر الثالث بوجه خاص. إذن ففي صحبة أبقراط وأرسطو، يمكننا تحري الأشخاص الذين شكلتهم تلك البيئة.
مرت الأرض المعروفة باسم مقدونيا بالعديد من الهيئات على مر الزمن؛ إذ كان يتحدد مداها الإقليمي إلى حد كبير بقدرة إحدى جماعاتها البشرية الكثيرة على بسط السيطرة على الجماعات الأخرى. ومن أزمنة العصر الحجري القديم حتى وقتنا الحاضر، اجتذب موقع هذه المنطقة إليه بشرا متنوعين، سواء أكانوا مهاجرين عبره، أم مهاجرين إليه يلتمسون الاستقرار، أم تجارا، أم غزاة فاتحين. لكن الهيئة الجغرافية للمنطقة تحول دون الوحدة الواسعة النطاق، وتشجع بدلا منها حدوث وحدة إقليمية أصغر نطاقا بين سكانها؛ وما زالت هذه النزعة الإقليمية قائمة حتى في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد.
بوجه عام نقول إن مقدونيا هي المنطقة الانتقالية بين شبه الجزيرة اليونانية والقارة الأوروبية. ومقارنة بهاتين المنطقتين المجاورتين، نجد مناخها وهيئتها يشبهان القارة الشمالية لا البلدان المتوسطية؛ فالأمطار أغزر في شهور الشتاء، وأقل في الصيف، وفصول الشتاء أشد وطأة، مع جليد يغطي الجبال، وأما فصول الصيف - وخصوصا في السهول - فتشهد ارتفاعا في درجات الحرارة يتجاوز 40 درجة مئوية (104 درجات فهرنهايت). يحد مقدونيا من الشرق الخليج الثيرمي، الذي يشكل جزءا من بحر إيجة، ويوفر سهلا ساحليا كبيرا، لكن معظم المنطقة المعروفة عموما باسم مقدونيا ليس ساحليا. ومن السهل الساحلي، يمتد نهران كبيران (هالياكمون وأكسيوس وروافدهما) بمنزلة طريقين موصلين إلى المناطق الداخلية، فيمتد هالياكمون إلى الغرب، ثم ينعطف جنوبا إلى الحدود مع ألبانيا الحديثة، ويمتد أكسيوس (فاردار حديثا) شمالا إلى سكوبيه وغربا إلى الحدود الجنوبية لكوسوفو الحديثة.
يرسم النهران والساحل البحري حدودا واضحة المعالم لهذا الإقليم من منظور جغرافي، إن لم يكن سياسيا. علاوة على ذلك، فالنهران بمنزلة موانع طبيعية أمام الدخلاء المحتملين؛ فممر ريندينا مثلا على نهر أكسيوس بالقرب من مدينة أمفيبوليس القديمة؛ حيث يبدأ في النزول إلى البحر، يتسم بالضيق الشديد؛ ومن ثم يسهل الدفاع عنه. وتوجد ممرات ضيقة مماثلة شقتها الأنهار في أماكن أخرى، مما يقلل أيضا من العمل الدفاعي، لكن توجد ممرات يمكن استخدامها كنقاط دخول.
من الفوائد الإضافية للأنهار أنها أنهار دائمة، وهي في طريقها إلى البحر تملأ البحيرات، التي توفر بدورها الأسماك؛ وهي في بعض الأماكن - كما يروي هيرودوت عن بيونيا في الشمال - «وفيرة حتى إنه عندما يفتح باب الشرك وتغوص السلال في قاع البحيرة المغطى بأعشاب الأسل، يسحبها المرء مليئة بالأسماك بعد انتظار قصير» (الكتاب الخامس، 16، 4). وحتى في يومنا هذا، يحتوي نهر هالياكمون على 33 نوعا من الأسماك. وبالإضافة إلى ما تمده هذه الأنهار من كميات وفيرة من الأسماك تقتات بها الخيول ودواب الحمل الأخرى، فهي مصدر للمياه اللازمة للاستهلاك والري حتى أثناء شهور الصيف، وتتيح هذه المياه الوفيرة، مقرونة بتراكم الجليد على الجبال العالية، موسم زراعة أطول مما يمكن أن يتوقعه جنوب اليونان. ويروي هيرودوت أن مياه نهر واحد فقط في المنطقة نضبت عندما حاول الجنود الفرس ري ظمئهم (الكتاب السابع، 127). ولإدراك حجم المياه المطلوب، من المهم أن نتذكر أن هيرودوت قدر عدد الجيش الفارسي بأكثر من خمسة ملايين، وإن كنا نرى أن الأعداد الفعلية كانت نحو 250 ألف فرد لم يكن كلهم من المحاربين. علاوة على ذلك، تتمتع البلدات والمدن الواقعة على الروافد بطريق وصول إلى البحر مع تمتعها في الوقت نفسه بميزة الأمن التي تتيحها المناطق الداخلية؛ فعلى سبيل المثال: كانت مدينة بيلا - العاصمة المقدونية أثناء حكم الإسكندر - تقع على أحد أفرع نهر لودياس، الذي كان صالحا للملاحة بطول مسافته البالغة نحو عشرين ميلا إلى البحر.
الجبال هي ثاني الملامح المميزة لمقدونيا؛ فغالبية الأرض التي تتكون منها المملكة التي أنشأها فيليب الثاني يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، ويشمل هذا المنطقة المنخفضة الواقعة شرق نهر إكيودوروس (جاليكو حديثا). وكان مدى الأرض الواقعة أقصى الغرب التي ضمت في النهاية إلى مملكة مقدونيا، تحدده سلسلة جبال بيندوس الطويلة المارة عبر منطقة البلقان وصولا إلى خليج كورنثة. كثير من القمم الجبلية الفردية في مقدونيا شاهق الارتفاع، فينافس بعضها جبل الأوليمب البالغ 9461 قدما (2917 مترا) لكن لا يفوقه؛ إذ تصل إحدى قمم سلسلة جبال برنوس (كايماكتسالان) إلى 8203 أقدام (2524 مترا)، بينما تصل إحدى قمم سلسلة جبال بابونا إلى 8255 قدما (2540 مترا). ومع أن الفروج الطبيعية في الجبال بمنزلة بوابات إلى السهول المنخفضة، فإنها توفر أيضا وسيلة دفاع طبيعية قوية؛ لأن بعض هذه الفروج - كما سبق أن نوهنا - شديد الضيق على نحو تسهل معه السيطرة عليها. وفي أجزاء من المنطقة، تعمل السلاسل الجبلية كساتر؛ إذ توفر جبال مقدونيا الدنيا غرب أكسيوس «درعا متصلا» كما وصفها نيكولاس هاموند (1972: 162).
شكل 2-1: الضفة العليا من نهر هالياكمون. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون .
كانت الغابات هبة الجبال، وفي الزمن القديم كانت مقدونيا تحتوي على الكثير من غابات الأشجار الدائمة الخضرة والنفضية على السواء، ويقدر أن نحو خمس المنطقة تكسوه الغابات حتى في وقتنا هذا. تسود نظم جبال الألب الإيكولوجية بالقرب من القمم الجبلية، وكانت أشجار الصنوبر تنمو فوق المنحدرات، أما أسفل منها فكانت تسود فيه أشجار البلوط والشوح والأرز. لم يكن الخشب الذي توفره الغابات ثمينا للاستخدامات المنزلية فحسب، بل كان أيضا مرغوبا من جانب دول اليونان الفقيرة بالخشب. واستخدمت الأنهار لتعويم أشجار الخشب المقطوعة إلى السهول، وفي النهاية كان الساحل يسهل نقلها إلى قلب المملكة، الذي كان يشهد معظم نشاط التبادل التجاري مع الآخرين.
شكل 2-2: مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
توفر الأشجار أيضا الغذاء والمأوى للحيوانات، ولم تكن الأشجار المقدونية استثناء من هذا في الزمن القديم؛ إذ كانت تسكن الغابات طائفة واسعة من الحيوانات البرية. ويوجد في الآونة الأخيرة حوالي 32 جنسا من الثدييات و108 أجناس من الطيور تسكن الحديقة الوطنية فوق جبل الأوليمب، وتوجد تشكيلة كبيرة من بينها مشهود لها بالقدم أيضا، كان بعضها - من قبيل الأيل واليحمور - لا يشكل خطورة كبيرة على البشر، لكن كانت هناك حيوانات أخرى مخيفة بحق، كالخنازير البرية والدببة البنية والذئاب والأوشاق والفهود والنمور والأسود، وكلها كانت تسكن الغابات الجبلية. ويروي هيرودوت واقعة غريبة تعرض لها الفرس وهم في طريقهم إلى مقدونيا سنة 480 قبل الميلاد؛ حيث كانت الأسد «تترك عرنها وتنزل دوما أثناء الليل ... تقتل الإبل دون غيرها، فلا تهاجم أي حيوان آخر أو إنسان» (الكتاب السابع، 123، 3).
شكل 2-3: ما زالت الأيائل تستوطن مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
استفادت الحيوانات المستأنسة أيضا من السلاسل الجبلية، التي كانت توفر مراعي صيفية من الطراز الأول لقطعان الضأن والمعز. كان معظم سكان مقدونيا العليا - بمعنى المناطق الشمالية والغربية من البلاد - يشتغلون بالرعي منذ أزمنة ما قبل التاريخ وحتى القرن الرابع، وعندما وقف الإسكندر خطيبا في محاربيه القدامى الغاضبين بعد العودة إلى بلاد ما بين النهرين، وبخهم لنكرانهم نعمة التغيرات الهائلة التي أحدثها أبوه في حياة كثير من المقدونيين. لقد ورثهم رعاة رحلا أغلبهم لا تكسو أجسامهم إلا جلود الحيوانات، يرعون بضع شياه على الجبال، وبعد أن أنزلهم فيليب من الجبال إلى السهول، أبدلهم أردية كاسية بجلودهم وجعلهم خصوما أندادا لجيرانهم البرابرة (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2). وعلى الرغم من احتمال مبالغة الإسكندر في وصف الحالة السابقة، تعضد الشواهد الآثارية الحقيقة الأساسية لصفة حياة الكثيرين من ساكني الجبال، لا في الأزمنة القديمة فحسب، بل في الأزمنة الحديثة أيضا نوعا ما. وعندما نتذكر أن الغالبية العظمى من مقدونيا، وخصوصا المناطق العليا أو الغربية، يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، يزداد إدراكنا دور الجبال في الحياة المقدونية.
كانت الثروة المعدنية أيضا موجودة بوفرة، والمنطقة في الأزمنة الحديثة مصدر للذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس وركاز الحديد وكربونات المغنسيوم والزنك والأسبستوس والكروم والبيريت والموليبدنوم الذي يستخدم في صنع سبائك الفولاذ. ومن غير المؤكد أنه كان يجري استخراج كل هذه المعادن في الأزمنة القديمة، لكن كلا من الذهب والفضة كان ينتج بنشاط في عهدي فيليب والإسكندر، وأيضا على أيدي خلفائهما. وتدل كمية ونوعية المشغولات التي كشفت عنها أعمال التنقيب والتي صنعت من معادن أقل قيمة؛ على أن سكان مقدونيا كانوا يعرفون هذه الموارد وطوروا مهارات لاستغلالها. ومن الجائز تماما أن المعادن كانت عاملا في الاتصال بين الميسينيين في يونان العصر البرونزي والشعوب المقدونية. علاوة على ذلك، تظهر الكشوفات الحديثة في مدينة بدنا أن المستوطنين الإغريق اكتشفوا هذه الموارد المعدنية في أواخر العصرين المظلم والعتيق. ومن مكونات الجبال الأخرى التي كانت لها قيمة كبيرة في الإنشاء الرخام الفاخر والحجر الجيري اللذان كانا يستخدمان في إقامة التحصينات والطرق والأبنية.
يتناثر بين السلاسل الجبلية الكثير من السهول الواسعة التي حبيت بنعمة الأنهار والأمطار مع التربة الخصيبة، وعندما يتجه المسافر غربا من بحر إيجة، يصادف طبقات من الوديان التي تدعم - على الرغم من تفاوت أنواعها النباتية - الرعي وتربية المواشي أسهل مما تدعمه السهول الجبلية الواقعة في جنوب اليونان. وتبين أن مقدونيا شديدة الانفتاح على جهود المزارعين المستقبليين في زمن مبكر يعود إلى تاريخ نشأة الزراعة. والحقيقة أنه توجد مواقع في مقدونيا وفي جزيرة كريت من بين أولى مناطق القرى المستقرة في غرب بحر إيجة، وقد وثقت زراعة نوعين من القمح فضلا عن الشعير والعدس والحمص والدخن منذ العصر الحجري الحديث. ويقينا كانت الأعناب منذ زمن فيليب والإسكندر، إن لم يكن قبلهما، أيضا عنصرا مهما من عناصر الزراعة المقدونية. وتمكنت بعض أشجار الزيتون، إن لم يكن الكثير منها، من البقاء في المناطق الأقرب إلى الساحل من ذلك الإقليم. وتوجد في الأزمنة الحديثة أحواض معينة يمكنها زراعة ثلاثة محاصيل سنويا. تضمنت سبل عيش الفلاحين المقدونيين في السهول، ومن يعيشون في الأعالي، تربية الحيوانات كالمعز والضأن والخنازير والأبقار والخيول، وتوفر السهول الساحلية مراعي ممتازة للأبقار والخيول ومراعي شتوية للمعز والضأن. وتمكنت الخيول التي تركها الجيش الألماني في الأيام الأخيرة من احتلاله اليونان، من البقاء دون رعاية بشرية حتى يومنا هذا على ضفاف نهري أكسيوس وهالياكمون.
شكل 2-4: النظر غربا عبر جبال بيندوس. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
هذه السهول الفسيحة منفصلة أحدها عن الآخر بمعالم المنطقة الطبيعية الأخرى، وتمخض صعود سطح الأرض وهبوطه في الفترات السحيقة عن تغيرات في المناسيب داخل المناطق، وأيضا فيما بينها. وكل واحد من هذه السهول مقسم إلى أجزاء بفعل ما يجري فيه من أنهار أو روافدها؛ إذ يشتمل السهل الأوسط، الذي يلتف حول الخليج الثيرمي، على ثلاثة أجزاء من هذا القبيل، وكذلك الحال مع المناطق الواقعة في مقدونيا العليا. ويمكن لكل منطقة من هذه تحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل مزيج من الأحواض والبحيرات والغابات والأنهار والجبال؛ لكن على الرغم من الفواصل الطبيعية، نجد المناطق الأصغر مترابطة من حيث اتصالها بالطرق الرئيسة التي تمتد من البحر إلى وسط البلقان وإلى البحر الأدرياتي. وإليكم الوصف الذي ذكره هاموند لإحدى الطرق المؤدية من إبيروس إلى مقدونيا:
لا يشكل الطريق من إبيروس إلى كاستوريا، ثم شمالا إلى أوخريد، أو شرقا إلى مقدونيا؛ صعوبات خطيرة ، وذلك بمجرد عبور نهر أوس عند ميسويفيرا، فيمضي المرء صاعدا إلى ليسكوفيك، ثم يلتف حول أنف الجبل وعبر الوديان ليدخل منطقة إرسيكا الخصبة على صغرها، ومنها يعبر جبل لوفكا عن طريق ممر تشاره، وينزل إلى سهل كستوريا [في منتصف الطريق تقريبا بين البحر الأدرياتي والخليج الثيرمي ببحر إيجة]. (1972: 102)
ما يبرهن أيضا على إمكانية الربط طريق فيا إجناسيا الروماني، الذي شق قرب نهاية القرن الثاني على امتداد مسار تجاري كان مصدرا رئيسا للترحل في الأزمنة السابقة، وهو اليوم الأساس الذي يقوم عليه إنشاء طريق سريع حديث.
شكل 2-5: ساحل بدنا المطل على الخليج الثيرمي. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
وهكذا يمكن وصف المنطقة المعروفة باسم مقدونيا بأسرها كمنطقة وسط؛ فهي تقع عند تقاطع الطرق الواصلة بين المناطق الواقعة في الشمال والجنوب من ناحية، وإلى الغرب والشرق من ناحية أخرى. دخل البشر الأوائل اليونان قادمين من أوروبا ومن الأناضول، والواضح أن مسار هجرة السلالة الأوروبية كان بالبر من خلال البلقان إلى مقدونيا ثم جنوبا. وعلى الرغم من أن معظم الهجرة الوافدة من الأناضول حدث عن طريق البحر، يبدو أن المستوطنات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث في مقدونيا وتيساليا نشأت بالحركة التدريجية رحيلا عن الأناضول وعبر شمال بحر إيجة. كانت تجارة الإغريق الميسينيين في العصر البرونزي ومنتجاتهم تتجه شمالا إلى مقدونيا، وسارت على خطاها الجهود الاستيطانية من جانب إغريق البر الرئيس في القرنين التاسع والعاشر. ظلت غزوات الشعوب العدوانية غرب جبال بيندوس، التي كانت شائعة في أزمنة ما قبل التاريخ، على كثرتها في عصر فيليب والإسكندر.
شكل 2-6: عرش زيوس على قمة جبل الأوليمب. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
أوحى موقع مقدونيا المغري للأجنبيين عنه بالتعاون لما قد ينتج عنه من قوة، وعندما وحدت المناطق المجزأة تحسن الموقف الجماعي من حيث القدرة على صد الغزوات. وأفادت المداومة على حراسة طرق الدخول القليلة المفتوحة عن طريق البر وعلى امتداد الخط الساحلي للخليج الثيرمي؛ في الدفاع عن أمن المناطق المجزأة طبيعيا، وأفادت كذلك في تحسين فعالية الطرق المتشعبة إلى الخارج في جميع الاتجاهات.
خلاصة القول أن مقدونيا أتاحت لسكانها تشكيلة من الموارد:
تربة خصبة للزراعة ومراع ممتازة للحيوانات المستأنسة، وهما ركيزتا الاقتصاد القديم.
ثروة وفيرة من الحيوانات البرية والأسماك.
موارد خشبية ومعدنية ممتازة للاستخدام الداخلي وللتجارة الخارجية.
درجة معقولة من الأمن بفضل شكل الجبال والأنهار.
إمكانية الوصول إلى البحر مقرونة بمنطقة داخلية شاسعة.
موقع جمع بين الخصائص المتوسطية والأحوال المناخية والطبوغرافية الأوروبية.
منطقة كانت على الأرجح مغرية للآخرين؛ ومن ثم ففي توحدها فائدة.
ولو قبلنا ما قال به أبقراط وأرسطو عن دور البيئة في طبيعة سكانها، لجاز لنا أن نذهب إلى أن طبيعة مقدونيا نمت سمات معينة في أهلها. إنها يقينا ليست بالبيئة «السهلة»؛ إذ لا بد أن يكون المقدونيون أهل جلد وشدة لكي يستفيدوا من موارد الجبال؛ فيصطادوا الأيائل والأسد، ويستخرجوا المعادن الخام، ويرتحلوا بالقطعان من المراعي الصيفية إلى المراعي الشتوية، ويحرسوا الممرات الجبلية الضيقة من الغزاة. وبما أن مقدونيا كانت محاطة بالغزاة المحتملين، كان الحفاظ على استقلالها سيفشل من دون تنسيق فعال للأمن. وكان لا بد لأي قائد مستقبلي لهذا الشعب أن يكون مدربا على إدارة إقليم ينطوي على إمكانيات عظيمة وأخطار دائمة في الوقت نفسه. (1) السكان
أكدنا على الانقسامات الطبيعية داخل الإقليم الذي وسع أثناء حكم الإسكندر الأول في القرن الخامس، بل ووسع أكثر أثناء حكم فيليب الثاني، وأفضت هذه الانقسامات إلى فروق بين التجمعات السكانية. تعود التجمعات السكانية المتنقلة إلى العصر البرونزي كما يتبين من الثقافة المادية، كطبيعة المواقع، وتقاليد دفن الموتى، وطرق صناعة الفخار. وأثناء العصر البرونزي سادت الشعوب الهندية-الأوروبية في الغرب والشمال الغربي، ويمكن أن تعزى التأثيرات الخارجية إلى التراقيين في الشرق، والميسينيين في الجنوب، وشعب يعرف باسم البريجيين (أو الفريجيين) تنم أساليبه في صنع الخزف عن أصل أوروبي أوسط. وتشير الشواهد إلى استمرار الشعوب الأولى، على الرغم من هجرة جماعات جديدة صغيرة نسبيا في أعدادها الكلية إلى المنطقة. تمخضت الغزوات عن تحركات سكانية، لكنها لم تغير هيكل الحياة الأساسي الذي تطور من العصر الحجري الحديث؛ ومن ثم كانت مقدونيا العليا والدنيا تتمتع بإرث هندي-أوروبي في أزمنة ما قبل التاريخ وفي عصر فيليب والإسكندر. وجدت هذه الرابطة المشتركة ذاتها بين شعوب مقدونيا الأساسية ومعظم جيرانها؛ إذ كان التراقيون والبيونيون والإبيروسيون، بل الإليريون أيضا، من أصل هندي-أوروبي.
ومع ذلك توجد فروق كبيرة بين مختلف الشعوب الهندية-الأوروبية؛ فعلى الرغم من انتمائها إلى لغة أساسية مشتركة، تفرعت هذه اللغة التي كانت ذات يوم واحدة لتصبح شجرة متعددة الفروع على مدى ألف سنة من التطورات بين الأفراد الناطقين باللغة الهندية-الأوروبية. إن فروع هذه اللغة الاثنا عشر الرئيسة هي: الأناضولية، والبلطيقية، والجرمانية، واليونانية، واللاتينية (أو الرومانسية والإيطاليقية)، والإليرية (أو الألبانية)، والهندية، والإيرانية، والسلتية، والسلافية، والتراقية، والطخارية. وانبثقت من كل واحد من هذه الفروع فروع أصغر على هيئة فروق في اللهجة. ومن حيث اللغات المستخدمة حاليا، يصل عدد الفروع إلى 77 فرعا، ويوجد حوالي 36 شكلا من أشكال اللغة الهندية-الأوروبية لم يعد مستخدما استخداما عاما. وكما يكشف مدى هذه الفئات، ربما يكون تنوع أشكال اللغة الهندية-الأوروبية غير واضح أو حتى غير مفهوم للناطقين بالأشكال الأخرى لهذه اللغة الأم. علاوة على ذلك، تنتج البيئات المختلفة أساليب حياة مختلفة تتمخض بدورها عن مفردات جديدة لا توجد بالضرورة بين الشعوب الهندية-الأوروبية الأخرى.
خلاصة القول أن توحيد الشعوب الهندية-الأوروبية العديدة في منطقة جنوب البلقان، على نحو يعززه إحساس بالإرث واللغة المشتركين؛ كان مستبعدا؛ لأن التنوع اللغوي كان جاريا منذ ما يتراوح بين ثمانية وتسعة آلاف سنة بحلول القرن الخامس قبل الميلاد. والحقيقة أنه لم تكن الشعوب كلها على الأرجح ناطقة بالهندية-الأوروبية؛ إذ إن هويات بعض التجمعات القبلية على امتداد جانبي جبال بيندوس ليست مؤكدة. كتب تشارلز إدسون، الباحث المتخصص في التاريخ المقدوني، في ملخصه المتزن المعنون «مقدونيا المبكرة»، عن «مجموعات من القبائل البربرية» في الأجزاء الشرقية والوسطى مما سيصبح مملكة مقدونيا الموحدة تحت قيادة فيليب الثاني. ربما كانت العناصر الثقافية المشتركة عاملا يسر التعاون، لكن ربما كان الأهم من ذلك حتى هو التهديدات المشتركة.
كذلك لن يفيد الأصل المشترك في ربط المقدونيين بجيرانهم الهنود- الأوروبيين الموجودين جنوبا على الخليج الثيرمي، وتحديدا الفرع الإغريقي من الأصل الهندي- الأوروبي. والحقيقة أن الآراء التي وصلت إلينا وقال بها بعض إغريق القرن الرابع قبل الميلاد، تكشف عن ضعف الآصرة المشتركة بين الإغريق والمقدونيين؛ فوفقا للخطيب الأثيني ديموستيني، لم يكن فيليب إغريقيا ولا حتى تربطه صلة قرابة بالإغريق، بل كان رجلا من أسوأ البرابرة، ينتمي إلى مكان يستحيل حتى شراء عبد صالح منه (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، 4).
لم تكن مسألة الإثنية مسألة جدلية في الأزمنة القديمة فحسب، بل ظلت هكذا إلى اليوم، وليس بين الباحثين فحسب، بل في أعين بعض اليونانيين المحدثين. ترجع معظم الصعوبة في معرفة طبيعة العلاقة إلى غياب أنواع معينة ضرورية من الشواهد؛ فعلى سبيل المثال: اللغة مفتاح أساسي من مفاتيح الهوية (معرفة هل كانت لغة شعب ما - سامية أو هندية-أوروبية أو آسيوية - مؤشرا مهما على الإثنية)، لكن هذه الشواهد تكاد تنعدم فيما يخص التاريخ المقدوني المبكر. وعندما تبدأ النقوش في الظهور في السجل الأثري، نجد روابط تجمع سكان مقدونيا باليونان، وتتجلى في كتابة النقوش بالألفبائية الإغريقية. غير أن استخدام الحروف الإغريقية ربما لم يكن أكثر من طريقة ملائمة لهذه النقوش المعينة، أو ربما استخدمت هذه الحروف، كما في حالة النقوش الألفبائية الإغريقية في تراقيا، لأنه لم يكن هناك بعد نظام كتابة أصلي. وهناك احتمال آخر، وهو أن اللغة الإغريقية كانت آخذة في التحول إلى نظام الكتابة السائد أو المشترك في مناطق تتجاوز حدود المناطق الإغريقية الأولية قبل مجيء الفترة الهلنستية. بل إن المعلومات عن لغة المقدونيين المنطوقة أشح؛ حيث وجد «لوح لعنة» وحيد في بيلا ربما يكون مكتوبا بلهجة «مقدونية» من لهجات اللغة الإغريقية. الاستنتاج الوحيد اليقيني هو أن المقدونية المنطوقة تختلف أحيانا عن الإغريقية.
من ناحية أخرى، تدعم أسماء الأعلام المقدونية التي توجد في القصائد الهوميرية الرابط بين المقدونية والإغريقية، ومن بينها اسم السلالة الملكية «الأرغية». وتشير مصادر متأخرة إلى أن فيليب والإسكندر، بل ملوك أرغيون أبكر منهما أيضا، كانوا يتحدثون بسهولة مع كل من المقدونيين والإغريق. بالطبع يمكن تعلم لغات أخرى، لكن كما سنرى، تشي تأريخات السلالة الأرغية الواردة في المصادر الإغريقية بأصلها الإغريقي.
يروي هيرودوت حكاية ثلاثة إخوة مضوا في طريقهم - بعد طردهم من أرجوس في بيلوبونيز - إلى مقدونيا حيث صار أصغرهم، وهو بيرديكاس الأول، في النهاية وفيما يشبه المعجزة، زعيما لجماعة من المقدونيين تعرف باسم الأرغيين، وهم السلالة المالكة (الكتاب الثامن، 136-139). ربما تكون هناك حقيقة في نمط التنقل (بل في الواقع التنقلات) من اليونان إلى مقدونيا؛ إذ في زمن متأخر، وتحديدا في القرن الخامس، اتخذ مواطنون من مدينة مسينيا الإغريقية، التي كانت ذات يوم متألقة، من مقدونيا موطنا جديدا لهم عندما دمرت أرضهم على يد مدينة أرجوس؛ وعندما استولى الأثينيون على مدينة هيستيايا في جزيرة وابية وطردوا سكانها، أعيد توطين اللاجئين في مقدونيا أثناء حكم بيرديكاس الثاني. وعلى نحو ما أسلفنا، فإن موقع مقدونيا ملائم تماما للانتقال إلى المنطقة، وكان المقدونيون يعتبرون أنفسهم مهاجرين. الشيء غير المؤكد هو المكان الذي جاء منه الأرغيون، وقبول حقيقة الارتحال إلى مقدونيا الدنيا لا يقدم تفسيرا نهائيا للهوية المقدونية.
الخريطة 1: أقاليم مقدونيا ومعالمها الطبيعية ومواقعها.
المنتجات المادية خيط آخر يقودنا إلى هوية أي شعب بعينه؛ إذ يمكن أن تكشف الأساليب المعينة في صناعة الفخار والعمارة والنحت والقطع النقدية والمشغولات المعنية الأخرى عن تراث ثقافي مشترك. مما يؤسف له أن إقليمية مقدونيا تمخضت عن مزيج من الأساليب التي تأثرت غالبا بمختلف الجيران، كالإغريق في الجنوب، والتراقيين في الشرق، ومختلف الشعوب البلقانية في الشمال والغرب. ولم يتمخض التحليل الأنثروبولوجي للبقايا البشرية عن إجابة قاطعة عن هذا السؤال بعد، وإن كان تحليل الحمض النووي يبشر بتقديم أدلة أتم في المستقبل.
ريثما تتوافر أدلة جديدة، يبدو من الأوفق أن نستخدم المصطلح الذي استخدمه هيرودوت لتصنيف سكان مملكة مقدون، وهو المكدونيون (الكتاب الأول، 56، 3)، وأن نصنفهم أيضا كهنود -أوروبيين. ومن الجائز تماما أن المهاجرين الذين وفدوا على مقدونيا الدنيا كانت تجمعهم صلة قرابة. وقاد الانتقال إلى المناطق الشرقية بعض المكدونيين، بقيادة عشيرة تسمى الأرغية، إلى السهل الساحلي على الشاطئ الغربي للخليج الثيرمي، ويوما بعد يوم بسط الوافدون الجدد سيطرتهم على المنطقة الممتدة شمال جبل الأوليمب إلى رأس الخليج؛ أما الجماعات الأخرى فظلت تسكن العديد من المناطق الأخرى الأبعد من ذلك شمالا وغربا، التي كانت منفصلة بعضها عن بعض كما رأينا بفعل المعالم الطبيعية التي تميز جنوب إقليم البلقان. لكن استنباط شواهد من طبيعة لغات هذه الجماعات يظل أمرا صعبا.
تزداد مسألة اللغة والإثنية تعقيدا بما أن الشواهد على الإثنية المقدونية تأتي في المقام الأول من مصادر إغريقية، ولم تكن هناك رؤية إغريقية موحدة. الأكثر من ذلك أن تصور الإثنية المقدونية تغير على مر الزمان؛ إذ تغير الأساس السابق لتعريف الهوية الإغريقية على أساس الإثنية والانتساب إلى جد مشترك مفسحا المجال أمام المعايير الثقافية. علاوة على ذلك، كان حكم أي كاتب على انتماء المقدونيين إلى أصل إغريقي يعتمد على المعايير التي ينتقيها هذا الكاتب بعينه. وفي ضوء الشواهد الإشكالية في كل فئة من فئات الأدلة، لا نستغرب أن للنقاش حول «المسألة المقدونية» تاريخا طويلا ولم يوجد له حل.
وإذ نضع هذا التضارب في اعتبارنا، من المهم أن نقدر كلا من القربى والاختلافات مع الإغريق في فهم الإسكندر وعالمه. لقد تغلغلت التأثيرات الثقافية الإغريقية بدرجة متزايدة في التقاليد المقدونية حتى من قبل أن يضم فيليب اليونان إلى ملكه؛ ومن ناحية أخرى، فإن «آخرية» مقدونيا في نظر الإيجي الإغريقي تلعب دورا كبيرا في مسيرتي فيليب وابنه، وسوف نستجلي مسألة الروابط المقدونية باليونان على نحو أكثر استفاضة في الفصل الرابع. (2) إنشاء مملكة من مجموعة من القبائل
يوحي استخدام كلمة «مقدونيا» الأحادية بوجود كيان موحد، وهذا استنتاج غير دقيق فيما يخص جزءا كبيرا من تاريخ هذه المنطقة القديم، إن لم يكن معظمه؛ فلم تتسع السيطرة اتساعا كبيرا فيما وراء السهل الأوسط المطل على الخليج الثيرمي ببحر إيجة إلا في عهد فيليب الثاني، وسرعان ما تقوضت تلك الوحدة في إطار التنافس على السيطرة بعد موت الإسكندر. وعلى الرغم من نجاح الملوك السابقين على فيليب في إضافة أراض إلى الشمال من المستوطنة الأولى الصغيرة التي استوطنها المكدونيون في بيريا، فقد شهد استحواذهم على السلطة تحديا مستمرا وشديدا من كل الاتجاهات.
ويخص أقدم تأريخ موثوق فيه وصل إلى أيدينا حكم الملك أمينتاس الأول (540-498 قبل الميلاد)، الذي أقر له بالملك حتى الملوك الفرس فأقاموا علاقات دبلوماسية معه. لكن العلاقة لم تكن علاقة بين ندين متساويين، والواقع أنه يجوز تماما وصف مملكة مقدون بأنها كانت خاضعة للسلطة الفارسية أثناء تلك الفترة، حتى ولو لم تخضع رسميا تحت سيطرتها كولاية فارسية (مرزبة) أو إقليم. بعد ذلك بسنوات استغل أحشويرش مقدونيا كنقطة انطلاق لانقضاضته على الدول الإغريقية في 480-479. وعلى نحو ينطوي على شيء من التناقض، ربما يكون إعلاء مكانة التحالف الفارسي هو الذي سمح لأمينتاس بأن يضوي إيليميا وأوريستيس ولينكيستيس وبيلاجونيا تحت لواء تحالف اسمي مع مقدونيا. وأما ابنه وخليفته الإسكندر الأول، الذي يصفه هيرودوت بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والقوة، فاستطاع ضم إقليم إضافي جهة الغرب تلقاء جبال بيندوس ويمتد شمالا بمحاذاة نهر أكسيوس، عند رأس الخليج الثيرمي، أثناء حكمه الممتد من 498 إلى 454. يصف ثوكيديدس، في معرض وصفه الحرب البيلوبونيزية في الثلث الأخير من القرن الخامس، اللنكستيين والإيليميين وغيرهما من الإثنيات في عمق الإقليم كرعايا للمقدونيين وحلفاء لهم (الكتاب الثاني، 99، 2). تعزى أيضا إلى الإسكندر الأول بعض الابتكارات المهمة في تكتيكات المشاة وعلاقة جنود المشاة بالملك المقدوني. كان الإسكندر قد شهد نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة القوات الفارسية، وكانت مقدون يقينا في حاجة إلى قوة عسكرية قوية لبناء التحالف ثم الحفاظ عليه، ولدرء الجيران الآخرين العدوانيين، وللتصدي للأطماع الإغريقية المتزايدة، وخصوصا أطماع أثينا، في شمال المنطقة الإيجية أثناء عهد الإسكندر الأول وما بعده.
لدى موت الإسكندر الأول، تنازع على خلافته أبناؤه الكثيرون، وهذه واقعة متكررة في مقدون في القرنين الخامس والرابع، بل أثناء الفترة الهلنستية أيضا بعد موت الإسكندر الأكبر. نجح بيرديكاس الثاني في وراثة العرش، لكن هذا لم يحدث إلا بعد القضاء على اثنين من إخوته، وربما أبناء أحدهما، وامتد حكمه إلى 414 / 413، وتجسدت أثناء هذا الحكم كل التهديدات المحتملة السالفة الذكر. والحقيقة أن بيرديكاس عانى من أطماع أكبر حتى مما عرفها أبوه من جانب الجهات الخارجية في الإقليم المقدوني والموارد المقدونية، وهو ما يعزى إلى حد كبير إلى الوضع في اليونان؛ حيث تصادفت بداية حكمه مع تحويل التحالف الطوعي بين الدول الإغريقية بزعامة أثينا إلى حلف إجباري. أسفر هذا التحويل بدوره عن انقسام متزايد بين الدول الإغريقية، أدى إلى 27 سنة من الحرب الأهلية (431-404) بين أثينا وحلفائها/رعاياها من ناحية، وإسبرطة كزعيم للحلف البيلوبونيزي من ناحية أخرى.
كان موقع مقدونيا الاستراتيجي ومواردها من الخشب اللازم لبناء السفن والأسلحة حيويين لكلا طرفي الصراع الإغريقي. أسس الأثينيون حضورا دائما في أمفيبوليس على أسافل نهر سترايمون سنة 437. واستجاب الإسبرطيون لطلبات المساعدة من بيرديكاس الثاني في نضاله ضد الغزوات التراقية في إقليم أكسيوس. وانتهزت مملكة لنكستيس الكونفيدرالية الفرصة لكي تنفصل عن الائتلاف المقدوني الهش وتصبح أقوى دولة قبلية في المنطقة أثناء النصف الثاني من القرن الخامس. وأثبت اللنكستيون، في عهد ملكهم أرهابايوس، أنهم جيش قوي في مواجهة جيش موحد يتألف من المقدونيين بزعامة بيرديكاس والقائد الإسبرطي براسيداس على رأس قوة قوامها 3 آلاف من المشاة الثقيلة وألف من الفرسان، بالإضافة إلى قوة من الجنود الخالكيذيكيين. وعلى الرغم من هذه المشكلات العويصة، ظل قلب المملكة المقدونية دون مساس.
استفاد ابن بيرديكاس وخليفته أرخيلاوس (414-400 / 399) من التطورات الحادثة في اليونان، التي حولت اهتمام الدول المنافسة إلى أجزاء أخرى من المنطقتين المتوسطية والإيجية، وينسب إليه الفضل في تقوية قلب المملكة بإنشاء حصون حدودية لحماية سلامة أراضيها، وطرق تربط أجزاءها بعضها ببعض. ربما كان أرخيلاوس أيضا مسئولا عن إنشاء مدينة على أبواب نهر أكسيوس، وعن إنشاء برج مراقبة داخل سور دائري ضخم فوق تل شديد الانحدار على الضفة المقابلة. كما أن له مساهمة أخرى كبيرة هي نشر الثقافة الهيلينية في العاصمة المقدونية؛ فمثلما كان الإسكندر الأول يستضيف الشاعرين الغنائيين الإغريقيين بندار وباكيليديس، وكان بيرديكاس الثاني يتلقى زيارات من أبقراط والشاعر ميلانيبيديس، كان أيضا من بين مشاهير الزوار في زمن أرخيلاوس الشاعران الأثينيان يوربيديس وأجاثون، والرسام زيوكس، والموسيقار والشاعر الغنائي تيموثيوس، ودعي سقراط إلى زيارة بيلا لكنه رفض على أساس أنه لا يستطيع رد واجب الضيافة. كان هذا الحاكم الأرغي أول مقدوني يفوز بإكليل في سباقات الكدريجة (عربة تجرها أربعة خيول) في أوليمبيا سنة 408 قبل الميلاد. وسع أرخيلاوس أيضا المستوطنة الموجودة في بيلا، التي صارت العاصمة أثناء حكم فيليب الثاني إن لم يكن قبل ذلك. جاءت نهاية أرخيلاوس ومساعيه على يد نبيل مقدوني حانق قتله، تاركا وريثا طفلا. وفي العقود الأربعة التي تلت ذلك، تمكنت المملكة بمشقة من النجاة من التحديات الداخلية والخارجية التي واجهت حكامها السبعة أو الثمانية خلال تلك الفترة.
في أقل من عقد من الزمن، تنقل العرش بين أبناء ثلاثة أفرع من السلالة الأرغية؛ ففي البداية، اعترف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس ملكا على البلاد، مع تولي أيروبوس - ربما كان عمه - منصب الوصي على العرش؛ ثم صار أيروبوس نفسه ملكا لمدة أربع سنوات بعد أن تخلص من ابن أخيه. وبموته، حكم البلاد أمينتاس الثاني الذي ينتمي إلى فرع الإسكندر الأول لفترة وجيزة إلى أن قتل على يد درداس الإيليمي في مقدونيا العليا، فخلفه على العرش بوسانياس، أحد أبناء أيروبوس، لبضعة أشهر إلى أن أزيح بتهمة الخيانة. لا تهم الأسماء بقدر ما يهم التعاقب على الحكم وما صاحبه من تآمر وقتل؛ فكون الشخص أكبر أبناء الملك الأرغي الحاكم لم يكن ضمانة لوراثته أباه وراثة سلمية، وإن نجح الشخص في اعتلاء العرش والمناداة به ملكا، فليس في هذا ضمانة لبقائه على العرش طويلا أو بلا منازع.
كان أحد أبناء فرع أمينتاس - يمتد نسبه إلى الإسكندر الأول - قد تمكن من النجاة من الصراع على السلطة، وصار ملكا للبلاد متخذا لقب أمينتاس الثالث سنة 393. وعلى الرغم من استمرار عهده حتى 370 / 369، شابته القلاقل الداخلية والخارجية. دفع اجتياح إليري لمقدون سنة 388 / 387 أمينتاس إلى التخلي عن العرش، فتولى الحكم في هذه الأثناء ولفترة وجيزة شخص يسمى أرغايوس، وربما كان أحد أبناء الملك أرخيلاوس. وبمساعدة الإغريق التيساليين في حملة دامت ثلاثة أشهر، استعاد أمينتاس الملك في 387 / 386. وبالإضافة إلى الغزاة الإليريين، واجه اجتياحا على أيدي الإغريق من مدينة أولينثوس في شبه جزيرة خالكيذيكي في 383 / 382، وهي الحملة التي أسفرت عن الاستيلاء على بيلا؛ فاتجه أمينتاس إلى إسبرطة لإقامة تحالف وطلبا للعون في الصراع بين مقدون وأولينثوس، الذي لم يحل حتى حكم فيليب الثاني.
ينسب الفضل إلى أمينتاس مرتين: أولاهما لقدرته على البقاء في السلطة في مثل هذه الظروف، والأخرى لذريته؛ إذ أنجب الإسكندر الثاني الذي خلفه لمدة سنتين (369-368)، وبيرديكاس الثالث الذي صمد لنحو سبع سنوات (368-359)، وفيليب الثاني الذي أسس مملكة مقدونيا الضخمة خلال حكمه الذي دام 23 سنة (359-336). واجه الإسكندر الثاني حربا أهلية في الديار، وجر إلى الأحداث الإغريقية المستمرة في تيساليا المجاورة، ومات قتيلا، فخلفه أخوه الذي يصغره بيرديكاس الثالث، مع وجود وصي على العرش مارس السلطة لعدة سنوات. بالإضافة إلى التهديدات الداخلية لسلطة بيرديكاس، كانت أهم التهديدات الخارجية التي تطلبت قيادته الأنشطة الأثينية في شمال منطقة بحر إيجة، وغزوات الإليريين الذين كانوا يزحفون بنجاح من منطقة البحر الأدرياتي. ثم هلك ومعه نحو 4 آلاف مقدوني في ميدان المعركة في 360 / 359 في إطار تصديه لتهديد الإليريين.
نظرا للتاريخ الحافل بالمنافسة على السلطة السالف الذكر، ربما كانت هوية الشخص الذي سيختار خليفة غير يقينية. كان لبيرديكاس ابن صغير ربما أعلن ملكا، وكان له أيضا أخ وهو فيليب الثاني، وكان من بين المنافسين الآخرين بوسانياس وأرغايوس من فروع أرغية أخرى، وكلاهما سبق أن ولي الملك فترة وجيزة في تسعينيات ذلك القرن وأوائل ثمانينياته على الترتيب. بعد التعامل مع بوسانياس وأرغايوس، ربما وقع الاختيار على فيليب كوصي على عرش ابن أخيه القاصر، أو ربما أعلن ملكا في حد ذاته. ثمة نقاش حافل يحيط بهذه المسألة، لكن ما يهمنا هو المحصلة؛ حيث صار فيليب الثاني الزعيم التالي للدولة المقدونية الهشة. وإليكم الكلمات القوية التي كتبها تشارلز إدسون:
كانت لحظة الكارثة واليأس تلك هي التي شكلت من الشعب المقدوني أمة. صار بمقدور جميع عناصر المجتمع آنذاك أن تدرك أن مجرد البقاء يتوقف على الطاعة الإرادية للسلطة الملكية ... يظل صعود مقدونيا الفائق السرعة إلى مرتبة قوة عظيمة في ظل سماحة حكم أخي بيرديكاس الأصغر، فيليب الثاني الشهير؛ مثالا حيا على الاستجابة الشجاعة والناجحة للضغوط الخارجية التي يبدو أنها لا تقهر. (1970: 43)
لم يستطع فيليب أن يظل سمحا باستمرار في محاولة استعادة سلامة أراضي المنطقة الشاسعة، التي كتب عنها ثوكيديدس يقول: «الكل بأكمله يسمى مقدونيا» (الكتاب الثاني: 99، 6). كان جزء كبير من ذلك الكل في مقدونيا العليا قد انفصل عن التحالف الذي أقامه الإسكندر الأول أو الذي طالب آخرون، كالإليريين والتراقيين والإغريق، بأحقيتهم فيه. واجه فيليب أيضا منافسة على السلطة من خمسة مطالبين بها، وكانت مهمته الأولى لكي يقود جيشا هي اكتساب الشرعية، ومعنى هذا باختصار التعامل مع المنافسين وترسيخ حقه في القيادة؛ فأبرم في تلك الأثناء معاهدات بدلا من خوض حروب مع الملك الإليري والشعب الأثيني، وبحلول عام 358، كان فيليب قد استبدل بالعمل العسكري الدبلوماسية في تعاملاته مع القوى الخارجية؛ إذ أدت حملة ناجحة في إليريا، أعقبها زواج بابنة الملك الإليري المهزوم، إلى تخفيف وطأة ذلك التهديد، على الأقل مؤقتا، واستهل اجتياح تيساليا وزواجه بامرأة من عائلة تيسالية نبيلة ولوج مقدونيا إلى الشئون الإغريقية. وفي السنة التالية تمخض تحالف - عززه من جديد الزواج بابنة الملك - عن روابط مقدونية قوية مع إبيروس. وأقرب من ذلك إلى قلب مقدونيا، أنه أعيد توحيد مقدونيا العليا مع المملكة سنة 358، وبدأ فيليب يستخدم القوة في محاولة لعرقلة الوجود الإغريقي، وخصوصا الأثيني، في الأرض الواقعة شمال غرب بحر إيجة. وفي عام 357، هاجم مستوطنة أمفيبوليس الأثينية المجاورة لنهر سترايمون واستولى عليها، تلك المستوطنة التي ظلت شوكة في الجنب المقدوني الشرقي لمدة 80 سنة.
اتبع فيليب طوال حكمه خطة تحالف مماثلة يتممها الزواج والدبلوماسية والحملات. كانت القوة العسكرية عنصرا أساسيا في أي أمل في النجاح؛ ومن ثم، على الرغم من تعذر تحديد التواريخ الدقيقة للتطورات، فالأرجح أن إعادة بناء وإصلاح الجيش الذي دمر سنة 359 كانت من أولويات فيليب العاجلة. كان قد حظي برؤية الإصلاح الكبير الذي أدخلته مدينة طيبة اليونانية على تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس» رأي العين، بينما كان رهينة في طيبة (367-364) في مستهل شبابه (بين 15 و18 سنة من عمره). وتتجلى أهمية هذه المعرفة في نجاحها في مساعدة طيبة على إنشاء إمبراطورية خاصة بها بعد هزيمة الجيش الإسبرطي سنة 371، وكان حتى ذلك الحين صاحب اليد العليا. ونناقش التغيرات التي طرأت على الجيش المقدوني مناقشة أتم في وصف ميراث الإسكندر من فيليب في الفصلين الثالث والخامس، بينما سنكتفي هنا ببيان ملامحه الرئيسة، كإنشاء قوات مشاة أخف حركة ومسلحة برماح أطول، والتوسع في الخيالة، وإنشاء سرايا خاصة من المشاة الخفيفة والخيالة الخفيفة، وتطوير آلات للحصار. ومع اتساع رقعة المملكة، سواء أكان ذلك من خلال الفتوحات أم التحالفات، توافر المزيد من الجنود. وبالاستخدام الكفء للموارد، تسنى لهم الوجود دائما في الميدان، سواء في حملات أم لأغراض التدريب.
خدم فيليب قضيته لكنه استفاد أيضا من أفعال أعدائه ومواقفهم، وكان العون الذي قدمه له أعداؤه هو التفرق؛ فباستثناء التحالفات التي كانت تنطلق من مقدونيا بمعدل متزايد، لم يكن يوجد إلا قليل من الوحدة بين مختلف شعوب البلقان أو التراقيين أو الإغريق، الذين كانت الحرب فيما بينهم ضد بعضهم بعضا حقيقة من حقائق الحياة. أدرك فيليب الصراعات الداخلية واستغلها لمصلحته في توسيع نطاق نفوذه بدرجة أكبر جنوبا في اليونان، وشرقا ضد الدول الإغريقية في شبه جزيرة خالكيذيكي، ثم داخل تراقيا وصولا إلى البحر الأسود، وغربا إلى شاطئ البحر الأدرياتي، وشمالا في بلاد البلقان.
ظلت تيساليا والدول الخالكيذيكية تشغل باله خلال عقد الخمسينيات. وبحلول سنة 352، كانت الحملات التي جردت في تيساليا قد حققت نجاحا كافيا، وإن لم يكن نصرا كاملا، لدرجة توليه منصب «تاجوس» التيسالي، بمعنى قائد القوات العسكرية التابعة لمناطق تيساليا الأربع جميعها. أدى استيلاء فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة 348، وما تلا ذلك من تدمير لتلك المدينة، ربما بالإضافة إلى 30 مستوطنة أخرى؛ إلى ضم خالكيذيكي فعليا إلى المحيط المقدوني. وبما أن الإغريق الجنوبيين، وخصوصا الأثينيين، كانوا ناشطين في شمال بحر إيجة؛ آذن عمل فيليب فعليا بمواجهة مستمرة مع المدن الإغريقية الكبرى. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الإغريق الأقصاء يقدرون قوة الجيش المقدوني، الذي كان يمكن استخدامه لخدمة قضية أحد الطرفين في الحروب التي لا تنتهي بين الدول-المدن الإغريقية أينما وجدت.
شهد النصف الأخير من القرن الرابع استمرارا للحرب الأهلية المدمرة بين أثينا وإسبرطة وحلفائهما من 431 إلى 404. وفي عدد لا نهائي من محاولات التسيد من جانب الدول الكبيرة والصغيرة على السواء، انتقل المشاركون من مراكز السلطة إلى وضع الرعايا المهزومين. وفي تلك الأثناء صار الأعداء السابقون حلفاء، وخرج الحلفاء السابقون إلى الميادين بعضهم في مواجهة بعض. وبينما كان الإغريق يحارب بعضهم بعضا، كان انتباههم أول الأمر مصروفا عن مقدونيا، وفيما بعد اتجهوا إلى فيليب وجيشه كأداتين في إطار جهودهم، فاستغل فيليب هذا الموقف ببراعة، وعندما دعي إلى تسوية الحرب المستعرة بين فوكيس والدول الأخرى في وسط اليونان، لبى الدعوة؛ فهزمت فوكيس سنة 346 واكتسب فيليب منصبا رسميا آخر، وهو عضوية المجلس الحامي لحرم دلفي.
لم يكن بوسع فيليب تجاهل الأعداء التقليديين الآخرين، فسارت الجيوش المقدونية ضد الإليريين في الشمال، وزحفت إلى إبيروس في الغرب وعبر تراقيا ثم سكيثيا في الشرق. أبرمت اتفاقيات جديدة، كالتحالف الذي أقيم مع ملك جيتاي، الذي كان يسكن المنطقة الواقعة بين تراقيا والدانوب، وأنشئت مستعمرات جديدة. وأما مع جنوب اليونان، فلم تكن العلاقات عسكرية، على الأقل مؤقتا. أرسل فيليب السفراء واستقبلهم، وخصوصا إلى أثينا ومنها، وساند العناصر الموالية للمقدونيين في مختلف أصقاع اليونان، فدعيت دولتا ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، على سبيل المثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.
على الرغم من هذه الدبلوماسية، كان الخوف من نوايا فيليب في ازدياد، ومن جديد كان هذا سائدا بالأخص في أثينا، التي كانت مصالحها في البحر الأسود معرضة للهجمات المقدونية. لكن المواجهة ستجر أرجل دول أكثر من مقدون وأثينا، ولن يكون مكانها في بحر بروبونتيس. بدلا من ذلك، عندما اشتعل فتيل الحرب في وسط اليونان مجددا في مطلع ثلاثينيات القرن الرابع، قاد فيليب المقدونيين عائدا بهم إلى اليونان كملك مقدوني ومسئول إغريقي في آن واحد. تمخض القلق المتنامي إزاء نوايا فيليب النهائية عن قيام تحالف بقيادة أثينا وطيبة، مع مشاركة حلفاء طيبة البيوتيين وفرق عسكرية من الدول الآخية، وفي موقع خيرونية في بيوتيا التقى ما بين 30 و35 ألف جندي إغريقي عددا مقاربا من المقدونيين بقيادة فيليب على رأس الجناح الأيمن، وابنه الإسكندر - الذي كان يقود الخيالة - على رأس الجناح الأيسر. كان النصر المقدوني حاسما، وفر الناجون من الإغريقيين إلى ديارهم على أمل الانتقام.
بدلا من الانتقام، سويت شئون الدول الإغريقية بتأسيس الحلف الكورنثي لأغراض هجومية ودفاعية، وانضم إليه الجميع باستثناء حليف بارز هو إسبرطة. ولغياب إسبرطة عن الحلف دلالته؛ إذ إن وجود الدولة - التي كانت ذات يوم الأعلى كعبا من حيث المشاة الثقيلة بين كل دول اليونان - لم يعد ضروريا لتسيير أمور مملكة صارت رقعتها بحلول سنة 336 تمتد من إليريا في الشمال الغربي إلى ساحل البحر الأسود الغربي في الجنوب الشرقي، ومن جنوب البلقان في الشمال إلى البر الرئيس الإغريقي في الجنوب. وتقدر الرقعة الجغرافية للملكة بمساحة 16680 ميلا مربعا (43210 كيلومترات مربعة)، كان أكثر من 12000 ميل مربع (31500 كيلومتر مربع) منها مملوكا فعليا، و4500 ميل مربع (11710 كيلومترات مربعة) منها تحت السيطرة المباشرة. في نهاية الحرب البيلوبونيزية كانت المساحة قد صارت 8400 ميل مربع (21750 كيلومترا مربعا)، بينما كانت أثناء حكم الإسكندر الأول 6600 ميل مربع (17200 كيلومتر مربع). كان أعضاء الحلف ينتمون إليه بالفتح، وبالتحالف الذي يعززه الزواج بالملك المقدوني، وبالاجتماع على أهداف مشتركة يجري التخطيط لها في اجتماعات مجلس المندوبين الموفدين من لدن جميع الأعضاء. في قلب كل حلقة كان هناك فيليب الثاني، الذي كان يتشعب بطرق مختلفة وفي اتجاهات متنوعة انطلاقا من عاصمته في بيلا. •••
لم يكد النظام الجديد يبدأ حتى اغتيل فيليب سنة 336. وما يبرهن على صحة تخطيط فيليب أن ابنه وخليفته الإسكندر الثالث استطاع إعادة تأكيد ترتيبات أبيه أثناء السنتين الأوليين من ملكه. قامت ثورتان؛ إحداهما في إليريا، قاد إليها الإسكندر جيشه المقدوني سنة 335، والأخرى في اليونان حيث تمحورت حول طيبة. فتعامل الملك الجديد مع كلتيهما بسرعة وفعالية، فدمرت طيبة. كانت مملكة مقدونيا تحت السيطرة، وكانت الأوضاع على حدودها الشمالية قد استتبت عندما استهل حملته ضد الفرس سنة 334.
غير أنه من المهم أن نتذكر أن التوحيد كان حديث عهد، وأن التوترات لم تتواصل فحسب بل اشتدت في خضم إنشاء المملكة المترامية الأطراف، التي اتسعت في عهد فيليب اتساعا كبيرا في رقعتها الجغرافية وتعداد سكانها، حتى صارت آنذاك تضم فئات كثيرة من البشر وحدتها الفتوحات أو التحالفات بعد أن كانت كيانات منفصلة تفرق بينها معالم الأرض الطبيعية والثقافة على حد سواء. كان معظم هذه الفئات، إن لم يكن كلها، يحن إلى استقلاله، وستظل الحركات الانفصالية التي كانت مشكلة تواجه الحكام الأرغيين الأوائل تقض مضجع الإسكندر. علاوة على ذلك، كانت أنماط الحياة لا تزال متباينة في عموم المملكة؛ إذ كان الرعي المترحل هو النشاط السائد في بعض المناطق، وكانت الزراعة المستقرة تشغل اهتمام معظم الناس في بعضها الآخر. وقد لاقى الرعاة والمزارعون على امتداد معظم التاريخ صعوبة في استيعاب أحدهما الآخر. كانت الاختلافات الإقليمية تتمخض عن توتر آخر؛ إذ تعرضت مواقع معينة لتشكيلة من الشعوب الأخرى، فساد التأثير البلقاني والصراع المحتمل في مقدونيا العليا، وأما على امتداد الخليج الثيرمي فتعرض المقدونيون للتأثير والاجتياح الإغريقي والتراقي.
كان معظم الملوك الأرغيين قد سعوا دأبا إلى إدماج عناصر من الثقافة الإغريقية؛ إذ برهن الإسكندر الأول في القرن الخامس على حقه في المشاركة في الألعاب الأوليمبية، وجلب أرخيلاوس بضائع ورجالا إغريقا إلى عاصمته في آيجي وأقام دورة ألعاب في ديون، واعتمد فيليب الثاني على الابتكارات الإغريقية كالإصلاح العسكري الطيبي، وكذلك على البضائع وعلى الأشخاص مثل أرسطو. عزز فيليب أيضا روابطه باليونان بإحراز ثلاثة انتصارات في الألعاب الأوليمبية في السنوات 356 و352 و348. كان هذا الاقتراض الثقافي عمليا من منظور معين، لكنه كان سببا للصدام من وجهة نظر أخرى. والراجح أن كثيرين من رعايا أرخيلاوس وفيليب لم يكونوا راضين بالكلية عن «أغرقة» الثقافة المقدونية. ومع قيادة الإسكندر جيشه وزحفه شرقا أكثر فأكثر، واجه ما يعرف شيوعا باسم ردود الأفعال المقدونية ضد ممارساته غير المقدونية المكتسبة حديثا.
كان توسيع المملكة قد تطلب قدرا أكبر من المركزية، وكانت هناك مراكز تأسست من قبل (في آيجي وبيلا)، لكن تعين اتخاذ المزيد من الخطوات مع ضم أقاليم جديدة إلى المملكة؛ فوسعت المراكز القائمة، وأقيمت حصون ومستعمرات كلما اتسعت حدود المملكة، وتعين شق طرق لربط المناطق. كان لزاما أيضا وجود قوة عسكرية كبيرة مرنة، ومع امتداد جهود فيليب إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود، تعين إقامة قوة بحرية. كانت كل هذه التطورات تحتاج إلى موارد، وكانت هذه الموارد موجودة يقينا، لكن تعين آنذاك قيام سلطة مركزية على أمر إنتاجها بكميات كافية واستغلالها، وتطلبت تلك المركزية بدورها توسيع الأجهزة الإدارية فيما وراء هيكل السلطة المقدونية الأصلي البسيط نوعا ما. حتى الإنشاء الفعلي لهذه الأجهزة كان من الجائز تماما أن يثير نفور العناصر المحافظة من السكان، وخصوصا العائلات النخبوية الأخرى.
وأخيرا كانت هناك توترات مستمرة في قلب الدولة، وتحديدا داخل السلالة الأرغية الحاكمة. كان عدد من الفروع الجانبية قد تفرع من الأسرة بحلول القرن الرابع، وعلى الرغم من أن الملك كان ينتقل من الأب إلى الابن، كان من الجائز أن ينتقل - كما في حالة وفاة أرخيلاوس التي أسلفنا بيانها - من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر أو إلى أحد فروع العائلة الجانبية؛ فأبو فيليب نفسه، وهو أمينتاس الثالث، كان ينتمي إلى فرع جانبي من فروع السلالة. كانت الأحقية بالملك تتعرض للطعن دوما لدى موت الملك الحالي.
خلاصة القول أنه مع التوسع الذي كان مثار الإعجاب وأواصر المركزية داخل المملكة، ظلت المملكة هشة وعرضة دائما للتهديدات الآتية من وراء حدودها. (3) طبيعة الحياة في مقدونيا القرن الرابع قبل الميلاد
عندما عنف الإسكندر رجاله على نكرانهم الجميل سنة 324، كان يصف التغير الهائل في طبيعة الحياة في مقدونيا على عهد أبيه.
تولى فيليب أمركم وكنتم رحلا لا تملكون موارد، وكان معظمكم يرتدي الجلود، ويرعى قليلا من الغنم على جانب الجبل ولا يحسن القتال لحماية نفسه في مواجهة الإليريين والتريباليين والتراقيين على حدودنا، فأبدلكم بجلود الحيوانات أردية كاسية، وأنزلكم من الجبال إلى السهول، وجعل منكم محاربين أولي بأس في مواجهة الجيران البرابرة، حتى يمكنكم الاعتماد على أنفسكم بدلا من الأمن الذي يوفره إقليمكم. جعل منكم سكان مدن، وسن قوانين وأعرافا نافعة. وعلى البرابرة الذين كانوا يحكمونكم وينهبونكم ذات يوم جعلكم سادة لا عبيدا لهم ولا رعايا. (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2-3)
لو قبلنا بصحة هذا التوبيخ، يكون فيليب هو الذي حول المقدونيين من الهيئة البربرية إلى الهيئة المتمدنة. وتستدعي الشواهد، على الرغم من ضآلتها، بعض التعديل لفجائية عملية التمدين؛ إذ يمكن تتبع تاريخ عملية مستمرة قوامها التحول إلى الاستقرار وسكنى الحضر في تيساليا ومقدونيا وإبيروس إلى نهاية العصر البرونزي وحتى القرن الرابع قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن جهود فيليب حفزت هذه العملية بشدة، كانت حياة القرية قد اتسعت قبل ذلك في أجزاء من مقدونيا، وخصوصا المناطق الواقعة في مقدونيا الدنيا المتأثرة بالمستعمرات الإغريقية التي أنشئت قبل ذلك في العصر الحديدي، وبدأت تتكاثر عددا في القرن الثامن وما تلاه. كانت القرى صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان على حد سواء في معظم مناطق مقدونيا، وكانت المواقع التي تزيد على نحو 7,5 إلى 10 آكر (3-4 هكتارات) نادرة في غربي مقدونيا. على النقيض من ذلك، كانت بيلا أكبر مستوطنة، وبمساحة 74 آكر (27 هكتارا) مع أكروبول على مساحة 4,5 آكر (1,8 هكتار).
تباينت أيضا الوظائف والأشغال بين المناطق؛ إذ كانت الزراعة بالإضافة إلى تربية المواشي وسيلة كسب الرزق للكثيرين في المناطق ذات السهول الخصيبة، أما المناطق الواقعة في النجود والمرتفعات فكان يكثر فيها الرعي المترحل كسبيل للعيش، وهذا هو صنف العيش الذي يذكره آريانوس من خلال خطاب الإسكندر في رجاله. كانت موارد تلك النجود ذاتها تشجع على القنص وصيد الأسماك، ومع ازدياد الطلب على الخشب المقدوني، احتاج حصاد منتجات الغابة إلى أيد عاملة من السكان. اشتغل آخرون باستخراج الموارد المعدنية؛ إذ يسجل هيرودوت أنشطة تعدين من زمن الإسكندر الأول، منوها إلى منجم كان ينتج كل يوم وزنة من الفضة لذلك الملك (الكتاب الخامس، 17). كانت الحرب - وهي كما رأينا حاجة مستمرة - مهنة أخرى اعتيادية يمتهنها الذكور البالغون، وتبين الحسابات المستندة إلى عدد المقدونيين الأحرار معين الرجال الذي كان يمكن تعبئته:
قبل حكم فيليب:
80 ألفا-100 ألف
أثناء حكم فيليب:
160 ألفا-200 ألف
أثناء حكم الإسكندر:
240 ألفا-300 ألف
يقدر عدد السكان في زمن فيليب بسبعمائة ألف نسمة، مقارنة بمائتين وخمسين ألف نسمة قبل ذلك بما يزيد عن قرن بقليل.
استخدم بعض أثينيي القرن الرابع ألفاظا قاسية لوصف المقدونيين. وسبق أن ذكرنا رأي الخطيب الأثيني ديموستيني، الذي قال إن فيليب بربري من مكان مهين (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، 4)؛ أما التقييمات الحديثة فهي أرفق بوجه عام. ولعل خطبة ديموستيني، التي وظفت لتحريض الأثينيين ضد فيليب، كانت تضمر تقييما شخصيا؛ لأن فيليب - بحسب وصف أحد معاصريه - كان «أعظم الرجال موهبة» (إيسخينيس، «عن السفارة» 2، 41). كان سيحتاج إلى مواهب خاصة ليتعامل مع مقدونيا، التي كانت تتسم بسمات المجتمع الحدودي الخشن المشاكس. وتتحدث المصادر المكتوبة عن ممارسة الثأر، وضرورة أن يقتل الرجل عدوا قبل أن يتسنى له استبدال جلد حيوان بالرسن الذين يرتديه، وأن يقتل خنزيرا بريا برمح دون استخدام شبكة قبل أن يتسنى له الجلوس في الندوات (كان كلاهما على الأرجح من طقوس البلوغ والمنزلة الاجتماعية)، والولع بصيد الحيوانات البرية، والرقصات التي تحاكي سرقة المواشي، وتمثيل معركة صورية في حفل افتتاح موسم الحملات العسكرية، وحفلات الشراب التي كان يمكن فيها أن تتسبب الخمر الصرفة في موت شاربها. ألف الشاعر يوربيديس مسرحيته «الباخوسيات» أثناء إقامته في العاصمة المقدونية؛ ومن ثم يعتقد أنه استلهم جو هذه التراجيديا من طبيعة الحياة المقدونية . ربما يكفي أن نتذكر أن الجوقة مؤلفة من نساء هائجات من عبدة باخوس/ديونيسيوس، وإحداهن أم الملك، الذي لم يكن من عبدة ذلك الإله. تمزق النساء الملك الشباب إربا إربا ظنا منهن أنهن اصطدن حيوانا فارا يقدمنه قربانا للإله.
شكل 2-7: الرعي حرفة باقية، وخصوصا في النجود، كما هو الحال قرب جريفينا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
يجب أن نتذكر أن معظم شواهدنا مستمدة من روايات تاريخية غير مقدونية، فلا يوجد إلا القليل من الشواهد المقدونية المكتوبة، ويقينا لا يوجد عمل كتب له البقاء من وضع مؤرخين أو شعراء تراجيديين مقدونيين معاصرين لفيليب والإسكندر، لكن الشواهد المادية تشير فعلا إلى إرث فني راق. كان اكتشاف مدافن فيرجينا/آيجي الملكية، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع، دليلا مذهلا على هذا الرقي. يشتمل أحد هذه المدافن، وربما يخص فيليب نفسه، على غرفتين، تضم كبراهما أواني وأسلحة برونزية (من ضمنها درع برونزية تحمل تصميمات زخرفية مذهبة، مع شرائط من الذهب مثبتة رأسيا) مكدسة في أحد الأركان، مع مشغولات فضية تقبع في ركن آخر. وعثر في الغرفة الرئيسة على خمسة رءوس صغيرة منحوتة من العاج ومصورة تصويرا واقعيا، والأرجح أنها تعود لفيليب وأبويه وزوجته أوليمبياس وابنهما الإسكندر. أما التابوت الذي وضع فيه رفات المتوفى المحروق، فصنع من ذهب زنة أكثر من 24 رطلا. ويقبع بالقرب من الرأس تاج جميل مشغول من الذهب.
شكل 2-8: الثروة المعدنية: إكليل لبلاب ذهبي من مدفن أحد الذكور في مقبرة سيفاستي، تل باباس، إقليم بييريا، حوالي 350 قبل الميلاد. يوجد الآن في متحف الآثار في سالونيك. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
تشير الشواهد المادية، عند النظر إليها فيما يتصل بجهود الملك فيليب الثاني، إلى سمة أخرى «خفية» من سمات المجتمع المقدوني؛ فأي ملك، مهما كان ناجحا، يحتاج إلى ما هو أكثر من مجلس يتألف من عمداء العائلات الكبرى، وجمعية جيش تتألف من الجنود المقدونيين كافة، لكي يسيطر على مملكة كبيرة . وقد اكتسب الموظفون الإداريون والأجهزة الإدارية أهمية متزايدة مع اتساع رقعة المملكة وازدياد تعقيدها وقوتها في مواجهة الدول الأخرى المجاورة. قال البعض إن وظائف البلاط المقدوني الداخلية في الأزمنة الأولى تحولت إلى مناصب إدارية؛ ووفقا لهذا التفسير على سبيل المثال، ولي «الدايتس»، الذي كان ذات يوم مشرفا على طعام الملك، مسئوليات مالية إدارية.
عندما صارت المناطق التي كانت مستقلة سابقا أقاليم إدارية، احتاجت إلى إشراف، وفي بعض الأحيان إلى جمع الضرائب. كان يتعين الإشراف على موارد المملكة الطبيعية الأساسية تحت سيطرة مركزية، وكان التعامل مع الرسل وإرسال الرسل في المقابل يحتاجان إلى تنسيق. وكان يتعين إحلال الاستقرار في المناطق الحدودية، وصياغة المعاهدات، وإرسال الكشافة لاستجلاء الموقف في الأركان القاصية التي تحظى باهتمام فيليب. وما يدعو للأسف أنه لا يوجد لدينا دستور للمقدونيين، مقارنة بالدستور الذي وضعه أرسطو للأثينيين، ليكشف عن طبيعة الآليات التي برزت إلى الوجود لإدارة هذه المسئوليات. غير أن نجاح فيليب لم يكن ليتصور من دون نظام إداري كفء، وتدل إنجازات الملوك السابقين كالإسكندر الأول وأرخيلاوس على أن جذور ذلك النظام غرست قبل حكم فيليب بقرن على الأقل؛ ومن ثم فمن المنطقي أن نتصور أن المملكة المترامية أنتجت تنظيما ذا طابع رسمي أكبر، على الأقل في قلب هذه المملكة. (4) الإسكندر في سياق مقدونيا والمقدونيين
هدفنا فهم طبيعة الإسكندر الأكبر. فكيف تلقي معرفتنا بالأرض التي شهدت مولده وشبابه، وبالناس الذين ولي حكمهم سنة 336، وبالطريقة الحياتية المستقرة؛ الضوء على هذا الهدف؟
لعل الشيء الأكثر وضوحا هو الموارد الطبيعية التي كانت تحتوي عليها مقدونيا؛ أي معادنها وأخشابها وأمطارها وأنهارها وسهولها الخصيبة وأسماكها وطيورها وحيواناتها البرية. ذهب جاريد دايموند إلى أن سكان المناطق التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية يملكون ميزة كبيرة في إنشاء ثقافات ناجحة. لكن الهيمنة على هذه الموارد في مقدونيا لم تتأت دون مجهود جاد، وكما رأينا فإن طبيعة المنطقة المادية تمخضت عن أناس أشداء. كان استغلال الموارد الطبيعية والسكان، وإنشاء دولة مستقلة ثم صيانتها، يعني الهيمنة على الأراضي الجبلية والمياه الوفيرة الجارية في الأنهار الطويلة، وكل من هذه الجبال والأنهار كان يقسم المنطقة إلى قطع أصغر. كانت القدرة على تحويل هذه الملامح إلى مزايا ضرورية لبزوغ دولة فعالة، وسيعرف القائد الناجح أهمية هذه القدرة، ليس فيما يتعلق بالقوة الاقتصادية فحسب، بل أيضا فيما يتعلق بتحسين مهارة جيشه العسكرية. وسنمحص قيمة هذه القدرة في الفصل الأخير.
دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر عند أنهار؛ فكانت المواجهة الأولى عند نهر جرانيكوس، الذي عبره المقدونيون ثم ارتقوا الضفة المقابلة للاشتباك مع العدو. وفي المواجهة الثانية، وتحديدا في إيسوس، قاد الإسكندر قواته عبر نهر بيناروس للاشتباك مع الجيش الفارسي. وأوقع الهزيمة بالزعيم الهندي بوروس وجنوده على ضفاف نهر هايداسبيس (نهر جيلوم حاليا) المترع بمياه الأمطار الموسمية. وبعد ذلك النصر، شق المقدونيون طريقهم جنوبا على ضفاف نهر السند ثم استكشفوا مصبيه والخط الساحلي في قوارب أمر الإسكندر ببنائها لهذا الغرض. كانت المعرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجا ثانويا ثمينا من نواتج إرث الإسكندر المقدوني.
علمته مقدونيا أيضا أحسن تعليم كيف يتعامل مع الجبال، وهو ما كان ضروريا للحملة التي شنها في آسيا الوسطى؛ فبتعليمات من الإسكندر، استولى المقدونيون على قلاع يفترض أنها حصينة كسوقديانا في باخترا (آريانوس، الكتاب الرابع، 18، 5-19، 4) وصخرة أرونوس، وهي موقع اشتهر بصد محاولات هرقل (آريانوس، الكتاب الرابع، 30، 1-4).
كان الزعماء المقدونيون يثمنون قيمة من استطاعوا إنجاز هذه المآثر، وهم قلب قواتهم المسلحة. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدربون لصد الإليريين والتراقيين والإغريق والغارات الأخرى - المأمول التغلب عليهم - مفتاح سلامة أراضي المملكة. نشئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروف صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والملك الحكيم يقدر قيمة هؤلاء الجنود.
سيكون حريا به أيضا أن يقدر موقع مقدونيا الوسط؛ أي قربها من الآخرين ومواطن جذبها إياهم . كانت العزلة مستحيلة؛ ومن ثم فاكتساب دراية بالأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. وعلى نحو ما أسلفنا البيان، شاهد الإسكندر توسع رقعة مقدونيا وتفاعلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخس حديثا دار بين الإسكندر الصبي ورسل الملك الفارسي أثناء غياب الملك فيليب (الإسكندر، الكتاب الخامس، 1-3)، وعنيت أسئلته بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحولت إلى خلية للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وهكذا امتد عالمه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.
لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص يجب عليه التعامل مع ثقافات أخرى. ومن ناحية أخرى، المبالغة في البعد عن «طريقة الحياة المقدونية» كانت تنطوي على خطورة محتملة، ولتنظر إلى مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ فوفقا لرواية آريانوس، اغتم كلايتوس لتبني الإسكندر طرقا أجنبية، وفي مرحلة معينة عندما كان الثناء يكال للملك، أبدى رفضه ذلك الثناء، إيمانا منه بأن «أفعال الإسكندر لم تكن عظيمة ومعجزة إلى الدرجة التي كان يصفها بها البعض، وأنها لم ينجزها رجل واحد بمفرده، بل كانت في أغلبها أعمال المقدونيين» (الكتاب الرابع، 8، 4-5). بل أبدى بلوتارخس أيضا صراحة أكبر حين روى عن كلايتوس قوله بخطأ السخرية من المقدونيين في حضور البرابرة والأعداء؛ لأن المقدونيين يظلون رجالا أرقى بكثير من الأعداء الأجانب على الرغم من تفوق هؤلاء الأعداء على بعض المقدونيين (الإسكندر، 50). وقتل كلايتوس بسبب هذه الاتهامات على يد الإسكندر نفسه.
كان استخدام الموارد الطبيعية التي حبيت بها المنطقة يتطلب معرفة معينة وحكمة في تخصيصها، مثلما كان يتطلب التفاعل بين المقدونيين وغيرهم نوعا آخر من التوازن الدقيق من جانب الملك المقدوني.
الفصل الثالث
نسبه الأرغي
كان ملك مقدونيا مستقرا في أفراد سلالة واحدة وهي الأرغيون. وينتسب الإسكندر إلى ملوك أرغيين يمكن تتبع نسبهم بشيء من الدقة إلى أواخر القرن السادس. كان أبوه فيليب أرغيا، وانتمت أمه أوليمبياس إلى هذه السلالة بالزواج؛ ومن ثم كانت الصلة بالميلاد عاملا جوهريا في تحديد كل من يتولى عرش البلاد. كان منصب الملك ، بمجرد أن يضمن، يجلب مزايا غير متاحة للآخرين، لكنه كان يتمخض أيضا عن تهديدات خطيرة تحيق بالاحتفاظ بالسلطة. وإذ نستهل بتاريخ العشيرة الأرغية وطبيعتها، سنلتفت إلى الطريقة التي استعمل بها فيليب الثاني السلطة الملكية ودلالة إنجازاته لابنه وخليفته، ثم إلى الشق الآخر من نسبه؛ إذ بحلول زمن أمينتاس الثالث أبي فيليب، لم يكن دور الملكة الأم بالشيء الهين، ولم تكن أوليمبياس استثناء من هذا. (1) السلالة الأرغية
ينتمي الإسكندر، من ناحية أبيه، إلى السلالة الأرغية، وهي العشيرة الحاكمة للمكدونيين. ومع أن أمه أوليمبياس كانت إبيروسية، فلم يكن النسب من جهة الأم على ما يبدو عاملا يفقد ابن الملك أهليته كوريث محتمل لأبيه؛ إذ كانت أم فيليب نفسه تنتمي إلى أصول إليرية ولنكستية، ونودي بكل من أبنائها الثلاثة ملكا.
كان لدى هيرودوت سبب وجيه، في وصفه الحروب الفارسية، لإيراد إشارات إلى مقدون وملكيها: أمينتاس الأول الذي حكم حتى 497/498، وابنه الإسكندر الأول الذي خلفه في الملك وتمتع بفترة حكم طويلة حتى حوالي سنة 454. وإذ يصف هيرودوت مهمة الإسكندر، وهي إقناع الأثينيين بالانضمام إليه في قضيته الفارسية، يسرد أصل السلالة الأرغية ومنزلة الإسكندر منها.
كان الإسكندر الأول ابن أمينتاس الأول ابن ألكيتاس، وكان أبو ألكيتاس يسمى أيروبوس، وكان أبو أيروبوس يسمى فيليبوس، وكان أبو فيليبوس يسمى أرغايوس، وكان أبو أرغايوس يسمى بيرديكاس، وهو أول من ولي الملك. (الكتاب الثامن، 139)
ولاقتفاء أثر هذه السلالة، يمضي أبو التاريخ قائلا إن بيرديكاس الأول:
ولي أمر المقدونيين على هذا النحو: فر ثلاثة من الأشقاء، وهم جفانيس وأيروبوس وبيرديكاس أبناء تيمينوس، من أرجوس [في اليونان] إلى إليريا، ومن هناك عبروا إلى مقدونيا العليا واستقروا في مدينة ليبايا. عملوا هناك في خدمة الملك مقابل أجر؛ فكان أحدهم يعتني بالخيول، وآخر بالثيران، وأصغرهم وهو بيرديكاس ببقية القطيع ... كانت زوجة الملك تطهو لهم الطعام، وعند الخبز، كان الخبز المخصص للصبي بيرديكاس يختمر حتى يصير مثلي حجمه الطبيعي. ولما رأت هذا يتكرر دائما، أخبرت زوجها بالأمر، فخطر ببال الملك فور سماعه القصة أن هذا أمارة شيء مهم، فاستدعى الخدم وأمرهم بالرحيل عن بلده، فطلبوا منه - محقين - أن يعطيهم أجرهم ليرحلوا. وبينما كان الملك يستمع إلى مطالبتهم بأجرهم، كانت أشعة الشمس تتخلل مدخنة المنزل، فقال باستهتار مشيرا إلى الشمس: «أعطيكم هذه أجرا لكم.» فوقف الأخوان الكبيران جفانيس وأيروبوس مبهوتين لدى سماعهما هذا، وأما الصبي، الذي صادف أن كان ممسكا بسكين، فقال: «أيها الملك، إننا نقبل ما تعطينا إياه.» ورسم خطا على الأرض بسكينه، وبعد أن اغترف في حجره ثلاث غرفات من أشعة الشمس، رحل هو والآخران. (الكتاب الثامن، 138، 1-5)
استيقن الملك وجود شيء غريب في هذا كله، فأرسل رجالا على ظهور الجياد لوقف الإخوة، وكان في الطريق نهر تمكن الإخوة من عبوره، لكن مياهه ارتفعت بعدئذ بشدة على نحو حال دون قدرة مطارديهم على التقدم. وفي النهاية وصل الشباب إلى جزء آخر من مقدونيا يسمى حدائق ميداس، كانت وروده البرية التي تخرج زهورا بها 60 بتلة تبعث بأذكى عبير في الدنيا.
تحمل هذه الحكاية كثيرا من أمارات الحكايات الفولكلورية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن وجهة النظر المقدونية بوجود صلة قرابة قديمة باليونان. وربما توحي أيضا ببعض الشكوك المحيطة بأصول السلالة الأرغية نظرا لوجود روايات بديلة تتحدث عن الجد الأول لهذه السلالة؛ إذ توجد رواية أخرى تقول إن مؤسس الأسرة كارانوس، الذي يوصف أحيانا بأنه شقيق طاغية أرغوس في القرن السابع؛ غير أن كلمة كارانوس الإغريقية تحمل معنى «حاكم» عموما. وأما نسب المكدونيين كما يورده هيسيودوس فيجعل من مكدون الجد الأول للسلالة. كان مكدون ابن زيوس وحفيد ديوكاليون - من جهة أمه ثيا - ومن ثم هو ابن عم دوروس وأيولوس وكوتوس الذين كانوا الجدود الأوائل للدوريين والأيوليين والأيونيين (قصيدتا «قائمة النساء» و«إيواي»، شذرة 3). ربما تعكس كلتا الروايتين محاولات للربط بين المقدونيين والإغريق، ويتفق الكثيرون مع وجهة نظر يوجين بورزا أن هذه الروايات التي تتحدث عن أصل الأرغيين في أرجوس برزت في القرن الخامس، وتمحورت حول الإسكندر الأول الذي كان يلقب بمحب الإغريق.
على الرغم من أن أصل أسرة مقدون المالكة يظل غير مؤكد، لا يمكن إنكار أهمية الانتماء إليه في الحكم المقدوني؛ إذ كان لزاما أن يكون المرء من أبناء هذه السلالة لكي يطمح إلى ولاية الملك. وفي الوقت نفسه تمخضت الظروف المرتبطة بحجم السلالة المتزايد عن فروع جانبية وتوترات بين هذه الفروع، وكثيرا ما تمخضت عن صعوبات بالغة في وجه أرغيين بعينهم.
شكل 3-1: النسب الأرغي. أسماء الحكام مكتوبة بخط سميك.
ثمة ميزة تتجلى فورا للعيان، وهي أن انتماء المرء إلى هذه السلالة كان يمنحه فرصة لتولي الملك، وهو ما كان عاملا بالغ الأهمية. المعتاد أن ابن الملك يخلف أباه على نحو ما يتبين من رواية هيرودوت عن العلاقة بين الملوك الستة الأوائل، غير أن هذا لم يكن هو الحال دائما؛ إذ إنه لدى موت أمينتاس الثالث، آل الملك إلى ابنه الإسكندر الثاني، لكن من خلف الإسكندر كان أخاه. توجد ممارسة أخرى معتادة هي أيلولة الملك إلى أول مولود ذكر يولد للملك الحالي، لكن من جديد كانت هناك استثناءات، وخصوصا عند حدوث شجارات بين أبناء الملك المتوفى. علاوة على ذلك، فإن طبيعة ما لدينا من شواهد حول شئون مقدون الداخلية تحول دون التيقن من تواريخ الميلاد، فمن الجائز على سبيل المثال أن الإسكندر الثالث كان الابن الثاني لفيليب.
زاد تكاثر فروع الأسرة الحاكمة الخلافة تعقيدا على تعقيدها؛ ففي الصراع الذي أعقب موت بيرديكاس الثاني، والذي أسلفنا وصفه في الفصل الثاني، ولي الملك لفترات وجيزة أبناء ثلاثة أفرع أرغية. وفيما بعد لدى موت فيليب الثاني، كان من الجائز أن يعود الملك إلى ذرية أخيه بيرديكاس الذي سبقه على العرش؛ إذ كان لبيرديكاس ابن هو أمينتاس، وتخطي لصغر سنه لمصلحة عمه فيليب، وبحلول سنة 336 كان أمينتاس هذا رجلا يحق له المطالبة بالملك. وفيما بعد لدى موت الإسكندر الثالث سنة 323، وقع اختيار جمعية الجيش على ابن فيليب، وهو فيليب أريدايوس، وأما قواد الإسكندر فوقع اختيارهم على طفل الإسكندر، وكان لا يزال جنينا في بطن أمه، شريطة أن يكون ذكرا . وهكذا، فعلى الرغم مما يبدو من انحصار الاختيار في أبناء السلالة الأرغية لعدة قرون قبل زمن الإسكندر، كان المرشحون الأرغيون لوراثة العرش كثيرين. (1-1) طبيعة الحكم الأرغي
كانت هذه الآصرة بين الملك الأرغي وجمعية الجيش ضرورية لوراثة العرش ومن بعدها حكم المملكة. ولم يصف هيرودوت الإسكندر ك «بازيليوس» (بمعنى حاكم) المقدونيين فحسب، بل أيضا ك «استراتيجوس» (بمعنى قائد) جيش المملكة (الكتاب التاسع، 44). ولا يسعنا تمييز الفرق بين معنيي الكلمتين في أذهان المقدونيين، بل من غير المؤكد أن المقدونيين أنفسهم كانوا يلقبون زعيمهم «بازيليوس»؛ لأن المسكوكات النقدية التي ضربها فيليب الثاني لا تحمل هذا اللقب، ولا نجد إلا قرب نهاية حكم الإسكندر الثالث مسكوكة نقدية منقوشة تجمع بين كلمتي ألكساندرو وبازيليوس. ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن الواجبات والامتيازات المرتبطة بالقيادة كانت جزءا لا يتجزأ من ولاية حكم المقدونيين.
كان مجمل صلاحيات الملوك المقدونيين وامتيازاتهم من نواح كثيرة مماثلا لصلاحيات أبطال هوميروس وامتيازاتهم؛ إذ اكتسب كل من أبطال الملاحم والحكام المقدونيين السلطة واحتفظوا بها بفضل مقدرتهم الشخصية، لا بصفتهم شاغلين لمنصب رسمي. كان الملوك المقدونيون دائما ناجحين بصورة أو بأخرى وفقا لقدراتهم الفردية، وبفضل التهديد المستمر بالغزو من الشعوب المجاورة، كانت القيادة العسكرية المجربة متطلبا جوهريا على الدوام. ومثلما رأينا، فإن تاريخ مقدون قبل حكم الإسكندر وبعده على السواء يبرهن تماما على الأخطار المتأصلة في موقع المملكة «الوسيط» بين أوروبا القارية وشبه الجزيرة اليونانية؛ ما كان يجتذب دوما دخلاء من كل حدب وصوب.
تجسدت هذه الحاجة إلى قوة عسكرية للحفاظ على المملكة في المؤسسات المقدونية؛ فبمجيء عهد فيليب الثاني، وربما في وقت مبكر من ذلك في عهد الإسكندر الأول، كان كل الرجال الأحرار القادرين على حمل السلاح ذوي أهمية بالغة في الحفاظ على كل من الدولة وسلطة أي حاكم بعينه بالتبعية. كانت تسمية الملك حقا مكفولا لجمعية الجيش ومسئولية منوطة بها، وبما أن الرجل المختار سيقود الجيش إلى النصر أو الهزيمة، فلا بد من أن يحوز بوضوح خصال القيادة في الميدان؛ لأن المتوقع من الملك أن يقود رجاله لا بمعرفته باللوجستيات والاستراتيجيات فحسب، بل أيضا ببراعته الشخصية في المعركة، فيقاتل في الطليعة مثلما فعل آخيل وديوميديس وكل قادة الفرق الآخرين في طروادة.
ما زاد الحاجة إلى القوة العسكرية طبيعة الشئون السياسية الداخلية في المملكة؛ إذ وجدت عائلات نبيلة أخرى حتى في مقدونيا الدنيا قبل توسع المملكة إلى مقدونيا العليا، لكن هذا التوسع أضاف إلى الدولة عددا من السلالات «الملكية» التي كان لكل منها في مملكتها ما للأرغيين في مقدون. كانت الدبلوماسية في التعامل مع هذه العائلات مهمة، لكن الجنود المقدونيين تحت قيادة ملكهم كانوا الأساس الذي تنبني عليه الدبلوماسية الناجحة. تمتعت نخب المملكة الموسعة بمنزلة صحابة الملك أو «هيتايروي»، وبمرور الزمن اكتسبت أواصر الولاء قوة تجاوزت حدود تهديد الانتقام البدني إذا ما قطعت هذه الأواصر. وسنبحث هذه التطورات بحثا أتم في الفصل الخامس.
جاء أحد سبل إقامة روابط أقوى مع اتساع رقعة المملكة؛ مما أتاح فرصة إقامة آصرة اقتصادية بين الملك والصحابة الجدد. وقيل إن الأرض التي اكتسبت بالفتح صارت بيد الملك يمنح من يشاء حق استخدامها مقابل التزامات معينة تؤدى إليه. ومع توسيع الملوك المقدونيين من أمثال فيليب نطاق ملكهم، زادوا مقدار الأراضي المتاحة لتخصيصها لأغراض كثيرة من ضمنها إقامة مستوطنات مقدونية جديدة. ربما كان من بين شاغلي الأراضي المضمومة إلى المملكة حديثا محاربون صحابة استقطبوا من أصقاع أخرى من محيط بحر إيجة؛ إذ استقر نيارخوس الكريتي في مستعمرة أثينا السابقة أمفيبوليس أثناء حكم فيليب. كان نيارخوس واحدا من صحابة (هيتايروي) فيليب ومن بعده الإسكندر؛ إذ شغل منصب مستشار كبير لهذا الأخير. وكان الأخوان إريجيوس ولاوميدون ينتميان إلى ميتيلين في جزيرة ليسبوس الإغريقية، واستقرا هما أيضا في أمفيبوليس وصارا من صحابة فيليب ثم الإسكندر.
من ضمن وسائل توثيق الأواصر مع العائلات النبيلة الأخرى ابتكار ينسب إلى فيليب الأول، وهو سياسة إرسال أبناء العائلات المهمة بمقدونيا العليا إلى بيلا لتلقي التدريب كحاشية (حراس شخصيين ثم ضباط مستقبليين) للملك ورفاق لأبنائه. كان هذا الترتيب يحقق غايات عدة، فيوفر العناصر اللازمة للإدارة المدنية والعسكرية الفعالة في الحاضر وفي المستقبل القريب على السواء، ويضع بين أيدي الملك الأرغي رهائن لضمان حسن سلوك آبائهم. كان من بين أبناء كبار النبلاء من أجزاء المملكة الأخرى كراتيروس وبيرديكاس وفيلوتاس، الذين سيكونون ضباطا مهمين في جيش الإسكندر. ونشأ أيضا هفايستيون، الشهير بأنه أقرب المقربين إلى الإسكندر، في هذه المنظومة في بيلا.
كان يقام منتدى لتبادل وجهات النظر بين عمداء العائلات النخبوية، ويبدو أنه كان بعدا آخر من أبعاد الآصرة بين الملوك الأرغيين ومن يدانونهم في المنزلة. وتذكر المصادر التي تتحدث عن حكم الإسكندر اجتماعاته المنتظمة مع كبار معاونيه. وعندما أحيط الإسكندر علما بتحركات داريوس وجيشه قبل معركة إيسوس على سبيل المثال، جمع أصحابه لينبئهم بالأمر، فشجعوه على المضي قدما، وبعدها فض الاجتماع (وكان يسمى «سيلوجوس» بمعنى النادي) (آريانوس، الكتاب الثاني، 6، 1). وفي وقت لاحق عندما ضرب المقدونيون الحصار حول صور، جاء رسل من لدن داريوس عارضين 10 آلاف وزنة والتخلي عن الأرض الممتدة من نهر الفرات إلى ساحل البحر الهيليني، فدعا الإسكندر ناديه لمناقشة العرض (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 1-2). وكما هو متوقع، كانت المرونة سمة عضوية هذه الاجتماعات وحضورها؛ إذ كان الضباط يبتعثون لتنفيذ مسئوليات بعيدا عن فسطاط الملك أو كان الموت يغيبهم نهائيا. والراجح أن فيليب وظف ناديا مماثلا للنقاش بين كبار أصحابه، لكن يبدو مستبعدا وجود هيئة ثابتة تشكل مجلسا رسميا في مقدون قبل الفترة الهلنستية. بدلا من ذلك وعلى الطراز الهوميري، كان الملك يستشير، كما يهوى، من حضر من أصحابه من ذوي الحظوة.
شكل 3-2: هرقل، جد الأرغيين الأول، يظهر في المنتصف ترافقه أثينا (في المقدمة) وهرمس (في المؤخرة) لتعريفه بالأوليمب. حقوق الطبع محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
شكل 3-3: آخيل جد الإسكندر الأعلى لأمه يسوق فرسيه إلى «ديفروس» (عربة يجرها الخيل). المصدر: آي كاكريديس، «الميثولوجيا الإغريقية»، إكدوتيكه أثينون للنشر.
كانت في صميم هذا الهيكل المؤلف من القيادة العسكرية وأواصر الولاء مع العائلات المهمة ملامح أخرى من ملامح السلطة الملكية، وأحدها المسئولية عن العلاقات مع الآلهة. يصعب تأكيد هوية الآلهة المقدونية وخصوصا في فترة ما قبل حكم أرخيلاوس (413-399)؛ فمن ناحية، كانت الصلة بين الأرغيين والآلهة سلسلة نسب طويلة؛ إذ كان الأرغيون يدعون أن هرقل، وهو من نسل زيوس، جدهم لأبيهم. ومن خلال العائلة الأياكيدية التي تنتمي إليها أم الإسكندر أوليمبياس، كان نسبه ينتهي إلى آخيل، الذي كانت أمه حورية البحر ثيتس. لكن ثمة ما يسوغ اعتقادنا أن ملل الأوليمبيين ازدادت أهمية في المملكة في ظل الأغرقة التي اتبعها أرخيلاوس، الذي استحدث مهرجانا لزيوس وألعابا على شرف زيوس وربات الفنون (آريانوس، الكتاب الأول، 11، 1). كان المقدونيون يدمغون نقودهم بصور أبولو وزيوس وديونيسيوس وهرقل، ولنا أن نستنتج أن ديونيسيوس كان مألوفا لدى المقدونيين بما أن الكاتب التراجيدي يوربيديس ألف مأساته «الباخوسيات» وهو في بيلا. بحلول سنة 336، كان آخر احتفال يقام في عهد فيليب يشتمل على تماثيل 12 إلها (الأولمبيين الاثني عشر لا شك) وتمثال ثالث عشر لفيليب (ديودورس، الكتاب السادس عشر، 92، 5). وكان الإسكندر يحرص على تقديم القرابين بانتظام إلى الأولمبيين مثلما كان يحرص على تقديمها إلى أثينا في إليوم (آريانوس، الكتاب الأول، 11، 7). وتبرهن المعابد المكرسة للآلهة التي عبدت في العالم الإغريقي أيضا على العلاقات بين الممارسات الدينية في الثقافتين.
لكن توجد آثار ممارسات أخرى ترتبط بجوانب جوهرية للملك؛ إذ كان الملك يطهر الجيش بتقديم قربان على هيئة كلب، وكان يقود موكب الجنود وهم يسيرون بين شطري هذه الأضحية. علاوة على ذلك، ظلت ملل الأبطال من الطراز العتيق أمثال من وصفهم هوميروس جزءا من الممارسة المقدونية؛ إذ استحدث الإسكندر لتمجيد صاحبه هفايستيون طقوسا تليق بالأبطال (آريانوس، الكتاب السابع، 23، 6-7)، وكان يسعى جاهدا للتفوق على إنجازات الأبطال المعروفين كهرقل. ودفن جده الإسكندر الأول في ضريح للأبطال (هيرون) في آيجي، وهي لا شك ممارسة ارتبطت باليونان العتيقة، لكنها كانت إلى حد كبير قد أبطلت بحلول القرنين الخامس والرابع.
خلاصة القول أنه كانت هناك على الراجح عناصر عديدة في مفهوم الآلهة عند المقدونيين. ومع ذلك فأيا ما كانت الهيئة الإلهية التي يتوسل إليها، فلا ريب في أهمية دور الملك في هذا التوسل. وفي الاحتفال الكبير الذي خطط له فيليب وسبق أن ذكرناه مثال واضح على محورية الحاكم الأرغي في مناحي الدين. ويظهر ما كتبه آريانوس عن نهاية حياة الإسكندر اضطرار الإسكندر إلى تقديم أضحيات لائقة حتى وهو يحتضر:
في اليوم التالي اغتسل وقدم القرابين ... وفي اليوم الذي تلاه اغتسل من جديد وقدم قرابين لائقة على الرغم من الحمى الشديدة التي ألمت به. واغتسل في المساء، وبعد اغتساله كان في أشد حالات المرض. وفي اليوم التالي حمل إلى الحمام، ومن جديد قدم قرابين لائقة. لكن في اليوم التالي حملوه إلى البقعة المقدسة فلم يقو على تقديم القرابين إلا بمشقة بالغة. (الكتاب السابع، 25، 4-5)
كان الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الآلهة مسألة تهم أشخاصا أكثر من الملك؛ إذ كان هناك طاقم من العرافين يشكل جزءا من جهاز الحكم في بيلا أثناء حكم فيليب الثاني، ورافق الإسكندر في حملته واحد على الأقل من هذا الطاقم.
لهذه السمات العديدة التي اتسم بها الملوك الأرغيون جذور عميقة، وكانت هناك سمة أحدث من ذلك برزت مع التطورات في أواخر القرن الخامس والقرن الرابع؛ إذ تمخضت السيطرة المتزايدة على رقعة متسعة من الأراضي وسكانها عن حاجات إدارية. كانت بيلا قد تحولت إلى مركز إداري منذ عهد أرخيلاوس، ونال أرخيلاوس ذاته من الأثينيين منزلة الضيف-الصديق والمعطاء. لم تكن بيلا مقر إقامة الملك الأرغي وآل بيته فحسب، بل كانت آنذاك أيضا مركز دواوين الدولة، فكانت تضم أمانة السر وسجلاتها، ومديري الموارد، ووحدات من قبيل ديوان المعدات الحربية، وأماكن إقامة الرسل. كانت تجبى ضرائب على الأرض واستخدام المرافئ والمناجم، وكانت الأراضي الملكية تدار بتأجيرها لمن يفلحها. على الرغم من عدم وضوح وسائل جمع الضرائب أو الإشراف على استغلال الموارد، إلا أن الأرغيين كانت لديهم يقينا هذه الوسائل، وخصوصا على عهدي فيليب والإسكندر، اللذين احتفظا بجيشين كبيرين وشقا الطرق وأقاما الحصون والقلاع، وبنيا السفن واتخذا حاشية كبيرة من أفراد الأسرة والشباب الذين يجري تدريبهم ليصيروا صحابة وزوار بيلا، فضلا عن الموظفين اللازمين لتلبية حاجاتهم اليومية. (1-2) تبعات النسب الأرغي
كان الانتماء إلى السلالة الأرغية يحمل في طياته مزايا وتوقعات رفيعة، وخصوصا للذكران؛ فالذكر الذي يولد لهذه الأسرة سيدرب في سن الشباب ليبرهن بوضوح على امتلاكه السمات التي تنبغي لزعيم مقدوني، وسيكون لزاما عليه - كحال تيليماخوس بن أوديسيوس - تقوية قدراته العقلية والنفسية لكي يقضي على التهديدات التي تحيق به هو ذاته وبآل بيته، إما بالمكر والحيلة وإما في ساحة القتال. وفي غضون ذلك سيبرهن كملك على قدرته، كحال أوديسيوس، على القيام «بآلاف الأعمال المجيدة، بعقد اجتماعات مفيدة، وقيادة معارك مسلحة» (الإلياذة، 2، 272-273). وحتى في زمن الصبا، سيكون بمقدوره ركوب فرسه بمثل كفاءة أبناء العائلات النخبوية الأخرى إن لم تكن أفضل منها، وسيكون بإمكانه قطع مسافات شاسعة مع جنود أبيه. وعندما يصل إلى سني المراهقة، سيدعى إلى ممارسة تلك المهارات في ساحة القتال؛ إذ استدعي فيليب وهو في هذه السن لمساعدة أخيه الأكبر، وتولى الإسكندر قيادة الخيالة الثقيلة في خيرونية سنة 338 ولم يكن له من العمر إلا 18 سنة.
شكل 3-4: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس أمينتاس الثالث. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
ولكي يكون هذا الشاب من المنافسين على العرش، أي يكون وريثا محتملا، لا بد من أن يتمتع بالمقدرة البدنية؛ ومن ثم فلا غرو أن التدريب البدني الذي يتلقاه سليل الأسرة الأرغية سيكون شاقا لكي يصنع قائدا على الطراز الهوميري بين الرجال. وكانت ممارسة قتل خنزير بري دون شبكة شيئا من شأن أي وريث للعرش أن يفعله في سن مبكرة من حياته. وسيكون لزاما عليه استيفاء متطلب قتل رجل بسرعة أكبر مما يفعله معظم الآخرين. كان الإعداد للقيادة يستلزم المشاركة في فعاليات حقيقية لا مجرد تدريبات مرتبة. وتبرهن إحدى القصص الشهيرة عن الإسكندر الشاب على قدراته وهو في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره؛ إذ أتي فيليب بحصان على أمل شرائه، فأبى الحصان أن يعتلي أحد صهوته، فأمر فيليب صاحبه بالانصراف به. عندئذ قال الإسكندر: «يا له من حصان هذا الذي سيخسرونه، وكل هذا لأنهم لا يعرفون كيف يسوسونه أو لا يجرءون على المحاولة!» فتساءل فيليب عما إذا كان الإسكندر يرى أنه يستطيع سياسة الحصان خيرا من غيره، فعرض الإسكندر عندئذ أخذ الحصان ودفع ثمنه الكبير؛ فضحك من كانوا بصحبة فيليب:
لكن الإسكندر أسرع إلى الحصان وأمسك بلجامه وأداره نحو الشمس بعد أن لاحظ أنه يجفل من مرأى ظله أمامه يصاحبه أينما تحرك. ركض بجوار الحصان مسافة قصيرة، مهدئا من روعه بالتربيت على جسمه، ولما رآه مفعما بالحيوية والعزم، ألقى رداءه جانبا في هدوء وبوثبة خفيفة امتطى صهوته في أمان. ظل لفترة وجيزة يتلمس الشكيمة باللجام، دون أن يشد على فمه أو يوجعه، حتى أذهب روعه. وأخيرا لما رأى الحصان وقد ذهبت عنه مخاوفه ويتلهف على إظهار سرعته، أرخى له العنان وحثه على الانطلاق قدما، مستخدما صوته الآمر ولمسة من قدمه. (بلوتارخس، الإسكندر، 6)
بحلول أواخر القرن الخامس وبداية القرن الرابع قبل الميلاد، كان ابن الملك يدرب أيضا على مهارات الحكم بالتعليم ذي الطابع الرسمي، وسنناقش أهمية التعليم الإغريقي للمقدونيين مناقشة أتم في الفصل الرابع. أما الآن فنقول إن تمتع الملوك الأرغيين، وخصوصا في القرنين الخامس والرابع، بمهارات القراءة والكتابة أمر لا شك فيه؛ إذ إن المعاهدات المبرمة بين الحكام الأرغيين والدول أو الشعوب أو الأحلاف الأخرى كانت مسجلة، ومن ذلك مثلا المعاهدة بين بيرديكاس الثاني والأثينيين سنة 422 قبل الميلاد (النقوش الإغريقية، المجلد الأول، الإصدار الثاني، 71ب). وكتب فيليب الثاني خطابات إلى الأثينيين وتلقى خطابات جوابية من أعيان الأثينيين. ومارس الإسكندر مجموعة متنوعة من المراسلات أثناء سيره شرقا.
كان الوريث المحتمل للعرش، الذي ينشأ في بيلا، يحصل على تصور لموارد المملكة ويدرك إدراكا متزايدا أهمية السيطرة عليها. كانت بيلا تحتوي على أنواع كثيرة من الموارد بالإضافة إلى الدواوين الإدارية الكائنة هناك. وأحد الموارد الحيوية بوجه خاص شباب العائلات النبيلة من عموم المملكة، الذين كانوا ينشئون في بيلا ويدربون كحاشية للملك وليخدموا فيما بعد كأصحاب له وضباط ومستشارين. كان آباء هؤلاء الصبيان يفدون بين الحين والآخر لحضور المجالس أو الندوات مع أبيه، وكان أبناء الملك يشهدون وفود الرسل من الدول البعيدة ورحيلهم بمعدل متزايد. سيكون وجود أشخاص في أجزاء أخرى من القصر يحتفظون بسجلات أو يخططون أدوات حربية جديدة أمرا معروفا. كان الوريث المرتقب يسافر من بيلا إلى موقع آيجي القديم مع أهله، وخصوصا لحضور المناسبات الطقسية، كدفن جدة في أحد التلال الترابية، أو تطهير الجيش، أو المباريات الرياضية، أو قربان كبير يقدم إلى أحد الآلهة، أو احتفال كبير. خلاصة القول أنه سيبدأ في إدراك مكانته المميزة، وهي مكانة تناسب سليل هرقل وآخيل.
لكن كانت هناك عقبات تقف في طريق الوصول إلى تلك المكانة؛ إذ كانت ممارسة تعدد الزوجات تتمخض غالبا عن أكثر من وريث محتمل للحكم؛ ففيليب كان واحدا من ستة أبناء أنجبهم أمينتاس الثالث، وكان للإسكندر الثالث منافسون من بينهم ابن آخر لفيليب من زوجته فيلينا، وأمينتاس ابن عمه. وستكون المكائد التي تدبرها زوجات فيليب لتقديم أبنائهن خطرا مصيريا في مساكن الأرغيين في بيلا. وكانت هناك تهديدات أخرى تنبع من أبناء فروع العشيرة الأرغية الأخرى الذين كانوا يزدادون عددا، وذكرنا أن أبناء ثلاثة أفرع من العشيرة الأرغية تناوبوا على الملك في أقل من عقد واحد من الزمن لدى موت أرخيلاوس؛ ففي البداية، اعترف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس ملكا على البلاد، بينما تولى أيروبوس - ربما كان عمه - منصب الوصي على العرش، لكنه لم يقنع بالوصاية على العرش، فتخلص من ابن أخيه ليصير ملكا، ودام حكمه أقل من أربع سنوات؛ ثم ولي الحكم أمينتاس الثاني من نسل الإسكندر الأول لفترة ما حتى قتل على يد أحد الإيليميين؛ فخلفه على العرش بوسانياس بن أيروبوس لبضعة أشهر إلى أن أزيح بتهمة الخيانة. ومن وتيرة الأحداث وكثرة الأسماء الملكية يتضح لنا تماما عدم استقرار الحكم.
كان نظام الحاشية الذي ينتج حراسا خصوصيين للملك وصحابة لأبنائه ، على مزاياه، ينطوي أيضا على تداعيات كارثية؛ إذ لو قررت الأسرة المالكة لإحدى الممالك التي ضمت إلى مقدونيا العليا تأكيد استقلالها عن بيلا، فمن الجائز تماما أن يتآمر سليلها، الذي صار آنذاك يعيش في المدينة الملكية، ليقضي على أفراد السلالة الأرغية. كان درداس الإيليمي، قاتل الملك أمينتاس الثاني الذي سبقت الإشارة إليه، ينتمي على الراجح إلى هذه الفئة من الأسر النبيلة التي تنتمي إلى ممالك كانت ذات يوم مستقلة؛ ومن ثم ستكون الريبة في الآخرين وعداوتهم - وخصوصا الصحابة الذين هم على اطلاع على حياة المرء الخاصة - خطرا آخر معروفا جيدا لأفراد الأسرة المالكة.
في ظل كل هذه التهديدات الحقيقية، سيكون لزاما على الابن الناجح للملك المتربع على العرش أن يطور وعيا ثاقبا بحاجته إلى حماية نفسه من الأخطار المتصورة. كانت تلك الأخطار حقيقية ومستمرة، ومن دأبها أن تحل دون سابق إنذار كبير. كان من شبه المستحيل أن يصبح المرء ملك مقدون دون انتماء إلى السلالة الأرغية؛ لكن كما رأينا، فإن كون المرء سعيد الحظ بأن يكون أكبر أبناء الملك الحاكم لم يكن كافيا لضمان وراثته الملك؛ ففي البداية كان يتعين على هذا الابن أن يبرهن على امتلاكه السمات المطلوبة لقيادة شعبه، وثانيا أن يستبين أي تحديات تواجه مطالبته بالحكم ويتصدى لها. (1-3) فيليب الثاني
على الرغم من أن انتساب المرء إلى السلالة الأرغية كان شرطا شبه حتمي، كان عامل الأبوة والأمومة أيضا حاسم الأهمية في الخلافة؛ فمنذ أن ولي أبناء هذه العشيرة الحكم، تكاثرت عشيرتهم وانتشرت؛ ومن ثم أتى الملوك من مختلف فروع هذه الأسرة الواحدة. وفوق ذلك كان لإنجازات الملك الحاكم - أو افتقاره إلى الإنجازات - دور حاسم في نجاح خليفته أو إخفاقه. وكثيرا ما نجح أرغيون من فروع أخرى غير الفرع الذي ينتمي إليه الملك في تولي الحكم أثناء فترات التحديات الخطيرة التي واجهت سلامة أراضي المملكة، على نحو ما يتبين لنا من حالة أمينتاس الثالث. ومن ناحية أخرى، فالنجاح العظيم الذي قد يحققه الأب ربما يتمخض عن طفرة تأييد لابنه؛ لكن في هذه الأحوال، كان يمكن أن يشكل النجاح الذي حققه أب نشيط صعوبات حقيقية أمام ابنه وخليفته من حيث البناء على هذه النجاحات والتوسع فيها. كان للإسكندر الثالث أب غير عادي؛ فكان المؤرخ ثيوبومبوس، الذي عاش في القرن الرابع وألف تاريخا لفيليب في 58 كتابا (لم تصلنا منها إلا شذرات)، يؤمن بأن «أوروبا لم تعرف قط رجلا مثل فيليب بن أمينتاس».
ولد فيليب الثاني سنة 382، وكان ثالث أبناء أمينتاس الثالث ويوريديكا وأصغرهم. وينتهي نسب أمينتاس إلى الإسكندر الأول، الذي ضاعف كما رأينا رقعة المملكة المقدونية وارتقى على الراجح بالدور المنوط بجنود المشاة في غضون ذلك. لكن بعد حكم الإسكندر، انتقل الملك إلى فرع آخر من فروع العائلة الملكية. استفاد أمينتاس نفسه من ازدياد التنافس على العرش الذي رافق اغتيال أرخيلاوس سنة 399، وإذ تمكن ببراعة من النجاة من ست سنوات من التهديدات المستمرة التي واجهت مطالبته بالعرش، والتي كانت تنبع من أرغيين آخرين ومن أعداء خارجيين على حد سواء؛ وطد دعائم حكمه في 393-392.
لم يكن عهده عهد سلام، ففي بداية حكمه، أطيح من السلطة بفعل غزو إليري لمقدونيا أقام على العرش ملكا آخر سهل الانقياد. فاستطاع أمينتاس تأمين عون الدول المجاورة التي كانت في حد ذاتها قلقة من عدوان الإليريين على أراضيها، وأعني مدينة أولينثوس الإغريقية القوية في جنوب شبه جزيرة خالكيذيكي، وربما ساعده التيساليون في استعادة العرش؛ إذ إنه بالإضافة إلى استخدام القوة، وافق على دفع جزية سنوية إلى الإليريين في مقابل انسحابهم. كان أمنه الشخصي وأمن مملكته أيضا في خطر مستمر مصدره الدول الإغريقية الكبرى، والقوى الأخرى المجاورة غير الإغريقية، والتنافس الداخلي بين المناطق المضمومة حديثا إلى المملكة، والتنافس بين الأرغيين أنفسهم.
من الجائز تماما أن يوريديكا أم فيليب كانت تمثل في نسبها نفوذ القوى غير الإغريقية والنزعة الإقليمية التي كنت تفت في تلاحم المملكة المقدونية، بما أن المصادر تصفها بأنها تجري في عروقها دماء إليرية ولنكستية. وربما يمثل زواجها من أمينتاس التحالفات التي كان الملك المقدوني يسعى إلى تقويتها. نسب تاريخ هذا الزواج إلى حوالي سنة 390 على أساس أن الابن الأكبر الذي جاء ثمرة القران ولي الملك سنة 369 كقائد نشط، لا كبيدق غر في أيدي الآخرين. واتخذ أمينتاس بالإضافة إلى يوريديكا زوجة ثانية وهي جايجيا، التي كانت على الراجح أرغية وأنجبت له أيضا ثلاثة أبناء. لم يكن تعدد الزوجات بين الأرغيين بالممارسة الجديدة؛ إذ أنجب بيرديكاس الثاني أولادا من ثلاث نسوة، ومثله أرخيلاوس، ومن الجائز تماما أن أبناء الإسكندر الأول الخمسة كانوا ينتمون إلى أكثر من أم واحدة. وتوحي حقيقة أن ثلاثة فقط منهم شاركوا في الحكم في حياة أبيهم، وأن اثنين فقط منهم كانا مرشحين لخلافته بعد موته، بتساوي النسب من جهة الأم والنسب من جهة الأب في الأهمية.
تحتل يوريديكا مكانة بارزة في المصادر القديمة، وخصوصا التأريخات المتأخرة، وتكشف الشواهد التي تعود إلى عهد زوجها عن مكانتها المرتبطة بالدين؛ إذ يوجد بين أطلال معبد صغير في آيجي نقش يعود إلى أوائل القرن الرابع يقول: «يوريديكا ابنة سيراس من أجل يوكليا.» ويستخدم «يوكليا» لقبا للربات الإغريقيات، كأرتميس، أو ربما يمثل اسم ربة معينة.
إن نجاح يوريديكا في التعامل مع الشئون السياسية العائلية والنجاة من مكائدها كشف عن دهائها في الحفاظ على نفوذها، وأيضا حياتها، بعد موت أمينتاس الثالث. والحقيقة أنها عاشت بعده عشرين سنة أخرى أو أكثر، وهي سنوات تطلبت منها يقظة مستمرة حفاظا على حياتها وحياة أبنائها الثلاثة، الذين قتل أكبرهم، وهو الإسكندر الثاني، بعد ولايته الحكم لمدة سنتين أو نحو ذلك. من الجائز أنه قتل على يد رجل يدعى بطليموس ربما كان ابن أمينتاس الثاني، الذي حكم لفترة وجيزة في 395-394. ولأسباب غير واضحة - لعلها تكون الضرورة - تحالفت يوريديكا سياسيا وغراميا مع بطليموس، الذي ربما شغل منصب الوصي على عرش ابنها الثاني بيرديكاس لدى إعلانه ملكا سنة 365. وفي غضون سنة، قرر بيرديكاس أن يحكم البلاد حكما مباشرا فقتل بطليموس، ثم قتل هو نفسه في معركة مع الإليريين بعد ذلك بخمس سنوات؛ عندئذ صار المطالبون بالعرش المقدوني هم: أمينتاس الرابع ابن بيرديكاس الصغير، وفيليب الثاني أخا بيرديكاس، وابنا أمينتاس الثاني المتبقيان على قيد الحياة من زوجته جايجيا، ومنافسون عديدون من فروع العائلة الأرغية الأخرى. وعاشت يوريديكا حتى عهد ابنها الثالث فيليب الثاني.
إن مجرد بقاء فيليب على قيد الحياة لكي يتنافس على العرش في حد ذاته يعتبر إنجازا. كان أخواه الشقيقان قد قتلا، وصار آنذاك بمقدور إخوته الثلاثة غير الأشقاء أن يطالبوا بالعرش خلفا لأبيهم. وفضلا عن التهديدات النابعة من المطالبين الآخرين بالعرش، ربما لم يكن ليستطيع النجاة مما تعرض له في سنوات صباه؛ إذ تعرض للخطر في سنوات استبقائه كرهينة ملكية في طيبة بين عامي 369 و367، وبعد إرساله لتولي منصب في مكان بعيد عن بيلا كان يمكن أن يودي بحياته، خصوصا أن وجوده هناك كان يهدف إلى ضمان ولاء منطقة إيليميا، التي كانت لا تزال مصرة على الاستقلال عن السيطرة المقدونية. لكن كما يتبين من الأحداث، من الجائز تماما أن إبعاد فيليب عن بيلا أعفاه من الانضمام إلى أخيه بيرديكاس عندما قاد الجيش المقدوني ضد الجيش الإليري سنة 359.
نجا فيليب من هذه المجموعة المتشابكة من التهديدات؛ إذ رأى اثنان من إخوته غير الأشقاء أن من الحكمة الرحيل عن مقدونيا، وعمد إلى القضاء على المطالبين الآخرين بالعرش من فروع السلالة الأرغية الأخرى، لكنه ترك ابن أخيه يعيش. نادت جمعية الجيش بفيليب وصيا على عرش ابن أخيه الصغير أو ملكا بالطريقة التقليدية. لم يكن أمامه وقت للقضاء على جميع منافسيه على السلطة لوجود خطر آخر أشد من هؤلاء وهو الإليريون، الذين قد يستغلون ميزتهم بالعودة إلى اجتياح الأراضي المقدونية. لكن الغريب أنهم لم يقوموا بمحاولة ضد هذه المملكة الهشة.
يتضح ضعف فيليب وجيشه في تعاملاته الأولى مع الإليريين، فهو لم يقد جيشا ضدهم، وهذا منطقي بالنظر إلى شدة ضعف الجيش المقدوني، بل آثر التفاوض على تسوية مؤقتة، وسيرا على خطى أبيه غير المسبوقة، اتخذ زوجة إليرية تسمى أوداتا لتوطيد هذا التحالف، وربما تزوج قبل ذلك بفيلا ابنة حاكم إيليميا لترسيخ اتحاد إيليميا مع مقدونيا الكبرى. في نهاية المطاف أقام فيليب سبعة تحالفات وطدها بالزواج، وسنعود إلى الوضع الذي تمخضت عنه هذه الزيجات المتعددة عند تمحيص دور أوليمبياس أم الإسكندر في موضع لاحق من هذا الفصل. من المهم أن ننوه في هذه المرحلة إلى أن العامل الأهم في كل حالة كان دبلوماسيا؛ إذ أقام فيليب تحالفات أو عززها مع أسر مهمة في أجزاء أخرى من مقدونيا، ومع زعماء الممالك أو الدول المنافسة، ومع فرع آخر من فروع السلالة الأرغية. وربما لعب الغرام الحقيقي دورا في بعض الأمثلة، لكنه لم يكن الدافع الأولي.
شكل 3-5: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس فيليب الثاني. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كان كثير من التهديدات التقليدية يلوح منذرا بالخطر؛ فالمطالبون بالعرش ظلوا موجودين؛ إذ عاود أرغايوس - ولعله الشخص الذي خلف أمينتاس الثالث على العرش لفترة وجيزة في ثمانينيات ذلك القرن - الظهور بمساندة من أثينا لاستعادة العرش، فتعامل فيليب مع هذا المدعي وجيشه دون صعوبة. كانت أقاليم مقدونيا العليا مهيأة دائما للانفجار، زد على ذلك ضغوط التراقيين في الشرق والبيونيين في الشمال والدول الإغريقية على حدود مقدونيا ذاتها، وكذلك الدول-المدن القوية الأبعد شقة، وخصوصا أثينا وطيبة. تمخضت المفاوضات المقرونة بالهدايا النقدية عن تسويات مع البيونيين والتراقيين، وأبرمت معاهدة مع أثينا سنة 359، وعقد زواج بامرأة تيسالية على الراجح سنة 358. وشهدت تلك السنة ذاتها استخدام القوة بنجاح ضد البيونيين ومن بعدهم الإليريون. كان هذا المزيج من الدبلوماسية والقوة النمط الذي وسم بقية عهد فيليب.
يوجد من الشواهد ما يكفي لأن نستعرض سنوات حكم فيليب الثلاثة والعشرين بالتفصيل؛ إذ تظهر خارطة لحدود المملكة سنة 336 بوضوح انخراط مقدونيا في جميع الاتجاهات. لكن لرسم صورة أعم، سنتتبع علاقات فيليب وهي تتسع من التعاملات مع الشعوب المجاورة إلى أعداء بعيدين كدولة فارس الأخمينية، لكي نميز الطبيعة العامة لمهام فيليب ومسوغات نجاحه أخيرا في إقامة مملكة واسعة مهيبة. من المهم أن ننوه إلى ضرورة أن يكون الجيش المقدوني ناشطا في اتجاهات عديدة في آن واحد للتعامل مع أعداء لم يكونوا مجرد أعداء خطرين في حد ذاتهم، بل كان دأبهم إقامة تحالفات فيما بينهم ضد مقدونيا.
ففي الشمال الغربي، ظل الإليريون يشكلون تهديدا مستمرا طوال حكم فيليب. وعلى الرغم من أن الحملة التي شنتها مقدونيا في إليريا سنة 358 أسفرت عن هزيمة الملك الإليري وجيشه البالغ 7 آلاف رجل، تحالف الإليريون بعد ذلك بسنتين مع أعداء مقدونيا الشماليين الآخرين، وأعني التراقيين والبيونيين، وانضمت أيضا إلى هذا التحالف أثينا من المحيط الإغريقي. وبعد ذلك بأكثر من عشرين سنة، شهدت السنة التي مات فيها فيليب شن حملة ضد الإليريين. وعلى الرغم من أنهم لم يهدءوا، فمن الجائز تماما أن احتواء فيليب تهديد اجتياحاتهم المستمرة لمقدونيا العليا والدنيا، كان شديد الأهمية في تلاشي العداء طوال عهده من جانب أقاليم مقدونيا العليا التي كانت ذات يوم مستقلة. استقطبت إبيروس، الواقعة أيضا جهة الغرب، بسهولة أكبر إلى المحيط المقدوني سنة 357 بالتحالف مع العائلة الأياكيدية الحاكمة والزواج بأوليمبياس، ابنة ملكها. وأما على الجبهة الشرقية، فستشغل تراقيا الجنود المقدونيين دوما حتى أواخر أربعينيات ذلك القرن. من التضليل أن نتحدث عن تراقيا ككيان واحد، بل كان التراقيون جماعات عديدة يقودها شيوخ عشائر وتحارب بعضها بعضا، وأحيانا تتحالف ضد عدو أجنبي، أو ترى نفعا في إقامة روابط مع شعوب قاصية. ولم يستطع فيليب الاتجاه بأنظاره إلى ما وراء تراقيا، وتحديدا إلى سكيثيا، إلا قرب نهاية عهده.
في إطار التعامل مع الدول الإغريقية، شن فيليب غزواته ضد المنطقة الأقرب إلى حدود مملكته وهي تيساليا سنة 358. ويمكن ربط اثنتين من زيجاته بهذه الغزوات المبكرة، هما زواجه سنة 358 بفيلينا التي تنتمي إلى الأسرة الحاكمة في لاريسا الواقعة شمال تيساليا، ثم بنيكيسيبوليس ابنة مدينة فيراي في جنوب تيساليا بعد ذلك بست سنوات. وعلى الرغم من هذه التحالفات، تطلبت تيساليا مزيدا من الحملات في أربعينيات ذلك القرن. وفي 357 وجه فيليب أيضا اهتمامه إلى الدول الإغريقية شمال بحر إيجة، وهي الدول-المدن العريقة الواقعة في شبه جزيرة خالكيذيكي والمستعمرات الأثينية، أو الحلفاء الأثينيون الموجودون على الساحل المقدوني ذاته، وكذلك شرق شبه جزيرة خالكيذيكي. تدريجيا جر الصراع المقدوني-الأثيني فيليب وقواته أكثر صوب الشرق إلى شرق بحر إيجة ومنطقة بحر بروبونتيس؛ حيث كان الأثينيون يتمتعون بوجود قوي.
في البر الإغريقي الرئيس، نال فيليب بفضل نجاحه المتزايد في تيساليا قرب نهاية الخمسينيات منصبا رسميا آخر وهو «تاجوس»، بمعنى قائد جيوش مناطق تيساليا الأربع جميعها؛ مما مكنه من التصرف رسميا في شئون تيساليا. وجرت الأعمال العدائية من جانب الدول-المدن الشرقية أرجل المقدونيين إلى الشئون الإغريقية في خالكيذيكي؛ إذ استولى فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة 348. وتمخضت انتصارات مماثلة في أجزاء أخرى من شمال منطقة بحر إيجة عن ضم خالكيذيكي فعليا إلى المحيط المقدوني، فلا غرو أن هب الإغريق الجنوبيون ممن لديهم مصالح في شمال بحر إيجة لحماية تلك المصالح.
في الوقت نفسه أيقنت بعض الدول-المدن الإغريقية أن قوة الجيش المقدوني يمكن أن تكون أداة تستعمل نيابة عنها، فينصر قضية طرف من الأطراف في الحروب التي لا تنتهي أبدا بين هذه الدول. وفي مطلع الأربعينيات جرت أرجل الجيش المقدوني إلى الحرب الأهلية الإغريقية في وسط اليونان بدعوته إلى خوضها؛ دارت رحى هذه الحرب المعروفة باسم «الحرب المقدسة» بين أعضاء الكيان العريق المسمى الحلف الأمفكتيوني الدلفي، وهم حماة حمى موقع دلفي المقدس؛ إذ أقدمت المشاة الثقيلة التابعة لدولة فوكيس، بمساعدة من مرتزقة، على الاستيلاء على دلفي وكنوزه سنة 356 ردا على غرامة باهظة فرضها أعضاء الحلف الأمفكتيوني الآخرون؛ مما أشعل فتيل حرب في عموم وسط اليونان دامت عقدا من الزمن. أتت الدعوة التي تلقاها فيليب للمساعدة على التعامل مع الدولة الآثمة بالجيش المقدوني إلى وسط اليونان سنة 347، وفي العام التالي استسلمت فوكيس؛ فاكتسب المنتصر، وهو فيليب، دورا رسميا في الشئون الإغريقية من خلال عضويته في مجلس الأمفكتيونية الدلفية العريق.
وجه فيليب خلال ما تبقى من ذلك العقد اهتمامه إلى إليريا من جديد، فشن حملة ضد الملك الإليري، ورتب لتسوية سياسية في تيساليا، وقاد جيشه إلى إبيروس في الغرب وتراقيا في الشرق، زاحفا إلى سكيثيا، ودخل في أحلاف جديدة كالاتفاق الذي أبرمه مع ملك جيتاي، وأسس مستعمرات جديدة. توافد السفراء من جنوب اليونان للتفاوض على اتفاقيات، ودعيت ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، كمثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.
لكن فيليب جد في الوقت نفسه لتقوية الوجود المقدوني في البحر الأسود، فضرب سنة 340 حصارا على بيرينثوس وسيليبريا، وهما اثنتان من الدول-المدن الإغريقية المجاورة لبيزنطية، التي لم تنج هي ذاتها من هجماته. أعلنت أثينا الحرب وطفقت تمارس الضغط لدى الإغريق الآخرين لاتخاذ موقف منسق ضد مقدونيا. وعندما اشتعل فتيل القتال في وسط اليونان من جديد في مطلع الثلاثينيات، قاد فيليب جنوده المقدونيين عائدا إلى اليونان بصفته ملك مقدونيا ومسئولا إغريقيا في المجلس الأمفكتيوني الدلفي على حد سواء. فتزعم الأثينيون - إيمانا منهم بأن أهداف فيليب تتجاوز مجرد إلحاق هزيمة بدولة واحدة صغيرة نسبيا - تشكيل ائتلاف برئاسة أثينا وطيبة بالإضافة إلى الوابيين والآخيين والكورنثيين والميغاريين والليفكاديين والكوركيريين، فالتقى جيشان متقاربان في العدد قوامهما بين 30 ألف رجل و35 ألفا، أحدهما إغريقي والآخر مقدوني، في سهل خيرونية وسط اليونان في صيف 338.
كان النصر المقدوني حاسما بما يتجاوز حدود النتيجة العسكرية؛ إذ أتاح لفيليب إعادة تنظيم طبيعة الحكم في اليونان، فأبرم أولا معاهدات رسمية مع أعدائه في خيرونية تبعا لتاريخ علاقاتهم المختلفة مع مقدونيا، وأقام حاميات في بعض هذه الدول كطيبة، وعمد إلى تغيير الحكومات في بعضها الآخر، ومنح بعضها الثالث استقلالا اسميا كأثينا. ثم اتجه فيليب إلى التسويات السياسية الطويلة الأجل، فمهدت الترتيبات مع الدول والمناطق المنفردة الساحة لتنظيم جماعي جديد لليونان. وحددت الحدود بين الدول استنادا إلى أسس يقال إن أرسطو أعدها لفيليب، فتسنى إزالة دواعي الحرب بين هذه الدول في ظل وجود حدود معترف بها. يتساوى مع هذا في دلالته التوازن الدقيق الذي أقيم ؛ إذ أضعفت القوى الكبرى وقويت الدول الضعيفة؛ وعندئذ اتحدت كل هذه الدول، كبيرها وصغيرها، في حلف جديد يسمى الحلف الكورنثي، وكان حلفا هجوميا ودفاعيا على السواء. وبهذا ستظل الدول تتمتع بالاستقلال الذاتي، لكن مع القضاء على الصراعات على السلطة التي شهدها القرنان السابقان؛ إذ سيتشكل مجلس عام يشارك فيه مندوبون عن كل عضو في الحلف يتوقف عددهم على أهمية دولتهم، وسيكون فيليب القائد الأعلى للحلف. ولضمان القوة العسكرية في مواجهة الأعداء الخارجيين، لم يسمح لمواطني الدول الأعضاء بالخدمة لدى قوة أجنبية ضد فيليب أو الحلف، وهو عنصر كان جوهريا في الحملة الهجومية التي شنت ضد دولة فارس وأرسل فيليب تحضيرا لها قوة متقدمة سنة 336.
إن محصلة معركة خيرونية، عسكريا ودبلوماسيا على السواء، مقارنة بهزيمة الجيش المقدوني بقيادة بيرديكاس أخي فيليب الأكبر على أيدي الإليريين سنة 359؛ لهي من أمارات عبقرية فيليب. ثمة أمارة أخرى على عبقريته تمثلت في توسيع رقعة المملكة التي فاقت 16600 ميل مربع (أكثر من 43 ألف كيلومتر مربع)؛ أي أكثر من مثلي رقعتها في نهاية الحرب البيلوبونيزية. وثمة أمارة ثالثة هي توحيد ما كانت ذات يوم أقاليم مستقلة شديدة التباين تحت قيادة رجل صار آنذاك يحمل العديد من شارات السلطة. (1-4) أسس نجاح فيليب
لم تكن إمكانية التعامل مع التهديدات المستمرة بالغزو والتمرد تتطلب إعادة بناء قدرات القوات المسلحة المقدونية فحسب، بل توسيعها أيضا. كان الجيش الذي ورثه فيليب يشتمل على مشاة وخيالة، وقلنا إن مهارات الفئة الأولى صقلت قبل ذلك بقرن على يد الإسكندر الأول، وأما الفئة الثانية فظلت حكرا على النخبة، لكن قوام أي من الفئتين لم يكن كبيرا. كان بيرديكاس قد فقد 4 آلاف رجل في قتاله ضد الإليريين سنة 359، مما اقتضى من فيليب تعويض تلك الخسارة، بل اقتضى أيضا حشد قوة أكبر استباقا لغزو إليري جديد، واستباقا كذلك للتهديدات النابعة من الشعوب الأخرى المجاورة. وعلى ما يبدو كانت بين يديه سنة 358 قوة قوامها نحو 10 آلاف رجل. وكما رأينا قاد جيشا قوامه بين 30 ألف رجل و35 ألفا في خيرونية سنة 338، وهذه زيادة صارت سهلة المنال مع ضم المزيد من الأقاليم والسكان إلى المملكة المقدونية؛ فمن ذلك الرقم على سبيل المثال، كان عدد خيالته قد ازداد من نحو 600 في بداية حكمه إلى 3 آلاف بنهايته، ويعود بعض الفضل في ذلك إلى نجاحه في تيساليا، الذي أتى بقوة الخيالة اليونانية الأشد فعالية إلى الجيش المقدوني.
ليست الأعداد وحدها هي التي تغيرت في بداية حكم فيليب، بل تغير أيضا التدريب والتنظيم على ما يبدو. لا نستبعد احتمال أنه كان يضع نصب عينيه التغييرات التي سيحدثها، حتى من قبل توليه الملك؛ إذ تزامنت إقامته الجبرية في طيبة مع نجاح تشكيل «الفلنكس» الطيبي بعد إصلاحه في إقامة إمبراطورية مترامية الأطراف. كانت أوجه التشابه واضحة بين جيش فيليب وجيش المشاة الثقيلة الطيبي في القرن الرابع عشر الذي أنشأه بيلوبيداس وإبامينونداس؛ إذ كان أفراد المشاة الثقيلة في كلا الجيشين يحملون حربة أطول لكن يحملون درعا أخف من المشاة الثقيلة التقليدية، وربما ساعد تخليهم عن أحد دروع منطقة الصدر على جعلهم أسرع وأخف حركة. وأثناء المعارك كانت تتموضع وحدات تتراوح بين 250 و300 رجل على هيئة صفوف بعمق 16 رجلا. وكانت لقوات النخبة أهميتها في التشكيلات الطيبية والمقدونية على السواء؛ ففي طيبة كانت «العصابة المقدسة»، المؤلفة من 150 زوجا من الذكور المتحابين، تشكل وحدة من القوات الخاصة، وأما في مقدون فكانت قوات مشاة النخبة تتألف من 3 آلاف جندي مشاة ملكي. وبالإضافة إلى الابتكارات التي سبق أن رآها فيليب في سني مراهقته وهو رهينة في طيبة، استخدم عناصر أخرى موروثة بأساليب جديدة؛ إذ كان ينشر أفضل الجنود في الجناح الأيسر، ويحميهم بالخيالة على الجنب، وتوسع في استخدام المشاة الخفيفة (رماة السهام ورماة المقاليع والمناوشون) مع استخدامه أيضا بعض الخيالة ككشافة.
هناك شواهد على تشجيعه الترقي في مراتب الجندية من خلال الحوافز؛ إذ كان الترقي من جندي مشاة عادي إلى جندي مدرع (أحد حراس الملك المدرعين) مثلا يجلب راتبا أكبر وشرفا أعظم. كان الحافز الآخر هو قيادة الملك جيشه بنفسه في الميدان ، فتلك كانت مسئولية لا تفوض إلى الغير، لكن ازدياد الانخراط في أعمال عسكرية في اتجاهات مختلفة اقتضى إسناد بعض السلطة في ساحة القتال إلى معاونين. كانت الرابطة الثنائية بين جنود المشاة والملك تحقق غاية سياسية وتلبي حاجة عسكرية في آن واحد؛ إذ ورث فيليب - شأنه شأن جميع الملوك المقدونيين - هيكلا اجتماعيا اقتصاديا تتمتع فيه الأسر الأرستقراطية بجانب السلالة الأرغية بمنزلة وثروة كبيرتين. كان يحق لعمداء تلك الأسر، وخصوصا في أقاليم مقدونيا العليا التي كانت ذات يوم ممالك مستقلة، المطالبة بمنزلة تضاهي منزلة الملك الأرغي، وكان الظفر بتعاون هؤلاء الشخصيات مهمة تتطلب جهدا عظيما لم يتسن لكثير من الملوك الأرغيين إنجازها، وذلك على نحو ما يكشف لنا حكم أمينتاس الثالث أبي فيليب. ومن الجائز تماما أن زيادة فيليب عدد الجنود المشاة ورفعه مكانتهم كانا عنصري تعزيز للسلطة الملكية في مواجهة تطاول الأرستقراطيين.
وربما اكتسب فيليب وسيلة أخرى لبناء قاعدة دعم ملكية تقوم على أصحاب المناصب القيادية في ظل إضافة أراض جديدة إلى المملكة المقدونية؛ إذ قال بعض الباحثين إن الأراضي المفتوحة صارت أرضا ملكية يمنح الأفراد إمكانية استخدامها في مقابل أداء التزامات عينية، وكان هذا يقينا منظور الإسكندر الثالث وخلفائه. وتوجد شواهد على منح الأراضي بغرض اجتذاب الأجانب الراغبين في الاحتراف في الجيش - مثل نيارخوس الكريتي - إلى مقدونيا. لكن لم يكن جميع صحابة فيليب وضباطه من المستجدين، بل ظل يعتمد، مضطرا، على عمداء الأسر النبيلة لتولي المسئوليات الكبيرة. وتتضح حقيقة أنهم أحسنوا خدمته في مقابل حوافز مماثلة للمستجدين من بقائهم حتى صاروا أنصارا للإسكندر، ثم صاروا بعد ذلك مباشرة من رجالات الإسكندر لدى موت فيليب.
عززت الأراضي المكتسبة حديثا قاعدة موارد فيليب من نواح أخرى مهمة؛ إذ أضافت إلى المملكة مزيدا من السكان والمواشي والموارد الطبيعية، وتسنى استخدام الأرض المكتسبة لتأسيس أو إعادة تأسيس مستوطنات بالقرب من الموارد الثمينة لتوفير الرقابة عليها والعمال لاستغلالها. كما كان للمستوطنات الجديدة للمقدونيين ميزة إضافية أيضا بوصفها مراكز ولاء في أقاليم لم تكن من قبل مقدونية. في زمن مبكر وذلك سنة 356، دمج فيليب مستوطنات عدة لإنشاء مدينة فيليبوي في شمال بحر إيجة، غرب الأملاك التراقية مباشرة. كانت المعادن الخام المستخرجة من منطقة جبل بانجايو تدر 1000 وزنة كل سنة للخزانة الملكية، وأما المستوطنة نفسها فكانت بمنزلة دعاية للوجود المقدوني في المنطقة التي كانت آنذاك غير مأهولة بين مقدون وتراقيا. وعندما شن المقدونيون غارات على الأراضي التراقية ذاتها، أقيمت حاميات في المناطق النائية، وصارت المستوطنات الكائنة في بيروي وفيليبوبوليس مراكز سيطرة ونفوذ مقدونية مهمة. بعد ثلاث سنوات أو أربع من إنشاء فيليبوي الأولى، تمخضت أنشطة فيليب في تيساليا عن المستعمرة الكائنة في جومفوي، التي غير اسمها إلى فيليبوي أو فيليبوبوليس. وفي اتجاه الغرب أيضا، زرعت حصون عسكرية في الممرات الجبلية. وإدراكا من فيليب لقيمة المستعمرات من خلال وجود مستعمرات إغريقية في المنطقة المتاخمة للمملكة مباشرة، استولى على المستوطنات القديمة لأغراض مماثلة. ومع استيعاب نجاحاته للمستوطنات الإغريقية الكائنة على الساحل المقدوني في شبه جزيرة خالكيذيكي، صار فيليب حرا في مزاولة التجارة البحرية مباشرة دون الاستعانة بوسطاء، وباستحواذه على المرافئ أضاف رسوم مرافئ إلى خزانته.
مع اتساع ضلوع فيليب في مناطق جديدة ومختلفة من بحر إيجة، أدرك أهمية التكنولوجيا. وجلبت الصلات المبكرة بين المملكة وتيساليا خدمات بولييديس، الذي ينسب إليه الفضل في وضع تصميمات ميكانيكية جديدة ومبسطة. وربما أنشئت في بيلا ما وصفت بأنها «دائرة فيليب للهندسة الميكانيكية»؛ حيث كان بولييديس ينفذ تصميماته ويدرب أيضا طلابا سيخدمون الإسكندر فيما بعد. على الرغم من عدم اكتمال الشواهد، فلا شك أن فيليب استعمل مجانق تطلق السهام، وربما طورت في عهده آلة حصار الأسوار الالتوائية. كان جيش فيليب يستعين لأغراض الحصار بأبراج يصل ارتفاعها إلى 120 قدما (أكثر من 36 مترا) ومدقات وسلالم.
كانت هذه وغيرها من «دوائر» الهيكل الإداري المركزي ضرورية لإنشاء مملكة قوية والحفاظ عليها. والشواهد على طبيعة هذا الهيكل ضئيلة نظرا لندرة المعلومات الكتابية التي وصلتنا من مقدونيا أثناء القرن الرابع عشر حتى عهد فيليب، لكن هناك شواهد آثارية، وتحتوي السجلات الإغريقية التي وصلتنا من تلك السنوات على معلومات مفيدة، وفي الأوضاع المحلية والوطنية المعروفة لنا مؤشرات دالة.
كانت بيلا قد تحولت إلى مركز المملكة، وربما حدث ذلك مبكرا وتحديدا في عهد أرخيلاوس (413-399)، وفي عهد فيليب اتسعت المدينة. وبما أنها ظلت عاصمة المملكة المقدونية حتى الفترة الهلنستية، فإن معظم الموقع الذي يعود إلى القرن الرابع بني فوقه؛ ومن ثم لم يتسن تحديد موضعه والتنقيب فيه. ومع ذلك فمخطط المدينة واضح نسبيا؛ ففي وسط المدينة كانت هناك ساحة عامة تزيد على 17 آكر (7 هكتارات) يقطعها شارع واسع، وهو جزء من الطريق الملكي، وكان يحيط بالساحة العامة رواق، وكان القسم الشمالي من هذا الرواق ذا طابع إداري، وأما الجنوبي الغربي فكان أرشيفا، وكانت الأقسام الأخرى من المجمع تضم حوانيت ومشاغل. كانت الوحدات الإدارية توجد على الراجح في أجزاء من هذا الرواق. وبالإضافة إلى الأرشيف، كان موظفو أمانة السر يحتاجون إلى مكاتب. كان ينفق مبلغ لا بأس به من أموال الخزانة انطلاقا من العاصمة، وكانت إدارة الخزانة ومخازنها تشغل وحدة أخرى. وربما كانت «الدوائر» التي تنتج وتصمم فيها الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى وآلات الحصار؛ موجودة في منطقة ما بالرواق الضخم.
يغطي القصر، المقام فوق رابية شمال الساحة العامة، نحو 15 آكر (6 هكتارات). كان هناك فناء أوسط كبير تحيط به ثلاثة مجمعات منفصلة يطل كل منها على فناء كبير؛ كانت إحدى هذه الوحدات تضم حمام سباحة، وربما كانت وحدة أخرى تستخدم كمدرسة مصارعة أو قاعة للتمارين الرياضية. ويمكن استنتاج استخداماتها العديدة من الروايات الكتابية عن الحياة في بيلا. استخدم قسم لا بأس به من هذه المساحة كمسكن لفيليب وزوجاته السبع وأطفالهن وأقاربه الآخرين والعدد الكبير من طواقم العمل المنزلية التي تستلزمها هذه الأعداد. كان هناك رسل يفدون بانتظام للقاء الملك المقدوني؛ ومن ثم خصص مكان يلبي حاجاتهم أثناء وجودهم في بيلا، ومكان آخر مناسب لعقد الاجتماعات مع الملك وموظفي ديوانه. كان هناك شطر من طاقم معاوني فيليب يتعين وجودهم أيضا في أي وقت بعينه، بالإضافة إلى شباب العائلات الأرستقراطية الذين أرسلوا إلى عاصمة المملكة لتلقي التدريب كقادة مستقبليين، والذين كانوا في واقع الأمر في خدمة الملك أثناء سنوات تدريبهم هذه. كانت الندوات الشهيرة التي يعقدها المقدونيون تتطلب مفروشات خاصة وغيرها من التجهيزات، فضلا عن مخازن تستوعب كميات الخمور التي يحتسونها. ضم القصر أيضا مكانا مناسبا لإقامة المناسبات الكبرى كالزفاف والاحتفاء بامتيازات الشرف التي يمنحها فيليب بنفسه. وتظهر أرضيات الفسيفساء المنمقة، والرسوم الجدارية التي رسمها الفنان الإغريقي زيوكس (الذي استقطب إلى مقدون أثناء حكم أرخيلاوس)، والمشغولات الأنيقة الموجودة في بيلا وغيرها من مراكز المملكة؛ العناية التي بذلت والثروة التي استثمرت لخلق درجة معقولة من الأبهة. كانت المزارات المقدسة - كالمنطقة الدائرية المكرسة للربة ديميتر - والمقابر أيضا، جزءا من مشهد مدينة بيلا في القرن الرابع. ليس من الواضح هل كانت بيلا محصنة في مراحلها الأولى أم لا؛ فالشواهد التي بين أيدينا يعود تاريخها إلى الجزء الأخير من القرن الرابع.
تعود بدايات نشأة الكثير من معالم بيلا إلى العاصمة السابقة آيجي، ويوحي مخطط آيجي بأن بيلا كانت محصنة في مطلع القرن الرابع. من المفيد أن ننوه إلى أن المركز السكني والإداري في العاصمة القديمة كان يقع على هضبة تحول دون وصول الزوار غير المرغوب فيهم إليه، وبالإضافة إلى ذلك كان المركز محصنا بسور جيد البناء. كانت هناك بوابة في الجانب الشرقي يحميها برج دائري، وكان القصر يحتوي على مساكن، وغرف كبيرة للفعاليات الرسمية، ومشاغل. ويدل ما وصل إلى أيدينا من فسيفسائيات وملامح معمارية على كل من الثروة والعناية اللتين استثمرتا في إنشائه. كان المسرح المقام عند سفح الأكروبول وحرم يوكليا - التي أسلفنا ذكرها عند الحديث عن أم فيليب - يشغلان جزءا أساسيا من آيجي. تنم المدافن وما اكتشف من قرابين يعود تاريخها إلى الضريح المرتبط بالإسكندر الأول، عن القوة الصاعدة التي كان يتمتع بها الملوك الأرغيون؛ مما كان يستدعي بدوره مركزية الأنشطة واتساع الاتصالات الثقافية. خلاصة القول أنه مع اشتمال بيلا على هذه الملامح ذاتها وإن كانت مكبرة، لم يأت هذا من فراغ.
ومع ذلك وصف شهود عيان السلطة المنبثقة من بيلا أثناء حكم فيليب الثاني. وفي الروايات الإغريقية التي وصلت إلى أيدينا، وخصوصا روايات الأثينيين ديموستيني وإيسقراط وإيسخينيس، برهان على أن فيليب كان بارعا في الفوز بالدبلوماسية وبالقوة العسكرية، وكلتاهما مهارتان كانتا مطلوبتين من الحكام الأرغيين منذ نشأة المملكة الصغيرة. شارك الملوك المقدونيون قبل زمن فيليب في مفاوضات وأبرموا معاهدات وتحالفات بأسمائهم، ويوجد نقش يتناول المعاهدة المبرمة بين بيرديكاس الثاني والأثينيين يقول: «الآن بموجب العهود والمواثيق التي تلزم بيرديكاس هذا نفسه والملوك الحاضرين مع بيرديكاس ...» وفيما بعد: «اتفق أمينتاس بن أريدايوس والخالكيذيكيون على أن يكون كل منهما حليفا للآخر ضد الجميع لمدة خمسين سنة». ودخل فيليب في أحلاف مماثلة منذ سنواته الأولى على العرش. لا ريب أن الملك كان الممثل الطبيعي لمملكته، ويفترض أنه كان يتصرف بما يخدم مصالح المقدونيين ورفاههم؛ لكن على ما يبدو لم تكن هناك هيئة رسمية غير الملك ترتب مثل هذه المفاوضات؛ ومن ثم كانت هذه السمة من سمات الحكم على ما يبدو امتيازا ملكيا. الأهمية المتزايدة لتقوية التحالفات الجديدة من خلال الزواج عنصر آخر من عناصر الدبلوماسية المقدونية التي اقتصرت فيما يبدو على الحكام الأرغيين؛ وفي ضوء هذا يمكن - ولو جزئيا على الأقل - إدراك الغرض من معظم زيجات فيليب السبع، إن لم يكن فيها كلها. علاوة على ذلك، فإن عدد زيجاته أمارة تنم عن دور مقدون المتنامي بسرعة في محيطها الأكبر، وهو شمال شرق منطقة البحر المتوسط.
بالإضافة إلى المهارات الدبلوماسية واكتساب المناصب الرسمية، كانت هناك سمة أخرى مفيدة يتسم بها الملك الناجح؛ وهي القدرة على المكر. وتشير الروايات إلى أن فيليب كان بارعا بشدة في الحيل؛ إذ كان يستعمل على سبيل المثال رسائل خداعية لكي يعترضها العدو. فلاكتساب موقع مميز لخيالته في المعركة التي وقعت أخيرا في سهل خيرونية سنة 338، «سمح» بأن يعترض العدو الإغريقي كتابا بعث به إلى قواته؛ إذ كشفت المعلومات التي جاءت في الكتاب عن أنه يوشك على الانسحاب من موقعه الحالي ، وبتلقي هذه الأخبار السعيدة، تراخت قوات العدو، وفي تلك الليلة ذاتها، اقتحم فيليب وجنوده فرجة ضيقة بين الجبال للاستحواذ على الموقع المنشود. وكان قد أرسل كتابا خداعيا آخر في السنة السابقة عندما سيق أسطوله إلى البحر الأسود، وشلت حركته هناك على أيدي الأسطول المعادي، فساعدت التعليمات التي جاءت في الرسالة على إلهاء قادة أسطول العدو بما يكفي لتتمكن السفن المقدونية من الإفلات. كان فيليب بارعا أيضا في إثارة الفرقة بين أعدائه، وفي دعم الجماعات المؤيدة للمقدونيين في اليونان. وكانت التكتيكات الأخرى تسير جنبا إلى جنب مع القوة العسكرية، وتعززها.
سمح مزيج من هذه المهارات لفيليب بإضافة مناصب رسمية أخرى إلى جانب ملك مقدونيا؛ إذ صار «تاجوس» تيساليا سنة 352، وهو منصب موثق منذ القرن السادس عشر، ويمكن تعريفه بأنه وسيلة للجمع بين مناطق تيساليا الأربعة، التي تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال، في عمل تعاوني في المواقف التي تتطلب قوة أكبر مما يمكن لمنطقة منفردة حشده. ونرجح أنه كان يجري في البداية انتخاب تاجوس «فيدرالي» للحالات الطارئة المؤقتة فقط، لكن قيام تحالفات أكبر في اليونان بوجه عام في القرنين الخامس والرابع حول هذا المنصب إلى منصب دائم. وفر منصب تاجوس في يدي فيليب الأساس اللازم لعملية إعادة تنظيم تيساليا سنة 344. وجلبت التسوية المقدونية للحرب بين دول وسط اليونان سنة 346 معها منصبا رسميا آخر للملك المقدوني؛ إذ منح فيليب لدى هزيمته دولة فوكيس المارقة الصوتين اللذين تتمتع بهما في المجلس المؤلف من 12 عضوا المشرف على أمن دلفي. وجهت إليه أيضا الدعوة لتنظيم دورة الألعاب البيثية الجديدة، وشرع في إنشاء نصب فيليبون داخل حرم أوليمبيا. وزيادة على حماية الموقع المقدس، كان بوسع أعضاء المجلس القيام بعمل منسق للحفاظ على أمنه.
غير أن الأكثر إثارة للإعجاب كان إنشاء فيليب حلفا جديدا باسم الحلف الكورنثي مع توليه شخصيا منصب زعيم الحلف أو قائده الأعلى. كان هذا الحلف، الذي جاء في أعقاب الانتصار المقدوني في خيرونية سنة 338، أحد مظاهر السلطة المقدونية على الدول الإغريقية، وكان أيضا محاولة لإنشاء نظام جديد داخل اليونان تكون مقدون وملكها جزءا لا يتجزأ منه. كان ترتيب تسويات مع الدول الإغريقية منفردة خطوة أولى حتمية؛ فرسمت حدود هذه الدول، ربما بمساعدة أرسطو وتلاميذ مدرسته، للقضاء على واحد من أهم أسباب الشقاق في اليونان. وفي إطار عملية تحديد رقعة كل دولة ومكانتها، كافأ فيليب بعضها وعامل بعضها الآخر بقسوة على أساس علاقاتها السابقة مع مقدونيا، فأقيمت حامية في طيبة على سبيل المثال، أما الأيتوليون فأعطوا موقع نافباكتوس الاستراتيجي على الخليجي الكورنثي، وعوملت أثينا بسخاء على الرغم من دورها القيادي في الصراع ضد فيليب، وأما إسبرطة فجرى تجاهلها أساسا. على نحو ما سنبين فيما بعد، كان فيليب على دراية بعقد المعاهدات في العالم الإغريقي، والحقيقة أنه كان بالفعل طرفا في العديد من التحالفات، ومنها الحلف الأمفكتيوني الدلفي العريق، ومعاهدة الهجوم والدفاع المشترك مع الحلف الخالكيذيكي، واتفاقية السلام المشترك بين فيليب وحلفائه وأثينا وحلفائها المعروفة باسم «سلام فيلوكراتيس». واستخدم فيليب هذه الممارسات المألوفة في بناء حلفه الجديد الذي جمع بين معاهدة للسلام المشترك ومعاهدة للهجوم والدفاع المشترك.
بعد التوصل إلى اتفاقات فردية، أنشئ مجلس حاكم يتألف من مندوبي الدول المتحالفة، وكانت تتخذ قرارات بشأن العمل المشترك في المجلس، الذي كان يقوم أيضا بدور محكمة التحكيم في النزاعات ويتخذ إجراء ضد من ينتهك مراسيم الحلف، وكان زعيمه فيليب يجمع بين منصبي المسئول الأول والقائد الأعلى للقوات المسلحة. التقى مندوبو الدول الأعضاء في كورنثة لحضور مؤتمر في شتاء 338 / 387، ومن بين كل الدول الكبرى لم ترسل إسبرطة مندوبين عنها. وأعلن فيليب عن اتفاقية سلام مشترك تضمنها مقدون. وإدراكا للحاجة إلى قوة للحفاظ على السلام، تأسس مجلس مؤلف من ممثلين من جميع الدول الأعضاء، وكانت الأصوات تخصص تبعا لقوة الدولة العسكرية. ويوجد نقش وصل إلى أيدينا (تود، الطبعة الثانية، 177، 17-22) يصف القسم الذي يؤديه الأعضاء: «إذا تصرف أحد بطريقة تناقض الاتفاقيات، سأقدم مساعدة عسكرية على النحو الذي يحتاج إليه المتضرر، وسأخوض الحرب ضد منتهك معاهدة السلام المشترك على النحو الذي يقتضيه المجلس العام ويأمر به القائد الأعلى.» وهكذا كان الحلف أيضا حلفا للهجوم والدفاع المشترك، ويتولى فيليب باعتباره قائده الأعلى حشد قوة مناسبة لأداء المهمة. كانت الاتفاقية تشتمل أيضا على الاعتراف بالتسويات الفردية التي رتب لها فيليب في أعقاب انتصاره في خيرونية، وهي ترسيم الحدود وتحديد الهيكل السياسي لكل دولة داخل هذه الحدود. كانت هذه الشروط تسري على مقدون كما تسري على اليونان، وهكذا ضمن ملك فيليب وذريته مستقبلا مثلما ضمنت دساتير الدول اليونانية، وعين مسئولون مخصوصون - ربما اختيروا من بين أعضاء المجلس العام - لترصد انتهاكات هذه الاتفاقيات.
كان أحد الإجراءات الأولى التي اتخذها المجلس العام للحلف إعلان الحرب على بلاد فارس في 337 / 336 بناء على أوامر فيليب. وعلى الرغم من إرسال فيليب قوة متقدمة إلى شمال غرب الأناضول، فإنه لم يعش ليجرد الحملة بكامل قوتها، وكان خليفته هو من اضطلع بهذه المهمة. (1-5) إنجازات فيليب الثاني
يقال إن ديموستيني وصف فيليب بأنه أذكى الرجال أو أعظمهم مهابة؛ لأن كلمة «دينوس» الإغريقية تحمل المعنيين. ويمكننا أن نلخص تلخيصا مباشرا إنجازاته على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية والشخصية لنحصل على فهم أتم للرجل الذي سيخلفه.
جعل فيليب من مقدونيا مملكة مستقرة بعد توليه السلطة في أعقاب هزيمة كارثية أودت بحياة أخيه، الذي كان ملك البلاد آنذاك، ومعه 4 آلاف رجل، فاستطاع إعادة تأكيد السيطرة على المناطق التي انفصلت فعليا عن المملكة أثناء العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع، ثم إضافة مساحات كبيرة من الأراضي الجديدة. ضاعفت نجاحاته مساحة المملكة إلى أكثر من ضعف ما كانت عليه في نهاية الحرب البيلوبونيزية، وازداد أيضا سكان المنطقة الخاضعة للسيطرة الفعلية زيادة حادة من نحو 228 ألفا في نهاية القرن الخامس إلى نحو 700 ألف أثناء حكم فيليب الثاني. بالإضافة إلى المساحة، عززت آليات السلطة المركزية، فأعيد إصلاح الجيش، وأصل الولاء للملك، وزادت الاستثمارات في الطرق والحصون والمستوطنات الجديدة في الأراضي المفتوحة إمكانية مواصلة السيطرة من بيلا، ووفرت الإدارة الملكية للموارد ما يلزم لتنفيذ هذه الخطوات.
بتوسيع فيليب رقعة مملكته وزيادة قدرتها على البقاء، وسع مجال النفوذ المقدوني ليشمل اليونان وتراقيا وإليريا وإبيروس على الساحل الأدرياتي. ومكنته مهاراته الدبلوماسية الرفيعة من اكتساب الأنصار حتى من بين الإغريق، والأكثر من ذلك أنها جلبت له مناصب رسمية في هيئات مهيبة مهمة. كان فيليب يعرف المؤسسات الإغريقية معرفة جيدة بما يكفي ليقيم الهيئات المقدونية الجديدة على غرار تلك المؤسسات، وفوق ذلك فإن براعته في ترتيب المعاهدات، التي ساندها غالبا الزواج من إحدى بنات الطرف الآخر، خدمته جيدا.
يثني المؤرخ ديودورس الصقلي على مناقب فيليب الشخصية وشجاعته و«تألق شخصيته» (الكتاب السادس عشر، 1، 6). قاد فيليب قواته في الحرب وأثخن بالجراح ليثبت أنه كان يحارب في الطليعة، ومن ذلك فقدانه إحدى عينيه في معركة خاضها في ميثوني. كان يتعامل مع معاونيه مباشرة في مسائل الحرب والإدارة، جامعا الخدمات والموارد الضرورية من حوله في العاصمة بيلا. ولعب دورا مباشرا في مجالس كبار مسئوليه، وكذلك في الندوات الضخمة المتكررة وفي الاحتفالات التي كانت ترافق المناسبات الكبرى.
ولدى موته سنة 336، كان يهيئ موارد مملكته وحلفائه في الحلف الكورنثي لشن المزيد من الغارات، التي كانت هذه المرة شرقا داخل أراضي الإمبراطورية الفارسية.
من نافلة القول أن فيليب كان أكثر بكثير من مجرد جزء من عالم الإسكندر؛ إذ أضفى على ذلك العالم شكله وهيئته. كانت مقدون مملكة مترامية الأطراف، لديها من القوات المسلحة والتنظيم ما يبشر بالبقاء، وتمكن ملكها من إخضاع أعدائه السابقين من إليريا إلى تراقيا، ومن بيونيا إلى جنوب اليونان. كان النصر العسكري يستند إلى جيش أعيد تكوينه وهيكلته وعزز ولاؤه لزعيمه، وهو الملك المقدوني، باستحداث نظام لتجنيد أبناء الأسر المقدونية الأرستقراطية، والفلاحين الذين تحمسوا لترك الرعي واحتراف الجندية، والجنود المحترفين غير المقدونيين. كانت بيلا آخذة في التحول إلى مركز أنشطة لا غنى عنه لدولة جيدة التنظيم. واستحدث فيليب خارج مقدون ذاتها أشكالا جديدة من التحالف مع الأقاليم التي كانت ذات يوم مستقلة، وصار القوة الموجهة في تلك التحالفات. كان نجاحه آخذا في تحويل بيلا إلى مركز نشاط دولي.
كان فيليب ، بالتحول الذي أحدثه في القوة المقدونية، نموذجا لما يمكن أن ينجزه ملك أرغي، وسيكون لزاما على خليفة ذلك الرجل أن يكون رجلا مدهشا بالقدر ذاته. بلور فيليب إرثا للملك الأرغي الذي سيرثه أعظم بكثير من الإرث الذي ناله سنة 359، لكنه رفع بذلك أيضا مستوى المهارات الشخصية والاحترافية الضرورية للحفاظ على نفوذ المملكة. (2) أوليمبياس
كان النصف الآخر من نسب الإسكندر مهما بالقدر نفسه؛ إذ شكلت الأم مستقبل ابنها بطرق تتجاوز تماما حدود كونها الواهبة لحياته. كان زواجها بفيليب عنصرا أساسيا من عناصر التحالف بين إبيروس ومقدون، الذي جمع بين أسرتين حاكمتين بالوسائل السلمية لا العسكرية. لكن كما رأينا، أبرم فيليب ست زيجات دبلوماسية أخرى، مما تمخض عما يمكن رؤيته كبيئة تنافسية تناضل فيها الزوجات ليضمن لأنفسهن المكانة ولأولادهن النجاح في المستقبل. كان لزاما على الأم أن تحمي نفسها وأبناءها وبناتها أثناء طفولتهم وشبابهم، وتشكل الظروف التي يمكن لأبنائها أن يترعرعوا فيها ويبرهنوا على قدراتهم لكي يرثوا العرش أو ليصير بناتها زوجات لرجال مهمين. لم تكن تلك بالمهمة السهلة في ظل أحسن الظروف، بل كانت أصعب على أم الإسكندر؛ لأنها لم تكن أرغية.
شكل 3-6: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس أوليمبياس. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كانت أم الإسكندر تدعى أوليمبياس، لكن من الجائز أن اسمها الأصلي كان ميرتل، ولم تكن مقدونية المولد بل كانت من إبيروس، الواقعة في المنطقة الشمالية الغربية من اليونان في البر الرئيس قبالة كورفو، وهي ملاصقة تقريبا لتيساليا وإن كانت تفصلها عن تيساليا جبال بيندوس. عدد المؤرخ ثيوبومبوس، الذي عاش في القرن الرابع، 14 قبيلة هم سكان المنطقة، وكانت قبيلة المولوسيين إحدى هذه القبائل، ونجحت هذه القبيلة في إقامة دولة قوية بقيادة ملكها نيوبتوليموس بحلول عام 370 تقريبا. كانت أوليمبياس واحدة من ثلاثة أبناء أنجبهم نيوبتوليموس؛ كانت لها أخت تسمى ثواس وأخ يسمى الإسكندر توج ملكا على المولوسيين سنة 342، وبعدها نجح في توحيد إبيروس وتوسيعها أثناء حكمه الذي دام 12 سنة. يمكن تأريخ زواج فيليب بأوليمبياس حوالي سنة 357، وولد ابنهما سنة 356 وابنتهما كليوباترا بعده بنحو سنتين أو ثلاث. ورتب هذا الزواج بين فيليب وعم أوليمبياس الذي خلف أبيها على العرش.
شجع على عقد هذا الزواج الكثير من المنافع المتبادلة، وتوحي الصعوبات المستمرة التي واجهها المقدونيون مع الإليريين شمال إبيروس بأن المنفعة المحققة من اتخاذ حليف مقرب على الحدود الجنوبية للأرض الإليرية كانت عاملا مهما. كانت العلاقة بين مقدون وإبيروس قوامها الود لا العداوة، وازدادت وثاقة بزواج عقد سنة 337 جمع كليوباترا ابنة فيليب وأوليمبياس بالإسكندر شقيق أوليمبياس الذي كان آنذاك ملكا على مولوسيا. كان النفوذ الهيليني القوي آصرة أخرى بين المملكتين بحلول خمسينيات ذلك القرن. كان المولوسيون، أو على الأقل النخب منهم، يتحدثون الإغريقية، ويعود نسبهم إلى نيوبتوليموس بن آخيل، على نحو يشبه الصلة الأرغية بهرقل. والرواية التي ذكرها بلوتارخس عن وقوع فيليب في حب أوليمبياس أثناء تكريسهما في طقوس دينية في جزيرة ساموثراكي الإغريقية؛ قد تنم عن مستوى الأغرقة في كل من إبيروس ومقدونيا الدنيا بحلول منتصف القرن الرابع (الإسكندر، 1). من الواضح، في عيني بلوتارخس على أية حال، أن هذا برهان على أن الزواج الدبلوماسي يمكن أن يشتمل على غرام شخصي.
سواء أكان هذه الزواج يشتمل على عنصر غرامي أم لا، من المهم أن نتذكر أن أوليمبياس لم تكن سوى واحدة من زوجات فيليب السبع. ومع أن ترتيب الزيجات ليس مؤكدا بالكلية، فبحلول وقت زواجه بأوليمبياس كانت تحته ثلاث زوجات أخريات، وهن: أوداتا ابنة الملك الإليري، وفيلا ابنة العائلة الإيليمية الحاكمة في مقدونيا العليا، وفيلينا ابنة إحدى العائلات التيسالية الحاكمة المهمة. وفي مرحلة متأخرة من عهده تزوج بثلاث نسوة، وهن: نيكيسيبوليس ابنة مدينة فيراي التيسالية، وميدا التراقية، وكليوباترا المقدونية، التي ربما كانت أرغية، أو التي إن لم تكن من السلالة الحاكمة فربما كانت من أسرة مقدونية نبيلة. تذكر المصادر أن هذا كان زواجا قائما على حب، لكن كما رأينا فإن الملك يجب أن يضمن عقد علاقات طيبة مع نخب مملكته.
لا يبدو أن نسب الزوجة كان عاملا حاسما في مسألة الخلافة؛ فيوريديكا أم فيليب كانت من أصل إليري ولنكستي، وأما جايجيا زوجة أبيه الثانية، فربما كانت من بنات السلالة الأرغية، وقد خلف أبناء يوريديكا أباهم، وأما أبناء جايجيا فحاكوا المؤامرات للفوز بالعرش لأنفسهم. كذلك كانت أوليمبياس إبيروسية، وأما زوجة فيليب السابعة فكانت من أسرة مقدونية ذات نفوذ. إذن فالقرار بشأن الخلافة كان يتوقف على عوامل أخرى غير الانتماء إلى السلالة الأرغية، وكان نفوذ الأمهات النسبي لدى فيليب يقينا ذا شأن كبير. على الرغم من أن وجود أمارات واضحة على ما يتمتع به ورثة العرش المحتملون من مقدرة سيكون أيضا حاسما، كنت ترى في الوقت نفسه كل زوجة لفيليب لها ابن منه تسعى جاهدة للارتقاء بمهارات ابنها، وربما كان الإضرار بفرص المنافسين من بين السبل التي استخدمنها.
ليس معروفا في أي مكان من مجمع القصر كانت تعيش أوليمبياس وزوجات فيليب الأخريات، ولعل أحد الأجنحة الثلاثة كان مصمما لاستخدامه كمسكن. وحتى لو كان لكل واحدة من الزوجات العديدات وأولادهن بيت منفصل، فمن المؤكد أن الوضع كان سيتمخض عن منافسة؛ فكما رأينا، كانت الثقافة المقدونية ثقافة تنافسية بعمق من نواح كثيرة. ويدل دور يوريديكا في تأمين وراثة العرش لأبنائها بدلا من أبناء جايجيا، على أن زوجات الأسر النخبوية وبناتها كن يتصرفن بأسلوب مماثل للمقدونيين الذكور. وتبرهن أدوار أوليمبياس وابنتها، وكانت تسمى كليوباترا أيضا، على أن النساء كن يستطعن الحكم في غياب الملوك، ويستطعن قيادة الجيوش وقتل المنافسين.
على الرغم من أن الغرض الأولي من زيجات فيليب والملوك المقدونيين الآخرين المتعددة يكمن في قيمتها في إقامة التحالفات مع الدول الأخرى؛ يوجد غرض ثان صار مساويا لذلك في الأهمية، وهو ضمان سلسلة من ورثة العرش المقدوني. كانت لدى فيليب شواهد قوية على أن أي ملك مقدوني ليس آمنا على حياته؛ إذ مات أبوه وأخواه الكبيران قتلى، وكان له في ابن أخيه منافس محتمل. وكما رأينا فإن من مهامه الأولى كملك القضاء على المنافسين المحتملين الآخرين، وخصوصا إخوته لأبيه من جايجيا. كان يقينا على دراية أيضا بأن أطفالا كثيرين لا يطول بهم العمر أكثر من سنواتهم الأولى لأسباب طبيعية؛ ومن ثم فمن المسئوليات الأساسية المنوطة بزوجات الملك أن يلدن الأبناء ويحافظن على حياتهم. كان الشطر الثاني من هذه المسئولية صعبا حتى لو لم توجد إلا زوجتان، كما في حالة أمينتاس أبي فيليب. وتمخض هذا التنافس بين زوجات فيليب السبع عن وضع أكثر تعقيدا.
علاوة على ذلك، يبرهن هذا على خصلة أخرى من خصال أوليمبياس، فتفانيها في العناية بولديها وإصرارها على تأمين نجاحهما سمة بارزة في قصة حياتها منذ مولد طفلها الأول الإسكندر إلى وفاتها سنة 315. يقال إنها كانت تدس لفيليب أريدايوس، وريث فيليب المحتمل الآخر، عقاقير لتضعف عقله وجسده (بلوتارخس، الإسكندر، الفصل 77). عند زواج فيليب زيجته السابعة والأخيرة بكليوباترا سنة 337، أدى الشجار الذي نشب بينه وبين الإسكندر إلى رحيل أوليمبياس والإسكندر عن مقدونيا، ثم جرت ترضية في السنة التالية اقترنت بزواج كليوباترا ابنة فيليب وأوليمبياس بخالها أخي أوليمبياس.
بعد مقتل فيليب سنة 336، وإعلان الإسكندر ملكا، مارست أوليمبياس وابنتها نفوذا كبيرا في مولوسيا ومقدون عندما كان الإسكندر على رأس حملته ضد الفرس. وتمكنت أوليمبياس من النجاة من العشر سنوات الوحشية التي تمخض عنها موت الإسكندر؛ إذ كانت تعمل بالتنسيق مع ابنتها كليوباترا وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على حياة حفيدها الإسكندر الرابع ابن الإسكندر ورخسانة لكي يخلف أباه، وكان ذلك يتطلب القضاء على المرشحين الآخرين. وتتحمل أوليمبياس المسئولية عن موت زوجة فيليب السابعة ووليدها بعد مقتل فيليب بفترة وجيزة. وفي الفترة التي أعقبت موت الإسكندر، عملت أوليمبياس بالتنسيق مع طامح آخر إلى الخلافة، وهو كاساندروس، لإنهاء حياة فيليب أريدايوس وزوجته، ثم ماتت أوليمبياس أخيرا على يدي شريكها المتآمر هذا ذاته، بينما سمح للإسكندر الرابع وأمه بالعيش خمس سنوات أخرى قبل أن يقضى عليهما. وأما ابنتها فتمكنت من النجاة فترة أطول - وإن كانت رهينة في آسيا الصغرى - حتى سنة 309 تقريبا.
ربما كان النجاح في تنشئة أطفال فطنين وأذكياء مهمة تشغل وقت الأم كاملا، ولا تشير الشواهد إلى لعب النساء دورا رسميا في حكم المملكة. ولعل الواقع أن النفوذ غير الرسمي الذي تتمتع به أم الملك كان يزاد غالبا أثناء حكم ابنها؛ إذ شهد رجل الدولة والخطيب الأثيني إيسخينيس أن يوريديكا، زوجة أمينتاس الثالث وأم فيليب الثاني، أقنعت القائد الأثيني إفيكراتيس بحماية العرش لابنيها اللذين تبقيا على قيد الحياة بعد مقتل ابنها الأكبر الإسكندر (إيسخينيس، «عن السفارة» الكتاب الثاني، 26-9). وربما نستدل على نفوذ أوليمبياس لدى فيليب مما قام به هذا الأخير من رفع أخيها الإسكندر على العرش المولوسي.
لعبت أوليمبياس، شأنها شأن يوريديكا، دورا أبرز أثناء حكم ابنها الإسكندر؛ ففي بداية ذلك الحكم كان قتل زوجة فيليب الأخيرة ورضيعها مدفوعا، جزئيا على الأقل، برغبة أوليمبياس في تأمين الحكم لابنها. وبمجرد أن سار الإسكندر في حملته ضد بلاد فارس، باتت أوليمبياس وكليوباترا صاحبتي نفوذ باسميهما. ومع أن الإسكندر أسند الوصاية على عرش مقدون إلى أنتيباتروس بعد 334، تحدثنا رواية بلوتارخس عن تآمر أوليمبياس وكليوباترا عليه؛ إذ يقول بلوتارخس إنهما «اقتسمتا المملكة فيما بينهما» (الكتاب الثامن والستون، 3). وتشير خطابات يزعم تبادلها بين أوليمبياس والإسكندر - إن صحت نسبتها - إلى آصرة دائمة بينهما، وإن كنا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت آصرة حب أم احتياج متبادل. ويقال إن أوليمبياس قدمت قربانا في دلفي من غنائم الحرب التي أرسلها ابنها. ووليت أوليمبياس بجانب ابنتها المسائل العامة باسمها في مقدون وإبيروس على السواء. ويورد نقش (مطبوعة سوبليمنتوم إبيجرافيكوم جرايكوم، المجلد التاسع، 2) أسماء مستلمي الحبوب المجلوبة من قوريني في شمال أفريقيا؛ إذ نجد أن جميع المستلمين دول، لكن أوليمبياس وكليوباترا مسجلتان بالاسم، وهو وضع لا يختلف عن الشواهد المستمدة من المعاهدات التي تأتي على ذكر الملك المقدوني بالاسم كواحد من الأطراف.
حتى من دون مظلة دعم الإسكندر، ظلت أوليمبياس تلعب دورا كبيرا في الأحداث بعد موت غريمها أنتيباتروس سنة 319، ولدى عودتها إلى مقدونيا من إبيروس سنة 317، تولت حماية حفيدها الإسكندر الرابع، محاولة تأمين العرش له وحده بدلا من استمرار تقسيم السلطة الذي استقر عليه في بابل، والذي تمخض عن تقاسم الإسكندر الرابع وفيليب أريدايوس الحكم. يختار المقدونيون صف أوليمبياس والإسكندر الرابع، ربما بدافع العاطفة تجاه ابن الإسكندر الثالث، وإن كان أيضا بفعل الإعجاب بقوة شخصية أوليمبياس ذاتها. ونظرا لأن الملك الصغير الإسكندر كان بالكاد في السادسة من عمره، كانت أوليمبياس تسير الشئون، التي بدأت بمقتل أريدايوس وزوجته حفيدة فيليب الثاني من زوجته الإليرية أوداتا. ويروى أن أوليمبياس كانت أيضا وراء مقتل مائة من أنصار كاساندروس بن أنتيباتروس، ومقتل أشقاء كاساندروس، الذين كانوا خصوما مؤكدين لغريمة أبيهم. وفي 315 أجبرت أوليمبياس على الاستسلام لكاساندروس هذا ذاته، وماتت بعد ذلك بفترة وجيزة.
وفقا للتقدير القائل بأن أوليمبياس كانت تبلغ من العمر 16 أو 17 سنة عند زواجها بفيليب، تكون قد ناهزت 70 سنة أثناء جهودها نيابة عن حفيدها. وتقدم لنا هذه المعلومة فكرة ثاقبة عن طبيعتها وشخصيتها؛ إذ كانت في كامل قواها البدنية والعقلية، وقد شحذتها لا شك طبيعة الحياة في إبيروس ومقدونيا وكذلك نضالها للحفاظ على حياتها وحياة ولديها وجعلهما مرشحين مناسبين للخلافة كما في حالة الإسكندر، أو لزواج مهم كما في حالة كليوباترا.
ومن الجائز تماما أن معتقداتها الدينية قوت إحساسها بالنفوذ. وتبين الإشارات التي يوردها بلوتارخس إلى أوليمبياس أنها كانت، كحال نساء كثيرات في «هذه المنطقة»، من أتباع الديانتين الأورفية والديونيسية في آن واحد. ولو تذكرنا أن الشاعر يوربيديس استلهم مأساته «الباخوسيات» من الأحداث التي جرت أثناء إقامته في مقدونيا، فربما يؤكد هذا عموما صحة ارتباط أوليمبياس بالطقوس الديونيسية. يمضي بلوتارخس قائلا: «كان من عادة أوليمبياس أن تدخل في حالات من التلبس وتسلم نفسها لإلهام الإله بانفعال أشد جموحا حتى من الآخرين، وكانت تشرك في المواكب الاحتفالية أعدادا من الثعابين الكبيرة التي روضتها بيدها؛ ما كان يرعب المتفرجين الذكور» (الإسكندر، الكتاب الثاني). ويقال إن فيليب اكتشف ذات ليلة أحد هذه الثعابين ممددا بجوار أوليمبياس وهي نائمة (الإسكندر، الكتاب الثاني). ويروى أنها أخبرت الإسكندر بحقيقة حملها به ، فقالت: «إن صاعقة أصابت رحمها، فتلا ذلك وميض يخطف الأبصار خرج من نار عظيمة.»
والمنطقي أنها كانت تفخر بانتماء أسرتها إلى نيوبتوليموس ابن آخيل، وتذكر ابنها وبنتها بنسبهما البطولي. ومن الجائز تماما أنها أكدت هذه المعلومات وغيرها كتابيا حتى وهي بعيدة عن ولديها، وتدل الروايات التي تتحدث عن تراسلها والإسكندر فيما كان في حملته؛ على تلقيها تعليما رسميا لمبادئ القراءة والكتابة، وهو شيء يمكن توقعه بين أفراد الأسر الحاكمة في إبيروس ومقدونيا اللتين تطبعتا بالثقافة الإغريقية.
خلاصة القول أن أوليمبياس كانت شخصية قوية في أسرتين مالكتين. وبما أن نساء الأسرة المالكة المقدونية لم يكن يشغلن مناصب سلطة رسمية معترفا بها، كان نفوذها مستمدا من سماتها ومناقبها الشخصية. ومن الجائز تماما أن النساء كن يمارسن سلطة أكبر، حتى وإن لم يشغلن منصبا رسميا، خصوصا في خضم الاضطراب الذي تمخض عن مقتل فيليب، ثم عند رحيل الإسكندر إلى الشرق، وفي الفوضى التي وقعت في أعقاب موته. كان العالمان السياسيان اللذان عاشت فيهما أوليمبياس وكليوباترا يتيحان فرصا غير عادية؛ إذ تركت كليوباترا كوصية على عرش مولوسيا عند رحيل زوجها لشن حملة منكوبة في إيطاليا، واستمرت في السلطة عندما مات أثناء تلك المغامرة. واكتسبت كليوباترا أيضا أهمية إضافية بعد موت زوجها كزوجة محتملة لأحد خلفاء الإسكندر، لكن لم يعش أي من الأزواج المحتملين طويلا ليتزوجها.
لم تطلب أوليمبياس كزوجة، بل فتح الصراع على العرش المقدوني بابا لنشاطها ما دامت رغبتها قوية في الاحتفاظ بالحكم في ذرية فيليب. ونجحت كما رأينا في القضاء على جميع المرشحين المحتملين سوى ابن الإسكندر، وربما كان مقتلها سنة 315 هو الذي قلل فرص البقاء أمام الإسكندر الرابع. أيقن كثير من الخلفاء الذين كانوا قد وطدوا دعائم سلطتهم الفعلية آنذاك في أجزاء من الإمبراطورية بحلول 310 / 309؛ أن بوسعهم اتخاذ اللقب وولاية الملك حتى من دون نسب أرغي؛ ونتيجة لهذا الإدراك قضي على كل من تبقى من ذرية فيليب والإسكندر. وفي 306 / 305 اتخذ اثنان من الخلفاء لقب بازيليوس أو ملك، وتلاهما آخرون. لكن بنات فيليب ظللن فترة من الزمن يتمتعن بأهمية كزوجات محتملات لخلفاء الإسكندر. كانت الهالة المحيطة بالنساء الأرغيات ما زالت قوية، ومن المعقول أن نتفق مع ما قالته إليزابيث كارني من أن «حياة أوليمبياس السياسية الطويلة كانت أشبه بمرحلة فاصلة؛ إذ كادت نساء الأسرة المالكة المقدونية قبلها يكن عديمات الحضور، وأما بعدها في الفترة الهلنستية، فتولت الملكات غالبا أدوارا مهمة كمشاركات في الحكم ووصيات على العرش» (1987: 38). (2-1) تأثير أوليمبياس على الإسكندر
لعل من الأهمية بمكان أن نتذكر أنه مع ما يقال من أن زيارة الإسكندر إلى عرافة آمون-زيوس في واحة سيوة المصرية كشفت له عن هوية أبيه الحقيقة، وهو تحديدا زيوس، فإن اسم أمه لم يكن قط محل شك. وبالإضافة إلى أن أوليمبياس واهبة الحياة لابنها، فإنها مكنته من البقاء خلال مرحلة الطفولة، ومن أن يصير الخليفة المرجح لفيليب الثاني. وجاء جزء من هبتها هذه من خلال أفعالها المدروسة، ومن ذلك ربما عملها على إضعاف القدرات العقلية والبدنية لابن فيليب الآخر الوحيد. وهناك جوانب أخرى من هبتها فرضتها الظروف عليها؛ ومن ثم على ابنها.
من هذه الظروف أنه سيقضي غالبية سنوات عمره الأولى في بيئة المجمع الملكي المشحونة بالتوترات في بيلا. لا توجد وسيلة لقياس مقدار ما أدركه الإسكندر من ذلك الجو المشحون في شبابه، لكنه لم يكن منفصلا عن الآخرين من أفراد البيت المالك. ولا نرجح أن أوليمبياس سكتت على ذلك الوضع. ونتبين حقيقة أنها كانت هي والإسكندر ضالعين سويا في منافسة مستمرة من حياتهما في المنفى الاختياري بعيدا عن بيلا إبان زواج فيليب بكليوباترا؛ فمع أن الزواج كان إحدى أدوات الدبلوماسية، لم تكن زوجات الملك مضطرات إلى أن يبقين مخلوقات سلبيات، ولم يكن الموقف يشجع كذلك على السلبية.
أتاح الترعرع في القصر في بيلا فرصا مهمة للإسكندر، كالاتصال بأترابه من أبناء النخبة، ومن ذلك غلمان الملك (صبيان بيوت النبلاء) والأسر التي لجأت إلى بيلا، كأسرة أرتبازوس، أحد مرازبة ملك فارس، الذي كانت ابنته براسين قريبة من عمر الإسكندر. كان القصر أيضا مكان إقامة الندوات التي تحضرها النخبة ومكان استقبال السفراء، وعلى الرغم من عدم مشاركة الإسكندر في هذه الفعاليات ريثما نضج، فلا بد من معرفته بأمرها ومن مشاركته فيها عندما كبر، وفوق ذلك صار على دراية بالأنشطة التي تمارس في وسط بيلا، وبمن يمارسونها.
عززت أوليمبياس نسب الإسكندر البطولي من خلال انتساب أسرتها إلى سلالة آخيل، مما يجعل ابنها وريث أعظم بطل في طروادة وبطل المستحيلات الإغريقي هرقل في آن واحد. وكان انتساب أمه إلى ديانة ديونيسيوس مصدر إلهام قويا آخر طوال حملته. ولنا أن نضيف، مطمئنين، إلى هذه العناصر تأثير أوليمبياس شبه المؤكد على التعليم الرسمي الذي تلقاه ابنها لمعرفة القراءة والكتابة وفهم العناصر الثقافية الإغريقة، التي كانت ذات شأن في إبيروس وفي مقدونيا على السواء.
نتيجة دور أوليمبياس الأمومي، لنا أن نتأكد من أن الإسكندر كان على بصيرة بنسبه البطولي، وببعض الصعوبات المتعلقة بدور الزواج، وبأن العالم الأرغي مفعم بالتنافس، وبأن الأصدقاء محل ترحيب لكنهم ليسوا موضع ثقة، وبأن وراثة الملك تتطلب يقظة عقلية مقرونة بمقدرة بدنية تتوجهما تشكيلة عظيمة من المهارات. كان يدين بفضل عظيم لأوليمبياس، وربما كان يخشاها بقدر ما كان يحتفي بحرصها على حياته.
الفصل الرابع
مجاورة اليونان
لم تكن اليونان غير واحد من جيران كثر مزعجين للمقدونيين، لكن الإغريق كان يمثلون مشكلات من نوع خاص، أبرزها طبيعتهم المتعددة؛ إذ اتخذت المجتمعات المحلية الصغيرة منذ العصر العتيق طابع الدول القومية المستقلة ذاتيا. وفي كل واحد من هذه المجتمعات المحلية، التي تسمى «بوليس» أو الدولة-المدينة، كانت الشواغل المشتركة تتغلب على المصالح الخاصة. كانت الآصرة بين الدولة-المدينة وأفرادها قوية؛ إذ كانت حاجات هؤلاء الأفراد ومصالحهم تنبع من العلاقة التي تجمعهم برقعة دولتهم الضيقة وتجمع بعضهم ببعض.
كان هدفهم الدافع جعل الدولة-المدينة مكتفية ذاتيا، وهي مهمة صعبة في اليونان بطبيعتها الجبلية؛ ومن ثم كان اجتياح أرض الدول-المدن المجاورة سبيلا طبيعيا إلى ذلك. وقد وضعت مؤخرا قائمة تعدد 1035 دولة-مدينة تنافست فيما بينها على مزيد من الأرض والنفوذ. ورأينا أن مقدونيا كانت تملك أرضا أحسن وموارد أوفر مما كانت تجود به اليونان، ومن ثم كان متوقعا من الدول الإغريقية، وخصوصا الشمالية، أن تقوم بمغامرات عبر نهر هالياكمون لتوسيع قاعدتها.
لكن الإغريق كانوا يضغطون على مقدونيا من اتجاهات أخرى أيضا؛ فمع ازدياد عدد السكان في القرنين التاسع والثامن، ضاقت الأرض المتاحة في غالبية جنوب اليونان بسكانها؛ فأدى البحث عن سبل لكسب العيش في أماكن أخرى إلى إقامة مستعمرات في بقاع نائية. وفي نهاية المطاف تناثرت الدول-المدن اليونانية على امتداد ساحل آسيا الصغرى الغربي وساحل البحر المتوسط، من شرقي إسبانيا إلى ساحل البحر الأسود الشرقي. تركز معظم أنشطة الاستعمار السابقة بالقرب من الديار، وذلك في شمال بحر إيجة، وخصوصا في شبه جزيرة خالكيذيكي، وحتى في محيط الخليج الثيرمي؛ فوجد المقدونيون دولا إغريقية مستقلة لا على بوابتهم الأمامية فحسب بل في عقر دارهم.
كان الإغريق يمثلون مشكلة من ناحية أخرى أيضا؛ إذ كانت عناصر الثقافة الإغريقية بثرائها المتزايد جذابة للآخرين. تبنى المقدونيون العناصر الهيلينية قبل عهدي فيليب والإسكندر، وأشرنا إلى أن معرفة الإسكندر الأول المباشرة بنجاح تشكيل الفلنكس الإغريقي في القرن الخامس ربما هي التي دفعته إلى إنشاء قوة «بيزهيتايروي» (بمعنى الصحابة المشاة). وكان أرخيلاوس يدعو أعيان الإغريق إلى عاصمته، مع مداومته على تضمين عناصر هيلينية في مملكته، بما في ذلك الألعاب الأوليمبية والمسابقات الدرامية على شرف زيوس وربات الفنون (آريانوس، الكتاب الأول، 11، 1). ولو كانت هذه التأثيرات عديدة وكبيرة، لكان بوسعها أن تطغى على ملامح طريقة الحياة المقدونية التقليدية.
أثرنا في الفصل الثاني القضايا المحيطة بمسألة الإثنية واللغة المقدونية، والاستنتاج العام نوعا ما الذي أوردناه هناك مفاده أن المقدونيين الذين وضعوا الأساس لمملكة فيليب والإسكندر كانت تربطهم صلة دم بجيرانهم الهنود-الأوروبيين في كل من تراقيا واليونان، فكانوا يتحدثون لغة قريبة أو ربما إحدى اللهجات الإغريقية كما ذهب بعض الباحثين. ومن ناحية أخرى فمن الواضح أن المؤسسات السياسية والاجتماعية كانت شديدة الاختلاف، وخصوصا في تاريخ المكدونيين الأبكر ، وأن ثقافة مقدونيا المادية تأثرت بعناصر أكثر بكثير من العناصر الإغريقية.
عندما بدأت الدولة الصغيرة، التي ستصبح المملكة الواسعة التي يحكمها فيليب الثاني والإسكندر الثالث، تتبلور في شريط ضيق من الأرض في بييريا وهيماثيا، يمتد لنحو ستين ميلا (نحو مائة كيلومتر) من الشمال إلى الجنوب في أوائل القرن السابع عشر؛ كان لزاما على المكدونيين تقبل المستوطنات الإغريقية وخصوصا القريبة منها إلى مركز المملكة، ونعني ميثوني وبدنا الواقعتين على الجانب الغربي للخليج الثيرمي، واللتين أسسهما إغريق من وابية قبل نهاية القرن الثامن. لم تكن هاتان المستوطنتان إلا اثنين من شواهد كثيرة على الوضع في اليونان في القرنين الثامن والسابع، الذي أجبر دولا كثيرة على إقامة «وطن بعيد» (بمعنى «أبويكيا» باللغة الإغريقية). تزامنت الزيادة السكانية مع إحياء السفر بحرا، الذي سبق أن اضمحل في مواجهة تفشي الدمار في أواخر العصر البرونزي. ربما كان المغامرون والتجار ومن يحتاجون إلى أرض لمحض الأغراض الزراعية يرجون النجاح في الإبحار إلى ما وراء مياه جنوبي بحر إيجة.
الخريطة 2: أهم المناطق والمواقع في المحيط الإغريقي.
كان خط بحر إيجة الساحلي الشمالي من أولى المناطق التي لفتت الانتباه، كما توجد محطة تجارية تعود إلى القرن التاسع اكتشفت في سيندوس وترتبط بإريتريا في جزيرة وابية. كانت الرغبة في الأرض، مقرونة بالبراعة في استغلال الفرص التجارية، قوية في تلك الجزيرة الضيقة. وفي القرن الثامن أسس الإريتريون مستوطنات في لسان شبه جزيرة خالكيذيكي الغربي، وأما جيرانهم في جزيرة وابية، وهم سكان خالكيذا، فكانوا منهمكين في إنشاء مستعمرات في لسانها الأوسط، وكان آخرون من جزيرة أندروس يستطلعون بحثا عن مواقع في شرقي شبه الجزيرة. وأبعد من ذلك في اتجاه الشرق، كان سكان جزيرة ثاسوس يعكفون على إنشاء مستوطنات جديدة لأنفسهم على ساحل البر الرئيس؛ ومن ثم كانت مياه بحر إيجة الشمالية آخذة في التحول إلى بحر إغريقي بالتزامن مع عمل المكدونيين على إنشاء مملكة لهم.
خرجت من رحم هذا التعايش ثلاث نتائج مهمة، والنتيجة الأهم هي معرفة كل واحد بثقافة الآخر. لم يكن بوسع المقدونيين تجاهل ميثوني ثم بدنا، الواقعتين في قلب مقدونيا، أو في النهاية المستوطنات الأبعد قليلا، ومع المعرفة ازداد احتمال التأثير الثقافي. في البداية كانت المستوطنات الإغريقية تمتاز بمزايا معينة، كالمعرفة بالسفر بحرا على سبيل المثال والاتصال بالثقافات القاصية التي كانت أكثر تقدما بكثير من الإغريق، وتيسر اكتساب هذه المهارات وغيرها بفعل العلاقة الوثيقة. علاوة على ذلك، كان الصراع على أراضي شمال بحر إيجة وموارده شيئا متوقعا. وقد اختيرت مواقع المستعمرات الإغريقية لكي تستغل المرافئ الجيدة لتيسير التبادل التجاري. ومع تحول المقدونيين أنفسهم إلى تجار أكثر نشاطا صار من المؤكد نشوب نزاعات من أجل السيطرة على المرافئ. وهناك نتيجة ثالثة ارتبطت بأصول المستعمرات باعتبار أنها تأسست على أيدي الدول الإغريقية الجنوبية العريقة. وهكذا كان الصراع مع دول-مدن جنوب اليونان ممكنا، وسيجر توقع حدوثه أرجل العالم الإيجي الأكبر على الأرجح.
التفاعل بين هاتين المستعمرتين؛ الإريتريين والأرغيين، مقياس لتأرجح السلطة بين اليونان ومقدونيا؛ فكلتا المستعمرتين كانت مركزا استيطانيا إغريقيا أثناء عهدي أمينتاس الأول والإسكندر الأول، لكن انفصالهما عن جنوب اليونان جعل منهما ملجأين مفيدين للقادة الإغريق الذين فقدوا الحظوة لدى مواطني دولهم؛ إذ منح الإسكندر الأول القائد الأثيني ثيميستوكليس حق اللجوء في بدنا في ستينيات القرن الخامس؛ مما يدل على الإشراف المقدوني على الدولة الإغريقية. لكن بحلول ثلاثينيات القرن الخامس، كانت السيطرة على بدنا قد انتقلت إلى أثينا، وبعد ذلك بنحو خمس عشرة سنة، نزلت قوة أثينية عند ميثوني وانطلقت منها للإغارة على الأراضي المقدونية المحيطة. وفي انعكاس آخر للأوضاع، شهدت سنة 410 استيلاء قوة أثينية متحالفة مع الملك المقدوني أرخيلاوس على بدنا التي سبق أن نالت استقلالها؛ إذ أعاد أرخيلاوس تأسيس بدنا كبلدة مقدونية تبعد عن الساحل بمسافة 2,5 ميل (4 كيلومترات). تبخرت المكاسب المقدونية خلال مختلف عقود التاريخ المقدوني من 399 إلى 395؛ فشرع فيليب الثاني في إعادة توطيد دعائم المملكة بالاستيلاء على بدنا سنة 357 وميثوني سنة 354، محولا بعد ذلك اهتمامه إلى الدول الإغريقية في المنطقة الغربية من شبه جزيرة خالكيذيكي.
قادت ضغوط مماثلة على الأرض وفرص التجارة الإغريق في اتجاهات أخرى؛ فمن كورنثة، التي تناقصت فيها الأرض الزراعية المتاحة وكان يوجد على بوابتها الأمامية خليج يمكن التحكم فيه، أبحر المستعمرون في خليج كورنثة ثم اتجهوا شمالا بمحاذاة الساحل الأدرياتي؛ حيث أسسوا مستوطنات طويلة الأمد في جزيرة كوركيرا وفي أبولونيا وإبيداموس على ساحل البر الرئيس بالقرب من أراضي الإليريين والإبيروسيين. بدأ تفاعل ثقافي لا يختلف عما كان يحدث في شمال غرب بحر إيجة في شمال شرق البحر الأدرياتي قبل زمن طويل من ضم إليريا وإبيروس إلى المملكة المقدونية الموسعة.
كان التأثير الإغريقي على مقدونيا أقرب كثيرا، فسلسلة جبال الأوليمب تفصل مقدونيا عن المحيط الإغريقي الجنوبي لكنها لا تمنع الوصول من الجنوب إلى الشمال. وحتى أثناء العصر البرونزي كانت تجلب إلى مقدونيا منتجات ميسينية؛ مما يشهد على التبادل التجاري والاتصال، إن لم يكن الاستيطان، كما هو الحال في موقع «سباتيس» على ممر بترا. وفيما يخص العصر الحديدي، تمخضت آيجي/فيرجينا المقدونية، المشهورة بمدافنها المترفة التي جاءت فيما بعد، عن شواهد على الاتصال بالعالم الإغريقي في زمن مبكر تعود بدايته إلى القرنين العاشر والتاسع، ربما عبر تيساليا ثانية. تمخض القرب الجغرافي عما هو أكثر من التفاعل الثقافي؛ إذ أسفر مثلا عن تحالفات كالتي شهدتها ثمانينيات القرن الرابع عندما كان العون التيسالي شديد الأهمية في جهود أمينتاس الثالث لاستعادة ملك مقدونيا. وكان يمكن لهذا القرب - بل حدث فعلا - أن أثار محاولات متبادلة من كلا جانبي جبال الأوليمب للهيمنة على أرض الإقليم الأضعف آنذاك أيا كان.
تساعد الجغرافيا أيضا على تفسير العلاقة بين مقدونيا واليونان في العقود الأولى من القرن الخامس، الذي صارت فيه مقدون لاعبا، ربما على غير رغبة منها، في توسع الإمبراطورية الفارسية؛ فأثناء حكم داريوس الأول (522-486)، وجه الفرس أنظارهم شمالا إلى أوروبا. وفي حوالي سنة 513، قاد داريوس جيشا عبر تراقيا؛ حيث دان له كثير من الناس؛ لكن لدى عبوره نهر الدانوب إلى أراضي سكيثيا، لم يلق نجاحا واضطر إلى أن يعود أدراجه عبر تراقيا . وبعد هذه الحملة بزمن ليس بطويل، عين ميجابازوس لإخضاع الخط الساحلي شمال بحر إيجة من بحر بروبونتيس إلى نهر سترايمون. ويروي هيرودوت خبر وفد مكون من سبعة من أكابر الفرس أرسلوا لمناقشة العلاقة بين مقدون وبلاد فارس؛ فخدع الإسكندر الأول، ابن أمينتاس الأول الحاذق، الرسل بأن أوعز إلى شابات مقدونيات - لم يكن في الحقيقة إلا ذكورا مقدونيين مردا مسلحين ويضعون خمرا ثقيلة - فلاطفن الفرس ثم قتلنهم. «تلك كانت نهاية الرسل الفرس إلى مقدون، ونهاية خدمهم أيضا؛ إذ اختفى الخدم والعربات وقدر عظيم من الأمتعة الفخمة، اختفت كلها معا» (الكتاب الخامس، 20). يصف هيرودوت أيضا الحرص في التستر على اختفاء الفرس ومقتنياتهم، بالإضافة إلى دفع مبلغ من المال إلى الفرس، وترتيب زواج أخت الإسكندر بالضابط الفارسي الذي كان يحقق في المسألة. على الرغم من أن مقدون على ما يبدو لم تضم رسميا إلى الدولة الفارسية، فإنها جرت إلى مجال رؤية داريوس.
وثقت الأحداث الجارية في المنطقة الساحلية شرق بحر إيجة الصلة بين الفرس ومقدونيا. قامت ثورة خطيرة سنة 499 في الجزء الذي سبق أن أخضعه الفرس من الدول الإغريقية في أربعينيات القرن السادس، وظل منذ ذلك الحين تحت سيطرة أحد مرازبة النظام الإداري الفارسي. كانت المفاجأة، أو ربما الغفلة، شديدة في الجانب الفارسي لدرجة أن تم الاستيلاء على العاصمة الفارسية في الأناضول سارديس، وإحراقها على أيدي ائتلاف من الدول الإغريقية في آسيا الصغرى الأيونية، بعون من دولتي أثينا وإريتريا الواقعتين في البر الرئيس. لكن في غضون خمس سنوات قمعت الثورة. لفتت محصلة ذلك انتباه الفرس من جديد إلى شمال بحر إيجة، فأكد القائد الفارسي ماردونيوس السيطرة على تراقيا ومقدونيا سنة 492 تمهيدا للانتقام من الدولتين الواقعتين في البر الرئيس، اللتين أمدتا الثورة في آسيا الصغرى بالسفن والجنود. كانت مقدونيا نقطة انطلاق مفيدة، كما بين هيرودوت في وصفه الحملة الضخمة المتأخرة التي خطط لها وقادها أحشويرش، ابن داريوس وخليفته؛ فأنشئت مخازن للحبوب في كل من تراقيا ومقدونيا، وعسكر الجيش الجرار المؤلف من نحو 250 ألف رجل بمحاذاة نهر أكسيوس بالقرب من سيندوس، ورسا الأسطول على ما يبدو في بدنا. وحتى لو لم يكن الملك المقدوني رسميا تابعا للإمبراطورية الفارسية، فلم يكن أمامه خيار في مسألة استخدام الفرس مملكته أثناء تجريد الحملة البرية والبحرية على اليونان سنة 480-479. وأما على الجانب الإغريقي فمن الجائز تماما أن الإغريق كانوا ينظرون إلى المقدونيين كمتواطئين عن رضا مع الفرس المرعبين.
ومع ذلك، فإن تصوير هيرودوت الإسكندر الأول كمتعاطف مع الإغريق (الكتاب الثامن، 140-143) ربما يجد دليلا ماديا يعضده في إمداده الأثينيين بالخشب قبل ذلك بسنتين أو ثلاث، لإنشاء أسطول قوامه 200 سفينة برهن على أهميته البالغة لتصدي الإغريق للجيش الفارسي. وتسجل النقوش التي تعود إلى عهدي بيرديكاس الثاني وأرخيلاوس اتفاقيات أبرمت فيما بعد بخصوص حصول الأثينيين على الخشب المقدوني. وكما رأينا فإن الخشب، الذي وصف بأنه الأعلى جودة في منطقة بحر إيجة والبحر الأسود، كان من بين موارد مقدونيا الأشد رواجا. كان الوصول إلى هذا المصدر من مصادر الخشب حيويا لأي دولة تريد امتلاك أسطول، وكان قرار الأثينيين في ظل تهيؤ بلاد فارس لشن هجوم عليهم هو إنشاء أسطول لمواجهة الشق البحري من القوة الفارسية، وهو ما كان يتطلب الحصول على الخشب المقدوني.
مع انسحاب الفرس من اليونان ومقدونيا، وارتباك الأوضاع في جنوب اليونان الذي تسبب فيه الغزو، تمكن الملك الإسكندر الأول المقدوني من توسيع حدود مملكته كثيرا كما سبق أن نوهنا في الفصل الثاني، وينسب إليه الفضل أيضا في تقوية الجيش المقدوني، الذي كان أداة لا غنى عنها في التوسع. اكتسب الإسكندر، بتوغله شرقا ضد التراقيين، ثروة معدنية قيمة استعمل بعضها آنذاك في ضرب النقود المقدونية. وفي هذه النقود الجيدة الصنعة، التي كان بعضها بحجم كبير، مؤشرات جيدة على المكانة التي بدأ الأرغيون يحققونها لا في المحيط الأصغر وهو شمال بحر إيجة فحسب، بل في مواجهة دول وممالك أخرى ذات شأن أبعد مسافة.
شكل 4-1: عملة نقدية تظهر الإسكندر الأول ممتطيا فرسا يخب، ومرتديا عباءة قصيرة، وعلى رأسه قبعة مجنحة، وحاملا رمحين في يده اليسرى، ويتبختر تحت الفرس كلب صيده. الآن في متحف العملات في أثينا. بإذن من د. آي توراتستوجلو .
غير أن الحاكم المقدوني لم يكن إلا إحدى الشخصيات الرئيسة، وفي غضون الجيلين التاليين حقق لاعب جديد في شرقي البحر المتوسط هيمنة تسببت في تغيير العلاقة بين مقدون واليونان وغلبة العداء عليها؛ فعلى الرغم من انسحاب الفرس من الأراضي الواقعة غرب بحر إيجة وشماله، ظلت الدول الإغريقية شمالي بحر إيجة تحت السيطرة الفارسية سنة 479. ولاستعادة حرية اليونان كلها، اجتمع ممثلون من 143 دولة في جزيرة ديلوس في أرخبيل كيكلادس سنة 477 لإنشاء حلف لهذا الغرض سيشارك جميع أعضائه في قراراته، أثناء جمعية سنوية تتمتع فيها كل دولة بصوت واحد. وستساهم الدول في هذا المشروع بتوفير السفن والرجال، أو بتقديم الأموال عوضا عن القوة البشرية والدعم البحري. وفرت أثينا جزءا كبيرا من الأسطول الذي أنشأته للتصدي للتهديد الفارسي، وتولت منصب الزعيم أو القائد الأعلى للعمليات التي يقررها الأعضاء بكامل هيئتهم. حدد الأثينيون أيضا المساهمات المطلوبة وعينوا مراقبين ماليين للإشراف على الخزانة التي أنشئت في حرم أبولو الآمن في ديلوس.
كانت أحلاف أكبر تضم الدول الإغريقية المستقلة قد سبقت هذا الحلف، وكانت في جوهرها تنتمي إلى صنفين عامين، فهي إما أحلاف لأغراض دينية مشتركة وإما أحلاف لمصالح عسكرية مشتركة. تمخض الاهتمام المشترك بصون حرم أبولو في دلفي عن قيام الحلف الأمفكتيوني الدلفي المؤلف من 12 دولة-مدينة. وكان الصنف الثاني من الأحلاف - وهو أحلاف الهجوم والدفاع المشترك - يجمع بين دول مستقلة توافق على أن تصادق من يصادق بقية أعضاء الحلف وتعادي من يعادون، وكان ممثلو الدول الأعضاء يجتمعون في مكان ثابت، وهو عموما أقوى دولة عضو، للتصويت على ما يلزم القيام به من أعمال. ونما الحلف البيلوبونيزي، الذي كانت إسبرطة القوة المحورية فيه، ليشمل معظم دول شبه جزيرة بيلوبونيز، بل اتسع أيضا في القرن الخامس متجاوزا ذلك إلى وسط اليونان. وينم مثل هذا التوسع عن طفرة متزايدة في قيام أحلاف أكبر ذات طموحات أكبر، وهذه الطموحات هي التي تبين أنها تشكل تهديدا أشد خطرا بكثير للمملكة المقدونية مما كانت تشكله المستعمرات الإغريقية فرادى قبل ذلك . وكان دور أثينا في تشكيل طبيعة الحلف الديلوسي ثم تحويرها من أهم شواغل الأرغيين.
حققت جهود الحلف نجاحا مدهشا، وبحلول أوائل ستينيات القرن الخامس انتصر أسطول الحلفاء في معركة بحرية كبرى في يوريميدون قبالة ساحل الأناضول الجنوبي؛ حيث ألحق هزيمة بالأسطول الفارسي/الفينيقي المؤلف من 200 سفينة. كانت السيطرة الفارسية في تراقيا ومضيق الهلسبونت وبحر إيجة قد بلغت نهايتها، غير أن الحلف لم يحل على الرغم من محاولة دول عديدة الانسحاب منه حالما تحقق هدفه. كان الحلف في نظر أثينا ثمينا من نواح أخرى عديدة، كخفارة البحار ضد القراصنة، وإعادة بناء المعابد التي دمرها الفرس، والاحتفاظ باتحاد كونفيدرالي تحسبا لأي عداءات مستقبلية مع بلاد فارس، وإقامة إمبراطورية تجارية بحرية في عموم بحر إيجة وعبر الهلسبونت. وابتداء من ستينيات القرن الخامس، وخصوصا تحت قيادة رجل الدولة الأثيني القائد بيريكليس، صار الحلف الديلوسي إمبراطورية أثينية متمحورة حول أثينا وتدار انطلاقا منها. ويسمى تأثير الحياة الأثينية وبريقها في ذلك الزمان عصرها الذهبي.
اتسعت عضوية الحلف، التي لم تعد طوعية وباتت تصان بالقوة، حتى بلغت نحو 300 دولة. ازدادت المصالح الأثينية في شمال بحر إيجة، التي سبق أن أسست في القرن السادس، مع اكتساب الوصول إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود أهمية حيوية لتأمين إمدادات الحبوب اللازمة لإطعام سكان الدولة الحضريين الذين صار عددهم آنذاك هائلا. كان الوصول إلى تلك المياه القاصية يتطلب أسطولا كبيرا من السفن المتينة؛ ومن ثم استمرار إمكانية الحصول على موارد الخشب المقدونية. وهكذا كان الحضور القوي في شمال بحر إيجة من أولويات أثينا، وتحقق ذلك باستقطاب بعض الدول العريقة إلى الشبكة الإمبريالية، وكذلك بإقامة مستعمرات جديدة مثل أمفيبوليس في وادي نهر سترايمون الأدنى، بالقرب من موقع «الطرق التسع» الذي سبق أن أخضعه الإسكندر الأول للسيطرة المقدونية. وكان كل من أمفيبوليس و«الطرق التسع» يحتل موضعا مثاليا للاستفادة من التجارة أدنى نهر سترايمون وبمحاذاة الساحل بين شمال اليونان والهلسبونت. وعلى ما يبدو، كانت ثمة تسوية توافقية بين أثينا وملك مقدونيا أثناء حكم الإسكندر الأول. لكن التنافس على البقاء كان محتملا، ولم تسر الأمور على ما يرام مع بيرديكاس خليفة الإسكندر؛ فعزوف أثينا عن استقطاب أعضاء جدد إلى الحلف في الأرض الواقعة غرب أكسيوس أفسح المجال لتوسع نشط في الأراضي المقدونية بعد 431.
لكن تكتيكا مختلفا استخدم ضد بيرديكاس؛ إذ أيد الأثينيون ادعاء أحد إخوته، وهو فيليب، أحقيته في وراثة العرش. وفي 432، استولى ائتلاف بين أثينا وأخي بيرديكاس ودرداس ملك إيليميا على موقع ثيرما في شمال غرب خالكيذيكي من بيرديكاس. كان المرجو أن يؤدي نزاع داخلي، بالإضافة إلى وجود تهديد قريب من بيلا، إلى إبقاء أعين بيرديكاس مصوبة نحو مملكته وإلهائه عن أنشطة الأثينيين على أطراف تلك المملكة.
كان أمام بيرديكاس ملاذ يلوذ به؛ إذ لما كان على دراية بالانقسامات بين الدول الإغريقية، شجع من هم معروفون بعدائهم للأنشطة الأثينية في شمال بحر إيجة على القيام بعمل بالأصالة عن أنفسهم أو بالنيابة عن المستعمرات السابقة. رد الكورنثيون على التهديد الأثيني لمستعمرتهم بوتيديا بمتطوعين من كورنثة ومرتزقة من أجزاء أخرى من شبه جزيرة بيلوبونيز، قوامهم 1600 فرد مشاة ثقيلة و400 جندي خفيف كما روى ثوكيديدس (الكتاب الأول، 60)، وأضاف بيرديكاس 200 فارس، وانضم إلى القوة رجال من دول أخرى أيضا. إن الدور الذي لعبته هزيمة هذه القوات في الأحداث التي جرت في مقدون على مدى ما تبقى من القرن الخامس ليس بالضئيل؛ ففي رواية ثوكيديدس عن نشوب الحرب البيلوبونيزية (431-404)، كان حنق الكورنثيين على تلك الأحداث، بما فيها حصار الأثينيين بوتيديا، عود الثقاب الذي أوقد إعلان الحرب، فمزق هذا الصراع مقدون على الرغم من عدم مشاركتها رسميا فيه.
لم ينجح فيليب والأثينيون المتواطئون معه في إطاحة أخيه بيرديكاس، الذي ظل يحكم حتى 413، لكن من المستبعد أنها كانت فترة حكم مريحة؛ لأن مملكته كانت في أغلب الأحوال محاطة بدول متحاربة، ما جعل مقدون تتحالف في البداية مع أحد الجانبين وفيما بعد مع الجانب الآخر. ففي مرحلة مبكرة من الحرب البيلوبونيزية، كانت مقدون حليفا لأثينا، لكن عندما ضمت أثينا ميثوني (وكانت داخل الأراضي المقدونية) إلى إمبراطوريتها، استنجد بيرديكاس بالإسبرطيين، فعرض عليهم الدعم ونظم لقوة إسبرطية مرورا آمنا للزحف عبر أرض مملكته، وبمجرد أن وصل الإسبرطيون إلى هناك، أمدهم بيرديكاس بفرقة مقدونية، وزحفت القوة المشتركة لإجبار الزعيم اللنكستي على إعادة إقليمه مقدونيا العليا إلى التحالف مع بيرديكاس. لم يتحقق الشيء الكثير قبل أن يعزم القائد الإسبرطي أمره على شن حملة ضد خالكيذيكي وتراقيا، وكلتاهما منطقة تربطها صلات قوية بالأثينيين، فانتقل إليهما آنذاك مسرح الحرب. لاقت الأنشطة الإسبرطية نجاحا عظيما في شمال بحر إيجة، وعندما عاد الإسبرطيون إلى مقدونيا، جرت محاولة ثانية لتأديب اللنكستيين، فدحر الجيش المشترك على أيدي الإليريين، الذين كان اللنكستيون قد تحالفوا معهم. ولا نستغرب أن التحالف انهار بحلول سنة 423، فتحالف بيرديكاس من جديد مع الأثينيين؛ إذ قدم الدعم العسكري لقائد أثيني سنة 422. والحقيقة أن نيكولاس هاموند قال إن «مقدون كانت آنذاك من كل النواحي العملية عضوا في الإمبراطورية الأثينية» (هاموند وجريفيث، 1979: 133)؛ ففي الفترة من حوالي 424 إلى 416 لم يضرب بيرديكاس نقودا، وهذه من سمات الدول التي كانت ذات يوم مستقلة وأخضعت للسيطرة الأثينية.
تمخضت معاهدة سلام أبرمت بين الأثينيين والإسبرطيين سنة 421 عن استراحة من الحملات العسكرية، وإن لم تحل القضايا التي تسببت في إعلان الحرب. ومع احتدام تلك القضايا من جديد، وجهت الأطراف الإغريقية في الحرب أنظارها من جديد صوب الشمال، فأضافت أثينا المزيد من الدول إلى سيطرتها، وحاول البيلوبونيزيون استقطاب المزيد من الحلفاء إلى صفهم، وأقنع بيرديكاس بالانضمام إلى صفوف البيلوبونيزيين؛ فكان فرض الحصار على الساحل المقدوني لعرقلة التجارة أحد الردود الأثينية على خيانة الملك المقدوني. وجاء رد آخر في البحث في أماكن أخرى عن الموارد المهمة وتحويل انتباه البيلوبونيزيين عن بحر إيجة؛ فانطلقت حملة بحرية كبيرة إلى صقلية سنة 415، وهو مشروع جدد الآصرة بين مقدون وأثينا؛ إذ عاد المقدونيون إلى إمداد أثينا بالخشب عندما بدأ الفرس يعاونون إسبرطة في إنشاء قوة بحرية. علاوة على ذلك، كان بيرديكاس سنة 414 يخدم مع قائد أثيني في هجوم على أمفيبوليس. وبعد أن توفي في السنة التالية ورث ابنه أرخيلاوس أعباء ثقيلة منها الحفاظ على استقلال مملكة موحدة، والتعامل مع الحرب الدائرة بين الدول الإغريقية.
شاء القدر أن تتفادى مقدون التورط بعمق أثناء ما تبقى من تلك الحرب. ربما كان استحضار أرخيلاوس الفوضى التي سادت إبان حكم أبيه هو الذي ألهمه تحصين حدود مملكته وربط مختلف أجزائها بشبكة طرق. أما على الصعيد الخارجي فكادت صلته باليونان تقتصر على أثينا؛ فكما سبق أن ذكرنا، ففي سنة 410 تم الاستيلاء على بلدة بدنا الساحلية بحصار مقدوني وأثيني مشترك، ثم نقلت المستوطنة إلى الداخل وأعيد تأسيسها كبلدة مقدونية، وبعد ذلك بثلاث سنوات منح أرخيلاوس وأولاده وضعية الضيوف-الأصدقاء لأثينا، وهو وضع شرفي لكنه يسبغ على صاحبه منزلة تشبه منزلة السفير. كان التأثير الأثيني يتجلى أيضا في اهتمامات أرخيلاوس الثقافية؛ إذ صارت بيلا تحت إشرافه عاصمة تثير الإعجاب يدعى إليها ضيوف مهمون. لكن من التطورات الأخرى الجديرة بالاهتمام تأسيس مهرجان أوليمبي في مقدونيا.
لم يكن هذا التشجيع للثقافة الإغريقية وتقديم العون لأفراد من الإغريق بالشيء الجديد، ففي زمن مبكر يعود إلى منتصف القرن السادس، استقر الطاغية الأثيني بيسيستراتوس في المنطقة الشمالية الغربية من خالكيذيكي أثناء إحدى فترات نفيه القسري عن أثينا، واكتسب أثناء وجوده هناك صداقة مقدونيا، وعرض على ابنه وخليفته هيبياس مأوى في مقدونيا عندما نفي من أثينا (هيرودوت، الكتاب الخامس، 96). وتصف روايات هيرودوت عن الإسكندر الأول في «تاريخ هيرودوت» انجذابا مماثلا إلى أثينا؛ إذ يروي المؤرخ أن الإسكندر رغب في التنافس في الألعاب الأوليمبية، وسمح له بالمشاركة في سباق العدو. ويختتم هيرودوت ملحوظته المقتضبة بقوله «حصل على المركز الأول مناصفة» (الكتاب الخامس، 22). على الرغم من تشكيك كثير من الباحثين المحدثين في دقة الرواية، فلا خلاف على أن فيليب الثاني أرسل فرقا مقدونية إلى أوليمبيا أثناء حكمه. ربما برع الإسكندر الأول شأنه شأن فيليب في إظهار تعاطفه الهيليني وانجذابه المزعوم ، وخصوصا في أعقاب فظائع الزحف الفارسي في مملكته وفي أراضي الدول الإغريقية. وكما سنرى فإن محبة الإغريق كانت أداة مفيدة لكل من فيليب الثاني والإسكندر الثالث.
لدى اغتيال أرخيلاوس سنة 399، قوض الضعف المقدوني، مقرونا بالصراع السريع الوتيرة بين الدول الإغريقية على الهيمنة، قدرة بيرديكاس على البقاء وجهود أرخيلاوس لإحلال الاستقرار. وبعد هزيمة أثينا سنة 404 وتفكيك الإمبراطورية الأثينية، تمخضت دورة من المحاولات التي بذلتها الدول الكبرى لإعادة إنشاء إمبراطورية إغريقية، عن اضطرابات عارمة صاحبها تدمير الحياة والممتلكات؛ مما أضعف في نهاية المطاف أساس الحياة الإغريقية الكلاسيكية، وهو وضع عضد جهود فيليب الثاني. لكن في العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع، كاد الصراع ينهي وجود مقدونيا المستقل.
كانت إسبرطة وطيبة وتيساليا وأثينا (بعد استعادتها استقلالها وقوتها) أهم المتنافسات على الهيمنة الإمبريالية؛ فاتخذت إسبرطة زمام المبادرة مبكرا بصفتها رأس الحلف البيلوبونيزي المنتصر في محاولاتها القضاء على الهيمنة الأثينية. كانت السياسات الإسبرطية موجهة في جوهرها إلى تحويل الحلفاء/الرعايا الأثينيين السابقين إلى حلفاء/رعايا إسبرطيين. بالإضافة إلى ذلك، لم تظهر إسبرطة إلا قليلا من التقدير لحلفائها أثناء الحرب البيلوبونيزية. استقطب أمينتاس الثالث، الذي خلف أرخيلاوس في نهاية المطاف، إلى المجال الإسبرطي من خلال البلدات الساحلية الإشكالية المطلة على الخليج الثيرمي؛ إذ مع توطد جهود الكونفيدرالية المستقلة في شمال بحر إيجة، استقطبت البلدات والدول الصغيرة في تلك المنطقة إلى تحالف خالكيذيكي متسع مركزه في أولينثوس. رفضت مطالبة أمينتاس بإعادة البلدات الواقعة في مقدونيا الدنيا إلى سيادته؛ ومن ثم اتجه إلى إسبرطة طلبا للعون. نجحت الحرب على التحالف، على الأقل مؤقتا، في هدم روابطه واستعادة مقدونيا الدنيا إلى أمينتاس.
كانت تيساليا أقرب إلى الديار من إسبرطة، وكان شخص يدعى جيسون من دولة فيراي قد وطد نفسه قائدا أعلى، أو «تاجوس»، لتيساليا ومعها إبيروس. ويبدو أن هذا المنصب كان يستخدم عند الحاجة إلى جيوش المناطق الأربع جميعها، وكان التاجوس قائد هذا الجيش الموحد للفترة اللازمة. ومع صيرورة الحرب ضرورة تمارس طوال العام، اكتسب التاجوس التيسالي مكانة أرفع ودائمة. ربما أثار جيش جيسون الهائل - المؤلف من 20 ألف فرد مشاة ثقيلة و8 آلاف فارس و6 آلاف مرتزق فضلا عن المناوشين - إعجاب أمينتاس بدرجة كافية لإقامة تحالف معه، لكن لدى مقتل جيسون سنة 370، انقلب توازن القوى؛ إذ تدخل الإسكندر الثاني، خليفة أمينتاس، في تيساليا مستوليا على مركزين كبيرين فيها. ثم انسحب الإسكندر بدافع عدم ثقته على ما يبدو في القوة المقدونية لدى ظهور جيش طيبي في أحد هذين المركزين، وواجه مشكلات مع أبناء الأسرة الحاكمة في الديار، وكانت خطيرة بما يكفي لتؤدي إلى مقتله سنة 367؛ مما أطلق بدوره العنان لتحالفات معقدة جديدة؛ إذ كما نوهنا في الفصل الثالث تحالفت أمه مع بطليموس، وهو مقدوني بارز ولعله كان أحد أبناء أمينتاس الثاني. ربما كانت الآصرة بينهما مدفوعة بالغرام أو الطموح إلى النفوذ الشخصي أو جزءا من مؤامرة أجنبية، وكل ما نعرفه أن الثنائي التجأ إلى أثينا طلبا للدعم.
كان كل من أثينا وطيبة عضوا في حلف يثير الإعجاب؛ إذ كانت طيبة قد أسيئت معاملتها في نهاية الحرب البيلوبونيزية على يدي حليفتها إسبرطة، فتمخض فرض حامية إسبرطية عليها سنة 382 عن غضب وتصميم كافيين لتحرير المدينة في 379-378، وتمخضت الحرية بدورها عن قوة أعظم تجلت في الانتصار على الإسبرطيين سنة 371، فدفع ذلك النجاح طيبة إلى طموحات أعظم من بينها مقدونيا؛ فأبرم القائد الطيبي العبقري بيلوبيداس تحالفا مع مقدونيا، ولضمان احترام المعاهدة، أخذ رهائن ضمانا لحسن سلوك الأسرة المالكة المقدونية، ومن أبرز هؤلاء الرهائن فيليب أخو الملك الحاكم. مكث فيليب كرهينة في طيبة نحو ثلاث سنوات في أوج القوة الطيبية التي كان إصلاح تشكيل المشاة الثقيلة عنصرا حاسم الأهمية فيها.
كانت أثينا بالطبع لاعبا في التنافس ذاته على الإمبراطورية؛ فإذ أسست الدولة حلفا بحريا ثانيا يملك سيطرة أوسع على قوى أثينا القسرية، استقطبت تحت مظلة واحدة أعضاء سابقين في الحلف الديلوسي وأعضاء جددا أيضا، وأبرزهم طيبة. كان غرضها القضاء على السيطرة الإسبرطية على الدول-المدن الأخرى للسماح لهذه الدول باستعادة حريتها وحكمها الذاتي. ولا بد أن الأثينيين كانوا يقدرون قيمة التحالف مع أمينتاس الثالث الذي أبرم في منتصف سبعينيات القرن الرابع؛ لأنه أتاح الوصول إلى ذلك المصدر الحيوي للخشب. جدد ذلك التحالف في منتصف الستينيات عندما انتقل ملك مقدونيا إلى بيرديكاس الثالث ابن أمينتاس الثاني، وإن كانت الصداقة بين أثينا ومقدون قد تدهورت في غضون بضع سنوات.
كان على بيرديكاس إذن أن يكون جاهزا للتعامل مع أحلاف خالكيذيكي وتيساليا وطيبة وأثينا القوية، إما بما يكفي من قوة مسلحة وإما بالدبلوماسية الذكية. لم يكن بوسعه كذلك تجاهل التهديدات المستمرة النابعة من الجيران الشماليين والغربيين والشرقيين، لكنه لم يعش طويلا بما يكفي لمواجهة كل أعداء مقدونيا؛ إذ أدى غزو إليري سنة 360 أو 359 إلى مقتله في ساحة المعركة ومعه 4 آلاف من جنوده. (1) علاقات فيليب مع الإغريق
كان فيليب مرشحا قويا للملك الأرغي لدى موت أخيه بيرديكاس، ورغم أن جمعية الجيش نادت به ملكا ورغم براعته في التخلص من المنافسين الآخرين على السلطة، فقد ورث ضمن ما ورث المجموعة المعقدة من العلاقات مع العالم الإغريقي التي اقتفينا أثر تطورها من أوائل القرن الخامس إلى منتصف القرن الرابع.
نعرف أن فيليب حقق نجاحا غير عادي، لا في تأمين ملك مقدون والاحتفاظ به فحسب، بل في توسيع حدوده من البحر الأدرياتي إلى البحر الأسود. صار العالم الإغريقي خاضعا لهيمنة فيليب، وضم رسميا إلى مقدون في حرب فيليب ضد الفرس قبل موته. يبرهن تحقيق هذه الإنجازات على فهم عميق لأساليب جيرانه من جهة الجنوب، وقدرة على توظيف الأدوات والظروف والطموحات الإغريقية لمصلحة مقدونيا.
في إطار التعامل مع هؤلاء الجيران، لا يدهشنا أن اهتمام فيليب الأول تركز على الأراضي الملاصقة لمقدونيا (تيساليا وشبه جزيرة خالكيذيكي)، وأنه انتهج نهجا مألوفة لدى الدول الإغريقية؛ أي استخدام القوة العسكرية والتحالف. فبعد الاستيلاء على بوتيديا سنة 356 على سبيل المثال، سلمها إلى الحلف الخالكيذيكي الذي كان آنذاك متحالفا معه. لكن كما رأينا كان لدى دول إغريقية أخرى اهتمام قوي بهذه المناطق، وكانت دول وسط اليونان تصوب أعينها إلى تيساليا، وكان الأثينيون ينظرون إلى خالكيذيكي وأجزاء أخرى من شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من أن فيليب تحالف اسميا مع أثينا بموجب معاهدة، فإنه استعاد ميثوني من السيطرة الأثينية سنة 354. ولدى اكتسابه موطئ قدم على الأقل خارج الحدود المقدونية الحالية، استخدم أداة أخرى من أدوات الدول الإغريقية بتأسيسه مستوطنات جديدة أو إعادة تأسيسه بلدات قائمة كمراكز مقدونية؛ ففي تيساليا صارت البلدة التي تسيطر على المدخل الشمالي الاستراتيجي المؤدي إلى الممر في تيمبي مستوطنة مقدونية، وأما كرينيدس - التي تتمتع بقيمة عظيمة بفضل ثروتها المعدنية، وكذا موقعها شرق خالكيذيكي مباشرة - فأعيد تأسيسها باسم فيليبوي، وأقحم فيليب نفسه في المناطق التي يدرك قيمة هيكلها الدستوري لخدمة أغراضه، فاستحوذ في تساليا على منصب التاجوس، أو القائد العسكري الأعلى.
كان لمعرفته بالوضع في اليونان معرفة مباشرة قيمة عظيمة في تشكيل الاستجابة المقدونية لذلك الوضع. كان من أهم أولويات فيليب توسيع الجيش وإعادة تنظيمه، وعلى الرغم من ضرورة استخدامه قواته ضد مجموعة متنوعة من الشعوب بتكتيكاتها المتباينة، كان قد رأى بعينه نجاح الإصلاحات الطيبية أثناء احتجازه ثلاث سنوات هناك. ومن المرجح كثيرا أنه رأى المشاة الثقيلة الإغريقية وقادتهم أثناء العمليات التي جرت قرب الأراضي المقدونية أو حتى داخلها في شبابه إبان حكم أبيه الملك أمينتاس. لا شك أن إصلاحات فيليب العسكرية تجاوزت التطورات الطيبية، ومع ذلك انبنت على أساس سبق أن مكن الطيبيين من هزيمة الجيش الإسبرطي الذي كان يوما لا يقهر، ومن بناء حلف واسع يضم أعضاء يغطون معظم العالم الإغريقي الجنوبي.
شكل 4-2: شمال تيساليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
لا شك أن فيليب كان يثمن روح إبرام المعاهدات في اليونان؛ فمثلما تحالفت أثينا مع الميسينيين سنة 355 على الرغم من تحالفها منذ 369 مع عدو الميسينيين القديم اللدود إسبرطة، كانت علاقات فيليب تتقلب بالمثل تبعا لما تمليه المصلحة. ومن ناحية أخرى، كان يثمن قيمة الاتفاقيات المتعددة الدول، ووظفها في سيطرته المتنامية على الدول الإغريقية. أقيمت اتحادات كونفيدرالية من خلال معاهدات ثنائية في القرن الرابع، وعندما جمعت شبكة المعاهدات بين عدد كبير من الدول، برزت آليات لاتخاذ القرارات وتنفيذها بأسلوب فيدرالي، كمجلس لممثلي الدول الحليفة. كانت الدولة المسئولة عن الاتحاد الكونفيدرالي تقوم مقام الزعيم، أو القائد الأعلى، لتنسيق ما يلزم من دفاع مشترك وهجوم لكل الأعضاء. وازدادت مقدون نشاطا أكثر فأكثر في عالم التحالفات هذا؛ فلعقود طويلة، كما نوهنا، أبرم الملوك المقدونيون اتفاقات ثنائية تتسم بالطبيعة المائعة ذاتها كحال الاتفاقات المبرمة بين الدول الإغريقية. كان بيرديكاس بارعا في مثل هذه المناورات أثناء فترة الحرب البيلوبونيزية. تعامل الملوك المقدونيون أيضا مع الأحلاف، وخصوصا الحلف الخالكيذيكي القريب منهم، والاتحاد الإمبريالي الأثيني الذي شكل باسم الحلف الديلوسي. اتفق فيليب وأثينا في سنته الأولى على العرش على شروط معاهدة، وفي السنة التالية أعيد تأكيد التحالف بين مقدون ودولة لاريسا التيسالية، وبعدها بثلاث سنوات تحالف مع الحلف الخالكيذيكي، وسنة 346 أرسل اثنين من كبار ضباطه - أنتيباتروس وبارمنيون - إلى أثينا لتقديم شروط اتفاقية سلام ثنائية، فجرى تصويت في المجلس الأثيني أسفر عن إقرار هذه الاتفاقية باسم «سلام فيلوكراتيس».
كانت بجانب هذه الأحلاف عصب نظمت لرعاية الأحرام الدينية المهمة، وتسمى أمفكتيونيات أو أحلاف تضم الدول المحيطة (وتسمى بالإغريقية «أمفي») بأرض الحرم. وكانت أصول الأمفكتيونية الدلفية في البر الرئيس اليوناني تعود إلى الفترة العتيقة، وبحلول القرن الرابع اتسعت عضويتها إلى دول لم تكن بحال مجاورة لحرم أبولو، كإسبرطة وأثينا. وعلى الرغم من أن العمل العدواني لم يكن الوظيفة الرئيسة لأي أمفكتيونية، فربما كانت حماية الحرم المقدس تقتضيه. بالإضافة إلى تلك العصب المبكرة، أسفر تطور جديد في ثمانينيات القرن الرابع عن استحداث شكل آخر من أشكال الاتحاد يناضل من أجل الاستقلال الذاتي لدول فرادى لا اتحاد فيدرالي؛ سعيا إلى تحقيق السلام المشترك، ولا تعود أصوله إلى اليونان بل إلى بلاد فارس، التي عادت آنذاك كلاعب فاعل في الشئون الإغريقية؛ إذ قرر الملك أرتحششتا الثاني بنود «سلام الملك» سنة 387 لإنهاء الحرب المستمرة، التي كانت آثارها تمتد عادة فتصل إلى آسيا الصغرى.
يرى الملك أرتحششتا أن المدن الواقعة في آسيا وجزيرتي كلازوميناي وقبرص هي وحدها التي تتبعه. وسوى ذلك ستكون كل المدن الإغريقية الأخرى، صغيرها وكبيرها، مستقلة ذاتيا. ولو رفض أحد قبول هذا السلام، فسأشن عليه حربا أنا ومن يشاركونني الهدف ذاته، برا وبحرا، بالسفن والمال على السواء.
كما عقدت مؤتمرات دورية (375 و371 و366 و362) لمناقشة شروط هذا السلام وإعادة التأكيد عليها.
تورط فيليب في شئون الأمفكتيونية الدلفية مع استعار الحرب حول أرض أبولو، من منتصف خمسينيات ذلك القرن إلى منتصف أربعينياته. نتجت هذه الحرب، المعروفة باسم الحرب المقدسة، عن أفعال دولة عضو وهي فوكيس، عندما فرض عليها مجلس الأمفكتيونية غرامة لإقدامها على زراعة جزء من الأرض المقدسة. وبدلا من أن تدفع فوكيس الغرامة عارضتها وحشدت جيشا يضم في صفوفه مرتزقة، واستولت على معظم الثروة المحفوظة في دلفي. وفي ظل توافر الثروة والقوة الكبيرتين، نقلت فوكيس غضبها إلى أرض دول أخرى في الأمفكتيونية على مدى السنوات التسع التالية. ولوضع حد لقوة فوكيس، دعت الأمفكتيونية الدلفية قوة خارجية للإتيان بجيشها إلى وسط أثينا لتحقيق هذا الهدف؛ فنجح فيليب وجيشه في هزيمة فوكيس سنة 346، وكسروا قاعدة قوتها، وذهبت عضويتها في الأمفكتيونية الدلفية إلى فيليب، وبفضل هذا المنصب ترأس فيليب دورة الألعاب البيثية في دلفي في السنة ذاتها.
جلبت هيمنة مقدون المتزايدة في المجال الإغريقي دعم الكثيرين ممن رأوا فيليب حلا لصراع لا ينتهي بين الدول الإغريقية والأحلاف. من أوضح الأمثلة على ذلك الأثيني إيسقراط الذي عاش 98 سنة (من 436 إلى 338). كانت الحرب هي الحالة الدائمة في تلك السنوات، ووجهت نتائجها جهود إيسقراط نحو البحث عن السلام، فكتب خطبا إلى عدد من الزعماء الأقوياء حاضا إياهم على التوفيق بين الدول الإغريقية، ثم توجيه عدوانهم إلى الخارج؛ أي إلى الفرس. وفي خطبته المعنونة «فيليبوس»، حض فيليب على محاولة التوفيق بين الدول الكبرى: أرجوس وإسبرطة وطيبة وأثينا؛ لأن توحيد هذه القوى سيقلل كثيرا صعوبة ضم الدول الصغرى. ويمضي إيسقراط قائلا إنه ينبغي عندئذ على فيليب توسيع نشاطه في آسيا ضد الفرس البرابرة؛ ليكتسب أرضا يستحبها الإغريق ويقضي على عدو خطير. كان لفيليب أصدقاء آخرون؛ إذ تورد قائمة بأسماء «الخونة» قدمها رجل الدولة الأثيني ديموستيني، الذي لم يغير موقفه الناقد لفيليب، أشخاصا من تيساليا وأركاديا وأرجوس وإليس وميسيني وسيكيون وكورنثة وميجارا وطيبة ووابية وأثينا (ديموستيني، «عن التاج» الكتاب الثامن عشر، 295). وقد اجتذبت هؤلاء «الخونة» وغيرهم إلى فيليب نجاحاته، وكذلك سماته الشخصية. روى الخطيب ورجل الدولة الأثيني إيسخينيس أن مواطنه ديموستيني وصف فيليب بأنه «دينوتاتوس» أثناء عودة جماعة المبعوثين الأثينيين، التي كان كلاهما عضوا فيها، من مؤتمر مع الملك المقدوني («عن السفارة» الكتاب الثاني، 41). وعلى نحو ما بينا آنفا، فإن لكلمة «دينوس» الإغريقية معاني عدة، فمنها الإيجابي كالرائع أو المدهش أو القوي، ومنها المستحسن كالحاذق أو الماهر، لكن معناها الغالب هو المهيب أو الرهيب أو الخطير. وقد يستشعر المرء كل هذه السمات في موقف واحد في حضور مثل هذا الشخص.
برزت تحذيرات من الثقة في فيليب وشعبه المقدوني؛ إذ تحدث ديموستيني بصراحة ودون مواربة إلى الأثينيين في خطبته الفيليبية الأولى، معلنا أن لامبالاتهم تذهب قدرتهم على منع فيليب من جر المزيد من الإغريق إلى أحبولته؛ فبينما كان الأثينيون يراقبون دون حراك، كان فيليب يكد بلا توقف. وفي خطبته الفيليبية الثالثة، كرر تحذيره من أن الأثينيين يكتفون بموقف المتفرج على الرجل وهو يكبر ويكبر.
في نهاية المطاف وعى هذه التحذيرات أناس في دول أخرى؛ إذ لم يكن «حلفاء» فيليب الإغريق على يقين من قيمة انخراطه في الشئون الإغريقية، وبحلول أواخر أربعينيات ذلك القرن، أقنع «حلفاؤه» الأثينيون «حلفاءه» الطيبيين في الأمفكتيونية بتوحيد صفوفهما ضد فيليب وشعبه المقدوني، وانضم إغريق آخرون أيضا إلى هذا الحلف الجديد، كالوابيين والآخيين والكورنثيين والميغاريين والإبيدوروسيين من شبه جزيرة بيلوبونيز ووسط اليونان، والليفكاديين والكوركيريين والأكارنانيين والأمبراسيين من الغرب. واستقطب فيليب تيساليا إلى صفه، وعندما قامت حرب أخرى وشقت صف أعضاء الأمفكتيونية الدلفية، عين فيليب قائدا للقوات المشتركة ضد البغاة. كان وجود الجيش المقدوني في وسط اليونان سببا كافيا للدول المعادية لفيليب لكي تعد العدة للحرب . وكما رأينا فقد التقت أعداد شبه متساوية (ما بين 30 ألفا و35 ألفا على كلا الجانبين) في خيرونية في صيف 338. قاد فيليب الجناح الأيمن في مواجهة المشاة الثقيلة الأثينية، وأما الإسكندر فاحتل موقعه للتعامل مع المشاة الطيبية وكان على رأس الجناح الأيسر، فحقق المقدونيون نصرا تاما.
اتجه فيليب إلى إبرام معاهدات جديدة، في البداية على أساس تسويات ثنائية مع الدول الإغريقية منفردة، ومن الجائز تماما أنه استعان بأرسطو وتلاميذ مدرسته في رسم الحدود الرسمية بين الدول كخطوة على طريق الحد من النزاعات. ثم تكشف محاولة لإقامة سلام مشترك في عموم اليونان عن تثمين فيليب هذا الشكل الحديث من أشكال التحالف؛ إذ دعا إلى مؤتمر للممثلين من كل أنحاء اليونان في كورنثة سنة 337، مقدما شروطا لتحالف هجومي ودفاعي على السواء بين الدول الإغريقية ومقدون، على أن يتولى فيليب قيادة القوات التي يقدمها كل الأعضاء في حالة الحرب، لكنه لن يكون عضوا في مجلس الحلفاء الذي كان مسئولا عن اتخاذ القرارات بحيث يقوم بدور المحكمة العليا. وفيما عدا شئون الحلف، ستكون كل الدول مستقلة، وأي دولة عضو تنتهك شروط التحالف تعاقب، ويعاقب أي فرد يحدث خللا في سير العمل في دولته أو يعمل مرتزقا لمصلحة الملك الفارسي. تمخضت صياغة هذه الشروط عن قيام الحلف الكورنثي الذي كان لوجوده قيمة كبيرة من نواح كثيرة، إحداها تيسير خطط فيليب الوليدة لشن حملة ضد الفرس. ولو افترضنا مطمئنين أنه قرأ خطبة إيسقراط الموجهة إليه، لجاز لنا وصف حملته آنذاك بأنها حملة بالنيابة عن الإغريق.
خلاصة القول أن الارتباط المديد بين مقدون واليونان مكن فيليب من تحدث الإغريقية بأكثر من مجرد الألفاظ؛ إذ صار يفهم دقائق المعاهدات والتحالفات، ويدرك أهمية التقاليد من قبيل الألعاب الأوليمبية، أو الممارسات من قبيل الاعتبار الديني لحرم أبولو في دلفي. كان يعرف الصراع داخل الدول الإغريقية وفيما بينها حق المعرفة، وتمكن من استغلاله. وما من شك في أن درايته بمختلف أوضاع البلدات الواقعة تحت سيطرته وبالمدن المطالبة باستقلالها، حتى الواقعة منها في أرضه، أثرت على تفضيله الصنف الأول. ومثلما أعاد بيرديكاس تأسيس مدينة بدنا الإغريقية كبلدة تحت هيمنة المقدونيين، أعاد فيليب تنظيم كرينيدس لتصير «فيليبوي»؛ أي مدينة فيليب. كانت الأحلاف، ولا سيما الأحلاف الإغريقية، مثار إزعاج للمقدونيين، وهو ما كان أسلاف فيليب يعرفونه تمام المعرفة؛ لكنها كانت ضرورية، أولا في إنشاء المملكة المقدونية المتأخرة، وثانيا في وضع حد للحرب المستمرة بين الائتلافات الأكبر التي تضم الدول الإغريقية. والواضح أن فيليب كان يقدر جيش المشاة الثقيلة الإغريقي واستند إليه في بناء جيشه، ومع نجاح جهوده في تراقيا أدرك شخصيا أن فارس تمثل مشكلة للمناطق الواقعة في شمال بحر إيجة وغربه. كان أبوه قد أيد الطيبيين في عونهم الذي قدموه للمرازبة الغربيين ضد ملك الفرس آنذاك، ويبدو أن فيليب كانت له تعاملات مع شخص يدعى هيرمياس أنشأ مملكة صغيرة في شبه جزيرة ترواس (المنطقة الشمالية الغربية من الأناضول حول موقع طروادة)، وكذلك مع بيكسوداروس، حاكم جزء من كاريا في جنوب الأناضول. وكانت لهذه الاتصالات دلالة ثقافية وعسكرية عند المقدونيين. (2) التأثيرات الثقافية
كان الإغريق والمقدونيون جيرانا منذ ثلاثة قرون ونصف قرن على الأقل قبل حكم فيليب الثاني، وكانت العلاقة، على نحو ما بينا، في العادة تنافسا عدائيا على السيطرة على الأرض والوصول إلى الموارد. لكن صاحبت ذلك الصراع معرفة كل منهما بثقافة الآخر، وكانت هاتان الثقافتان في المراحل الأولى من التفاعل مختلفتين اختلافا ملحوظا في نواح كثيرة، إن لم يكن في كل النواحي. وبمرور الوقت ازدادت أوجه الشبه، خصوصا في الدين واللغة والعمارة والفنون والأعراف الثقافية. وبما أن الثقافة الإغريقية كانت الأكثر تطورا من بين الاثنتين، كان تأثيرها على مقدونيا بحلول العصر العتيق (حوالي 750-500) هو الغالب.
نوهنا إلى أن زيوس وهرقل كانا الشخصيتين الإلهيتين والبطوليتين الرئيستين عند السلالة الأرغية، وقد ضاع تفسير هذه الآصرة في غياهب الأصول الأرغية، ولا يلزم أن نقبل حكاية رحيل ثلاثة إخوة من أرجوس لكي ندرك فهم الأرغيين أنفسهم صلات نسبهم؛ والمهم هو التماثل مع الفكر الإغريقي الذي ينشأ عن هذا الفهم. علاوة على ذلك، ضمت آلهة هيلينية أخرى بمرور الزمن إلى المهرجانات المقدونية؛ إذ حلت معابد أواخر القرن الرابع التي كرست للربة ديميتر محل منشأتي ميغارون (الميغارون وحدة معمارية تتألف من رواق ذي أعمدة، وغرفة رئيسة بها مجمرة، وفي الغالب غرفة ثالثة في الأمام أو الخلف) تعودان إلى القرن السادس ومرتبطتان بتلك الربة. وتكشف الرسومات، التي تمخضت عنها مدافن آيجي/فيرجينا، عن وجود بيرسيفوني ابنة ديميتر في المعين الفني المقدوني، بينما اكتشف مذبح لديونيسيوس بين أطلال المسرح الكائن في الموقع ذاته. ولا شك أن ديونيسيوس موضوع مفضل في الفسيفسائيات التي ترقى إلى أواخر القرن الرابع وما بعدها. وصور الإله بان على قطع النقد التي ضربها أمينتاس الثاني، وصور أبولو على قطع النقد التي ضربها فيليب الثاني. وافتتحت المناسبة التي قتل فيها فيليب باستعراض لتماثيل مجموعة الآلهة الإغريقية، مع إضافة تمثال ثالث عشر لفيليب.
أقيم ذلك الاحتفال في مسرح العاصمة القديمة آيجي الذي أنشئ في عهد أرخيلاوس لإقامة المهرجانات على شرف زيوس وربات الفنون، والمسابقات، والعروض المسرحية. ومع أنه كان أصغر من المسارح الإغريقية، إلا أنه أقيم على طرازها. علاوة على ذلك، دعي الكتاب المسرحيون الإغريق إلى مقدونيا، ومنهم الشاعر الأثيني يوربيديس الذي ألف «الباخوسيات» (موجودة) و«أرخيلاوس» (غير موجودة)، ومات في مقدونيا. كان كاتب مسرحي أثيني آخر، وهو أجاثون، ضيفا على الحاكم الأرغي ذاته، ومثله كان الشاعر الكورالي تيموثيوس الملطي والشاعر الملحمي خويريلوس الساموسي.
ومع هذا كانت المسابقات على الطراز الأوليمبي التي استحدثها أرخيلاوس في ديون من الاحتفالات الأخرى الشائعة في عموم العالم الإغريقي. ويكشف العنصر الدرامي في التنافس عن انفتاح المقدونيين على الثقافة الهيلينية، ويتجلى تقدير مشترك للبراعة الرياضية في قيم كلا المجتمعين. وناقشنا التأكيد المقدوني على التدريب البدني في الفصلين الثاني والثالث، وخصوصا لأبناء السلالة الملكية الذين كان يتوقع منهم قيادة الجيش المقدوني بالقدوة. وتبرهن الرواية التي تتحدث عن مشاركة الإسكندر الأول في الألعاب الأوليمبية الإغريقية، سواء أصحت أم لم تصح، على لياقته الشخصية من واقع النتيجة؛ إذ حصل على المركز الأول مناصفة في سباق العدو.
من الممكن طبعا أن نفهم هذه الاقتراضات كدعاية - مفادها: «نحن المقدونيين نشبهكم بحق أيها الإغريق» - أو كجهود لتمدين شعب بدائي بل همجي أيضا. لكن رسوخ هذه الاقتراضات وازديادها قوة وعددا حجة مضادة لهذه الاستنتاجات؛ فكما أن الجسم البيولوجي يلفظ العضو المزروع فيه الغريب عن تكوينه، كذلك سيلفظ الجسم الثقافي العادات الأجنبية غير المتوافقة معه.
صار استخدام الألفبائية الإغريقية العرف المتبع في لغة المملكة المكتوبة، ولندرة الأدلة فيما يخص لغة المقدونيين المنطوقة، لا يمكن حسم مسألة علاقتها بالإغريقية. ومن ناحية أخرى، توجد أدلة أكثر فيما يخص لغتهم المكتوبة؛ إذ وصلت إلينا نقوش سجلت الاتفاقيات المبرمة بين المقدونيين والإغريق، وخصوصا الأثينيين، وإن كان مصدر هذه النقوش الدول الإغريقية التي كانت طرفا في هذه الاتفاقيات، وربما صيغت النسخ التي كتبت بالمقدونية صياغة مختلفة تماما. وتوحي الأنواع الأخرى من النقوش التي وصلت إلينا بأن الحال لم يكن كذلك؛ إذ تسجل 47 لوحة تذكارية استخرجت من مدافن آيجي/فيرجينا ونسبت إلى النصف الثاني من القرن الرابع أسماء المتوفين وغالبيتها إغريقية. وكما فسر الباحث الذي نقب عن الألواح، فإن تاريخ الوفاة حوالي سنة 330 يوحي بأن تاريخ ميلاد كثير من هؤلاء المتوفين وقع في العقد 370-360 تقريبا. ويوحي اشتمال اسم مركب من اسم الأب أو الجد الأعلى في معظم شواهد القبور بأن تاريخها يعود إلى حوالي سنة 410-400 فيما يخص الأسماء الثانية المسجلة. ولا ينتمي جميع الأشخاص المسجلين على اللوحات التذكارية، ولا حتى غالبيتهم، إلى نبلاء مقدونيا، بمعنى أنهم من عامة المقدونيين، ولا شك أن آيجي/فيرجينا كانت عاصمة المملكة الأصلية؛ ومن ثم ربما كان استخدام أسماء إغريقية بديلة ممارسة متبعة في هذا المكان بعينه فقط. ومع ذلك فهذا الاستنتاج تنفيه النقوش المستمدة من بيرويا في منطقة بيرميون؛ إذ كتبت هذه النقوش - وتشمل أسماء أيضا - بالألفبائية الإغريقية. ويجب أن نعترف بعدم إمكانية أن يكون الإليريون أو غيرهم من الشعوب المجاورة في الشمال أو الغرب أو الشرق وفروا ألفبائية بديلة، وأن اليونان كانت الخيار الوحيد. لكن ما نريد قوله إنه كما في حالة الآلهة الهيلينيين، وجدت الألفبائية الإغريقية مرضية، وصار استخدامها هو القاعدة في النقوش المقدونية، الرسمية منها والشخصية.
شكل 4-3: مخطط المسرح الذي اغتيل فيه فيليب سنة 336 قبل الميلاد في فيرجينا. تشير الأرقام الرومانية من
I
إلى
IX
إلى القطاعات التسعة التي تشتمل عليها قاعة المسرح، ويمثل القطاع 5 أوسطها. والمستطيل الموجود في وسط الأوركسترا حجر كان يقوم عليه المذبح ذات يوم. بإذن من صندوق الإيرادات الآثارية التابع لوزارة الثقافة اليونانية، أثينا.
كانت المعرفة الإغريقية أيضا تحظى باحترام؛ إذ خططت بيلا على هيئة شبكة متعامدة من الشوارع، وهو التخطيط المرتبط بالإغريقي هيبوداموس، وتضمنت المسارح - وإن كانت أقل حجما من النماذج الإغريقية - خصائص مماثلة للأبنية الإغريقية، وكان الرسام الإغريقي زيوكس ضيفا على الملك أرخيلاوس، وتوحي أشكال الرسومات التي وصلت إلينا في آيجي بالملامح التي تنسب إلى هذا الفنان الذي لم يكتب لأعماله الإغريقية البقاء، ومنها الظل والتجريب بالألوان وبالمنظور ومحاولة التعبير عن الانفعالات. كانت هناك أنواع أخرى من المعرفة يمثلها إغريق آخرون استقطبوا إلى خدمة الحكام، مثل يومينس الكاردي الذي عمل كمدير للسجلات المقدونية، ونيارخوس الكريتي العارف بالبحار. وظف هؤلاء، ويقينا استغلوا، لكن مهاراتهم كانت ضرورية لجهود من عملوا في خدمتهم. وهكذا ساهمت المهارات والأشخاص في تشكيل الحياة المقدونية، وسيكشف أحد الأمثلة البارزة عن درجة التفاعل التي تحققت خلال عهدي أمينتاس الثالث وابنه الثالث فيليب الثاني. (3) علاقة خاصة
سار خلفاء أرخيلاوس على خطاه في دعوة الزوار الإغريق المعروفين والنافعين إلى بيلا، فأوجد أمينتاس الثالث صلة دامت خلال معظم عهده وعهدي فيليب الثاني والإسكندر الثالث، عندما جلب نيقوماخوس وزوجته فايستس الأسطاغيرية إلى عاصمته. كانت أسطاغيرا، الواقعة شمال شرق خالكيذيكي، قد استعمرت أصلا في العصر العتيق على يد قوم من جزيرة أندروس قبالة ساحل أتيكا الجنوبي، وبمرور الوقت انضم إغريق من مناطق أخرى إلى هؤلاء المستوطنين الأصليين. وقد اجتذبها موقعها إلى تحالفات أكبر سبق أن ناقشناها (الحلف الديلوسي والحلف البيلوبونيزي والحلف الخالكيذيكي)، ومع التوسع المقدوني شرقا صارت هدفا للملوك الأرغيين.
يوصف نيقوماخوس بأنه طبيب الملك وصديقه في آن واحد؛ ومن ثم تفسر ممارسته الطب على ما يبدو رحيله إلى مقدونيا مع فايستس وابنهما الصغير أرسطو (المولود سنة 384). وتشير الروايات التاريخية إلى موت كلا الأبوين وأرسطو كان لا يزال طفلا صغيرا، فانتقل إلى وصاية قريب له يسمى بروكسينوس. وليس من الواضح ما إن كان أرسطو مكث في بيلا أم عاد إلى أسطاغيرا لدى موت أبويه. ثم رحل إلى أثينا في عامه الثامن عشر للدراسة في أكاديمية أفلاطون، ومكث فيها 20 سنة. وتكشف كتابات أرسطو اللاحقة تأثير الفكر الأفلاطوني، وجاء تأثير آخر من الخطيب إيسقراط، الذي رأيناه يلتمس من فيليب المساعدة على إحلال السلام في اليونان.
ويمكن تعليل قراره الرحيل عن أثينا سنة 348 / 347 بحدثين، أولهما موت أفلاطون وما تلاه من الاعتراف بابن أخته إسبوزيبوس خليفة له، وتصاعد المشاعر المناهضة للمقدونيين بعد استيلاء فيليب على أولينثوس، وكانت حليفا مهما لأثينا في شبه جزيرة خالكيذيكي. ومن الجائز تماما أن علاقات أرسطو السابقة بمدينة بيلا جعلت الانسحاب من أثينا خطوة منطقية، فأمضى السنوات الثلاث التالية في شمال غرب آسيا الصغرى؛ حيث كان زميل دراسته هيرمياس قد أنشأ مملكة صغيرة في شبه جزيرة ترواس أثناء الصراعات بين المرازبة الغربيين وشاه فارس. كان ثمة تلاميذ آخرون لأفلاطون يعيشون في أتارنيوس في الوقت نفسه وشكلوا دائرة صغيرة من المثقفين، وهو شيء سيتحول يوما بعد يوم إلى ممارسة يداوم عليها الحكام بعد موت الإسكندر الثالث. كانت العلاقات التي جمعت الفلاسفة بهيرمياس وثيقة على ما يبدو؛ إذ كان الحاكم منجذبا لآراء أفلاطون، ويمكن تصور تلاميذ أفلاطون وهم يسيرون على خطى معلمهم الذي كان يقدم المشورة لحاكم سرقوسة. وكانت هناك مودة شخصية في حالة أرسطو تتضح من زواج أرسطو ببثياس، ابنة أخت هيرمياس وابنته بالتبني.
شكل 4-4: تمثال حديث لأرسطو في موطنه أسطاغيرا. صورة بعدسة السيد تي فورينوس.
قال بعضهم، وتحديدا أنطون-هيرمان كراوست، إن صلة أرسطو بهيرمياس ارتبطت بدور أرسطو كعميل ومخبر لفيليب؛ إذ كانت مملكة هيرمياس الصغيرة تحتل مكانا استراتيجيا لشن اجتياح مقدوني للأقاليم الشمالية الغربية التابعة للإمبراطورية الفارسية. والحقيقة أن بيلا كانت تضم بين سكانها أرتبازوس، مرزبان فريجيا في الأناضول، الذي ثار على الشاه وهزم، فسكنها بداية من سنة 353 أو 352، وظل مع أسرته في مقدونيا لنحو عشر سنين.
لكن أرسطو رحل بعد ذلك بثلاث سنوات إلى ميتيلين في جزيرة ليسبوس، ربما داخل نطاق نفوذ هيرمياس، وارتبطت دراسات أرسطو في علم الأحياء بهذه الفترة من حياته. ثم رحل مجددا بعد سنتين عائدا إلى بيلا هذه المرة؛ إذ تقول الروايات التاريخية إن فيليب استدعاه لتعليم ابنه الإسكندر. ويروي بلوتارخس أن فيليب:
أرسل في طلب أرسطو، أشهر فلاسفة زمانه وأكثرهم علما ... كان أرسطو من أبناء أسطاغيرا، التي دمرها فيليب نفسه، ثم أعاد إسكانها ورد إليها جميع مواطنيها الذين استعبدوا أو نفوا من أرضهم ... وأعطى أرسطو وتلاميذه معبد حوريات الماء بالقرب من ميزا كمكان يدرسون فيه ويتحاورون ... وفي اعتقادي أن أرسطو هو الذي فعل أكثر من كل من سواه ليغرس في الإسكندر اهتمامه بفن الشفاء وبالفلسفة ... كان يعتبر الإلياذة دليلا لفن الحرب، واصطحب معه في حملاته نسخة منها مذيلة بشروح أرسطو. (الإسكندر، الكتابان السابع والثامن)
لا يقتصر الخلاف بين الباحثين على طبيعة هذا التعليم، بل يطول حتى دقة وصف أرسطو بأنه معلم الإسكندر. وربما تعزز صحة هذا الوصف قائمة كتابات أرسطو، التي ضمت كتابا بعنوان «عن المستعمرات»، وآخر بعنوان «عن الملكية» يزعم أنه ألفهما خصوصا للإسكندر، وربما تعززه كذلك سجلات خطابات أرسطو التي أرسلها إلى فيليب وإلى الإسكندر (أربعة كتب)، وإلى أوليمبياس (كتاب واحد)، وإلى هفايستيون (كتاب واحد)، وإلى أنتيباتروس (تسعة كتب)، وهو آخر من جاء ذكر اسمه من معاوني فيليب الأعظم نفوذا، والذي عينه أرسطو كمنفذ لوصيته. ارتبط أرسطو ارتباطا وثيقا بأهم الشخصيات في بيلا في أواخر أربعينيات القرن الرابع، واستند ذلك الارتباط إلى أساس بعينه، وربما أسس متعددة.
ينقل ديوجانس اللايرتي في تأريخه لحياة أرسطو، الذي كتبه على الراجح في القرن الثالث بعد الميلاد، عن الفيلسوف اعتقاده أن الحكيم يقع في الغرام ويشارك في السياسة، بل فوق ذلك أيضا يتزوج ويعيش في بلاط الملوك (سير مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). فلا نستغرب اشتغال الفيلسوف بتعليم الآخرين أثناء عيشه في بلاط الملك في ضوء أنشطة الحكماء الآخرين. ويدل حماس الملوك الأرغيين المتصاعد تجاه الثقافة الإغريقية ومعرفتهم بها يقينا على قيمة تعليم ورثة العرش المحتملين العلوم الإغريقية. وربما استندت دعوة فيليب أرسطو إلى معرفة شخصية بين الرجلين تعود قديما إلى فترة شبابهما، عندما كان أرسطو يعيش في بيلا مع والديه، وحديثا إلى اتصالاتهما الثنائية مع هيرمياس ملك أتارنيوس.
لا نعرف إلا قليلا عن طبيعة طريقة تعليم أرسطو، سواء في مقدونيا أم في مدرسته فيما بعد. ويعطينا ديوجانس اللايرتي فكرة في هذا الشأن بإيراده ما يحدده الفيلسوف من سمات ضرورية للتعليم السليم، وهي الموهبة الطبيعية والدراسة والممارسة المستمرة (سير مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). ويقول الكاتب المتأخر أيضا إن أرسطو كان يعلم تلاميذه الحديث عن أطروحة محددة بالإضافة إلى ممارسة القدرة الخطابية. ومن واقع كمية أعمال أرسطو المكتوبة (يعدد ديوجانس 400 عمل كأعمال أصلية)، يمكننا القول مطمئنين إنه كان يدرب تلاميذه أيضا على الكتابة. ومن الجائز تماما أن البحث العلمي كان عنصرا آخر من عناصر هذا التعليم، هذا لو صحت القصة التي تقول إن الإسكندر أمر صيادي الحيوانات والطيور والأسماك المقدونيين بتقديم معلومات عما شاهدوه أو اصطادوه. يمكن إضافة سمة أخرى من سمات طريقة أرسطو في التعليم على أساس طبيعة المدرسة التي أسسها في أثينا في منتصف الثلاثينيات؛ إذ كان اكتساب المعرفة شأنا مدرسيا من حيث المنهج الأكاديمي وفيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية. كانت المدرسة الواقعة في بستان مكرس لأبولو ليكيوس تحتوي أيضا على جمنازيوم، ومبنى يضم مكانا للمحاضرات ومجموعات الكتب والخرائط والمقتنيات، ومكان لتناول الطعام. ومن الجائز تماما أن التقليد الذي اتبعه أرسطو بتعليم عدد من الشباب في ميزا كان إرهاصة للممارسات التي اتبعت في الليسيوم في أثينا.
حالت حياة الإسكندر دون انصرافه إلى التعليم بحلول سنة 340، التي عمل فيها كوصي على عرش أبيه. ولا أحد يعرف على وجه الضبط أين عاش أرسطو بين عامي 340 و335، وربما عاد إلى أسطاغيرا، لكنه عاد إلى أثينا بحلول سنة 335 لتأسيس مدرسته التي أسلفنا الحديث عنها. قد لا تكون مصادفة أن عودته جاءت إبان خضوع أثينا للإسكندر؛ إذ كانت طيبة قد استولي عليها مؤخرا وأبيدت بعد ثورتها على الهيمنة المقدونية، وكان الأثينيون يخشون انتقاما مماثلا، لكن جرى التعامل مع أثينا دبلوماسيا من خلال معاهدة، لا بانتقام عسكري. ظل أرسطو في أثينا حتى 323، وعندها رحل إلى خالكيذا في جزيرة وابية المجاورة. ومرة أخرى، ربما كان الدافع إلى ذلك صلته بمقدون؛ إذ كان ذلك بعد موت الإسكندر واستدعاء وصيه على العرش أنتيباتروس إلى آسيا؛ فالشخص الذي تربطه علاقات قوية بأعداء أثينا التقليديين هؤلاء يحق له كل الحق أن يخشى على حياته. وتروي المصادر المتأخرة أن أرسطو كتب قبل موته بفترة قصيرة إلى أنتيباتروس عن خطر العيش في أثينا لو كان المرء أجنبيا، وسيتضح هذا بوجه خاص في موقف أرسطو بعد أن مات الإسكندر وكان أنتيباتروس على ما يفترض في طريقه إلى الشرق. وليست مفاجأة كبيرة أن نعلم أن المجلس الأثيني صوت لمصلحة الحرب ضد مقدون لدى علمه بموت الإسكندر؛ إذ توافق تحالف جديد أقيم مع أيتوليا وسيكيون وتيساليا وشمال غرب بيوتيا وميسينيا وأرجوس وأجزاء من جزيرة وابية، على تأمين حرية الإغريق. وبعد أن حقق هذا الائتلاف نجاحا أوليا، هزم سنة 322 بعد عودة 10 آلاف محارب مخضرم مع القائد المقدوني كراتيروس. ولا شك أن أرسطو كان حكيما في رحيله عن أثينا، وقد مات متأثرا بمرضه في خالكيذا سنة 322.
شكل 4-5: موقع نمفايون في ميزا. بإذن من د. إي كفاليدو، متحف الآثار في سالونيك.
خلاصة القول أن ارتباط أرسطو بمقدونيا يكشف عن العديد من سمات الثقافة المقدونية، على الأقل ثقافة بيلا الأرغية. تباطأ استقطاب إغريق بارزين إلى مقدونيا منذ حكم الإسكندر الأول إلى حكم الملك أرخيلاوس، لكن لم يتوقف أثناء حكم أمينتاس الثالث المضطرب، فوجدت في الطبيب نيقوماخوس الأسطاغيري، الذي رحل إلى بيلا مع زوجته وابنه الصغير أرسطو، خبرة ملائمة تماما لمملكة في حرب دائمة. انتهى هذا الارتباط بموت نيقوماخوس وفايستس في سن مبكرة نسبيا، علما أنه لا يوجد ما ينم عن فعل جنائي. ومع أن أرسطو لم يواصل إقامته في مقدونيا، فإنه عاد إليها بعد سنواته العشرين التي قضاها كتلميذ في أكاديمية أفلاطون في أثينا. التفسير المعتاد لعودة أرسطو سنة 343 / 342 هو تعليم الإسكندر الثالث، ومع أن دوره كمعلم محل شك من بعض الباحثين المحدثين، يتضح اهتمامه بالتعليم من تأسيسه مدرسة له في أثينا سنة 335. ومن الجائز تماما أن مسئوليات أخرى أسندت إلى هذا الفيلسوف؛ إذ عاش كما نوهنا في مركز مملكة أتارنيوس الصغيرة في الأناضول من 348 / 347 إلى 345 / 343، وعاش على مدى السنتين التاليتين في جزيرة ليسبوس قبالة ساحل الأناضول. ومن المهم أن ننوه إلى اهتمام فيليب ذاته بأتارنيوس مع ازدياد نشاط الملك المقدوني في بحر بروبونتيس والبحر الأسود، وهما الحدود الشمالية للإمبراطورية الفارسية. وخلال هذه الفترة الزمنية ذاتها، سكن مرزبان فارسي متمرد من الأناضول العاصمة المقدونية بأسرته.
كان أرسطو لدى عودته إلى أثينا في وضع يسمح له بمساعدة فيليب في شروط تسوية الشئون الإغريقية في أعقاب الانتصار المقدوني في خيرونية؛ إذ يقال كما أسلفنا أن أرسطو وتلاميذه رسموا حدود الدول الإغريقية دولة دولة. وربما تشير عودته أيضا إلى صلات دائمة بالملك الأرغي الحاكم الإسكندر الثالث. ولدى مقتل فيليب ارتأى أعداء مقدون التقليديون أن الوضع سانح للثورة على السيطرة المقدونية، وباستدراج الإسكندر للتعامل مع الأعداء الشماليين، تمرد العديد من الدول الإغريقية، فسارع الإسكندر لدى عودته إلى التعامل مع المتمردين، فأبيدت طيبة، وأما أثينا فعوملت بسخاء مع مساهمتها في الثورة الطيبية، وربما حدث هذا بشفاعة أرسطو.
الحجة التي تقول بدور أرسطو كمبعوث ووسيط وعميل ليست مؤكدة، لكن يؤيدها دور فلاسفة ذلك الجيل ذاته وما تلاه؛ فمثلا زينوقراط، رئيس الأكاديمية من 339 إلى 314، كان عضوا في وفد سفراء أثيني أرسل للتفاوض مع فيليب، وكان فيما بعد مبعوثا إلى أنتيباتروس لحضه على إطلاق سراح أسرى الحرب التي نشبت لدى موت الإسكندر سنة 323. وكان كاليسثينيس (ابن أخت أرسطو) وأناكساجوراس وتلميذه بيرو، المعروف كمؤسس المدرسة الشكية الفلسفية، ممن صاحبوا الإسكندر في حملته. ودعي ثيوفراستوس ، خليفة أرسطو على رئاسة الليسيوم، إلى مصر من قبل بطليموس الأول، وكان الرواقيون جزءا من بلاط أنتيغونس غوناتاس، ملك مقدون في أوائل القرن الثالث. وفي وقت متأخر من ذلك القرن، لعب الفيلسوف الرواقي سفايروس دورا في برنامج للملوك الإسبرطيين، وأما الفيلسوف الكلبي كيركيداس فعمل سفيرا إلى الملك المقدوني آنذاك في محاولة لوقف النجاح الإسبرطي. وخدم رياضياتي أبيقوري ثلاثة ملوك سلوقيين في القرن الثاني، وفي منتصف ذلك القرن أرسل وفد سفراء مؤلف من ثلاثة فلاسفة يمثلون ثلاث مدارس مختلفة للتعامل مع مجلس الشيوخ الروماني.
لدور أرسطو أهميته لا في الكشف عن ضلوع المثقفين سياسيا فحسب، بل أيضا في إثبات نباهة الملوك الأرغيين العقلية؛ إذ تفهموا الثقافة الإغريقية جيدا، واستخدموها بقوة بفضل قيمتها ولأغراضهم الخاصة على السواء. وتعطينا الصلات الفردية أيضا أفكارا عن الطبيعة الحقيقية للحياة في الأرض التي لم يكن يستطيع المرء حتى شراء عبد صالح منها، على حد قول ديموستيني. جلب يومينس، ابن أحد ضيوف/أصدقاء فيليب من بلدة كارديا الإغريقية في شبه جزيرة كيرسونيسوس التراقية، إلى بيلا ليعمل رئيسا لأمانة السر لسبع سنوات، واستمر بهذه الصفة في عهد الإسكندر، لكن في الهند عين في منصب قائد عسكري، وفي حفل زفاف الإسكندر وصحبه في شوشان سنة 324 زوج بأخت بارسين محظية الإسكندر. ويدل ارتقاؤه إلى هذه المكانة الرفيعة على الأهمية التي اكتسبها حفظ السجلات في مقدونيا بحلول عهد فيليب إن لم يكن قبل ذلك. ربما كان الإغريق أقدر في مهارات القراءة والكتابة، لكن شخصا يسمى مارسيا البيلي، وهو معاصر للإسكندر الثالث، وضع سردا في 10 كتب لتاريخ لمقدونيا، بداية من نشأة المملكة وحتى صيف 331 قبل الميلاد. كان أي ملك أرغي ينصح بأن يثمن مهارات الإغريق (ومهارات غيرهم بالطبع) ويستقطب هذه المهارات وأصحابها إلى مملكته. كانت الدول الإغريقية مصدر إزعاج، لكن أدوات الإغريق كانت ضرورية للنشاط المقدوني ، وفي النهاية صارت تلك الأدوات والأعراف جزءا لا يتجزأ من الثقافة المقدونية. كانت الخطوط الفاصلة بين الثقافتين المقدونية والإغريقية قد بدأت تنطمس قبل العصر الهلنستي بزمن طويل.
الفصل الخامس
البقاء بالقوة
كشفت أوصاف منطقة مقدونيا ومملكة مقدون في الفصول السابقة عن مواطن ضعف وعن مواطن قوة كامنة في موقعها ومواردها وعناصر ثقافتها. ومثلما يتبين من الخريطة تتموضع هذه المنطقة بين شبه الجزيرة اليونانية (جزء من حوض البحر المتوسط الأكبر) وقارة أوروبا. لم يكن المقدونيون سوى قوم من أقوام كثيرين سعوا إلى إنشاء دولة آمنة والحفاظ عليها في جزء من هذه المنطقة الكبيرة، ولم تكن مهمتهم سهلة كما رأينا.
كانت ملامح مقدونيا الطبيعية تقدم بعض العون، لكنها لم تقدم الحماية الكاملة؛ إذ كانت الجبال والأنهار الدائمة والخليج الثيرمي ببحر إيجة عناصر ردع لكل من تسول له نفسه التسلل إليها، لكن الممرات الجبلية ومجاري الأنهار والسفن كانت أبوابا مفضية إلى داخل المملكة، داوم الآخرون على استكشافها والاستفادة منها. وفوق ذلك كانت في موارد مقدونيا الوفيرة حوافز قوية للآخرين لكي يستغلوا هذه الطرق لمصلحتهم، ورأينا أن الغارات العدائية كانت متكررة كالمبادلات التجارية السلمية إن لم تكن أكثر. (1) جيران برابرة
كان الجيران البرابرة المحيطون بلب المملكة في مرحلتها المبكرة يتمتعون بميزة كبيرة على المقدونيين من حيث أعدادهم وقوتهم العسكرية المتفجرة التي كانت تثور دوما. وحتى الشواهد الضئيلة المتاحة تدل على وجود كثيرين جدا من هؤلاء الجيران المزعجين في مواجهة طريقة التفكير المقدونية، والحقيقة أن كثيرين منهم كانوا ذات يوم يشغلون أرضا في أجزاء من المنطقة التي ستصبح في النهاية قلب المملكة المقدونية. بدأت القبائل التراقية، التي استقرت في شرق بحر إيجة منذ العصر البرونزي، تتمدد غربا في العصر الحديدي متجاوزة نهر سترايمون إلى وادي نهر أكسيوس. وأقرب من التراقيين إلى قلب مقدونيا كان يوجد قوم (وهم البييريون) كهؤلاء ربما شغلوا منطقة بييريا بين نهري هالياكمون وبنيوس. كان البيونيون أيضا يشغلون الأرض الواقعة بمحاذاة أدنى وادي أكسيوس، إلى أن دفعهم زحف التراقيين غربا إلى الانتقال شمالا في منطقة البلقان. بدأ فيليب يتعامل مع التهديد التراقي في سنوات حكمه الأولى، وبعد مرور 16 سنة كانت قوات فيليب ما زالت تجرد حملات في تراقيا ، حتى آذنت سنة 342 بالمواجهة النهائية التي هزم فيها جيشا ملكين تراقيين وأطيحا من السلطة واستبدل بهما نائب لفيليب. لكن على الرغم من الخضوع اسميا للسيطرة المقدونية، تطلب الأمر تجريد مزيد من الحملات في منطقة شرق تراقيا.
كانت الشعوب التي دخلت إليريا واستقرت فيها بين القرنين العاشر والثامن تشكل تهديدا مستمرا حيث تمددت جنوبا وشرقا، وأخرج أمينتاس الثالث من مملكته بفعل واحدة من غزواتهم، وقتل ابنه بيرديكاس الثالث مع 4 آلاف من جنوده في معركة مع الغزاة الإليريين، وكانت من أولى مسئوليات خليفته فيليب الثاني حشد قوة قوامها 10 آلاف جندي مشاة و600 فارس لمواجهة قوات الملك الإليري بارديليس، وكان من شواغل الإسكندر العاجلة لدى توليه العرش تجريد جيشه لمواجهة الإليريين وغيرهم من الشعوب الشمالية. لم تكن غاراتهم وقائع مخيفة فحسب، بل كانت تحركاتهم تدفع شعوبا أخرى في اتجاهات جديدة.
من المجانب للصواب طبعا أن نظن أن هذه الشعوب كانت جماعات متلاحمة، بل كانت قبائل كثيرة، تراقية وإليرية وبيونية، وعلى رأس كل منها ملك. وسبق أن نوهنا إلى إلحاق المقدونيين هزيمة بجيشين تراقيين بقيادة ملكين. كان هناك خطر آخر وهو احتمال توحيد أعداء مقدون العديدين صفوفهم ضدها؛ إذ جمع تحالف قام سنة 356 بين جرابوس وشعبه الإليري، وليبيوس وشعبه البيوني، وكتريبوريس وشعبه التراقي، ودولة-مدينة أثينا (تود، الطبعة الثانية، 157 = النقوش الإغريقية، المجلد الثاني، الجزء الثاني، 127).
كان لزاما أن يكون الملك المقدوني مهيأ لطبيعة التهديدات النابعة من أعداء مثل «كيرسوبليبتيس، ملك التراقيين، الذي استمر في إخضاع المدن المحاذية للهلسبونت على حدود تراقيا، وفي الانتقام من تلك الأرض» (ديودورس، الكتاب السادس عشر، 71، 1). وهكذا يجب أن يكون الملك الأرغي مستعدا للتصرف مثلما فعل فيليب بهجومه «على إليريا بقوة عظيمة، وبعد أن دمر الأرض واستولى على بلدات كثيرة، عاد إلى مقدونيا ومعه الكثير من الغنائم» (الكتاب السادس عشر، 69، 7). لكن كان يجب أيضا على أي ملك مقدوني أن يكون مستعدا للاشتباك مع العدو في معركة ضارية استعد لها طرفاها، مثلما فعل بيرديكاس بمحاولته هزيمة الإليريين سنة 359. (2) تهديد الإمبراطورية
كان هناك نوع آخر من مواطن الضعف في المستوى الأعلى من التنظيم السياسي والاقتصادي لبعض جيران مقدونيا. كان قورش ملك الفرس قد فتح بحلول سنة 530 أقاليم شاسعة تمتد من وسط آسيا إلى البحر المتوسط، وكان الملك داريوس الأول قد نظم خلال حكمه الممتد من 522 إلى 486 هيكلا إداريا يقوم فيه على رأس المناطق المحلية مسئولون تعينهم وتسائلهم سلطة هرمية مركزية، على رأسها الشاه حاكم كل المملكة. كانت إنجازات إمبراطورية فارس، من حيث ثروتها وعدد رعاياها وتنسيق أنشطتها الاقتصادية والعسكرية، تتضاءل بجوارها الدول مثار الإعجاب السابقة لا في الشرق الأدنى القديم فحسب، بل أيضا في عموم العالم أجمع.
كان الفتوحات سريعة على زمن قورش الكبير، الذي وسع في عهده الذي دام 29 سنة حدوده من نهر السند شرقا، مرورا بأفغانستان الحديثة وإيران والعراق، إلى ساحل البحر المتوسط، وإلى الأناضول شمالا. وأضاف ابنه وخليفته قمبيز مصر إلى إمبراطوريته، وبدأ ثالث ملك يحمل لقب شاه، وهو داريوس الأول، زحفه إلى تراقيا عبر الهلسبونت؛ وهنا أحبط السكيثيون محاولات ضم أراض أخرى إلى الإمبراطورية. لكن هيرودوت يروي أن داريوس سعى إلى إقامة روابط مع ملك مقدون بإرسال رسل، ثم بعد ذلك من خلال تحالف زواج بين قائد عسكري فارسي وامرأة من العائلة الأرغية المالكة (الكتاب الخامس، 17-20). تباطأ النشاط الفارسي في شمال بحر إيجة نتيجة الهجوم على اليونان في 480-479، لكنه انبعث من جديد في ظروف القرن الرابع.
كانت للمواجهة المسلحة مع الفرس طبيعة مختلفة عن المواجهات مع الجيران القبليين؛ إذ كان الجيش الفارسي جيشا احترافيا في المقام الأول ويضم أبناء النخبة الفارسية المدربين للخدمة كقادة وضباط. وتمخضت مساحة الإمبراطورية الفارسية وتنوع شعوبها عن أعداد كبيرة من الجنود، فالتقدير المعقول للقوات الفارسية التي زحفت إلى اليونان سنة 480 هو 250 ألف رجل، ولم يكن تعداد سكان مقدون بأكملهم داخل المنطقة المستحوذ عليها فعليا إلا 228 ألف نسمة حتى بحلول نهاية القرن الخامس. كانت المواهب العسكرية التي ساهمت بها كل فرقة من الفرق العسكرية الفارسية متنوعة؛ إذ كان الفرس أنفسهم ذوي باع في الفروسية، وكان غيرهم مدربين كرماة مهرة، وكانت بعض الوحدات تقاتل بفئوس حربية، وكانت أخرى تحمل رماحا ثقيلة ورماحا خفيفة وخناجر. كان الملك الفارسي يملك أسطولا كبيرا وفعالا بالإضافة إلى جيشه، ولو استخدمنا مجددا الأرقام المستمدة من الحروب الفارسية في 480-479، لقلنا إن القوات البحرية ربما تألفت من نحو 1200 سفينة، وأما مقدون فلم تأخذ بناء السفن مأخذ الجد إلا على عهد فيليب الثاني.
كانت اليونان أيضا قد بلغت مبلغا أرفع من التطور مقارنة بإمكانيات المملكة المقدونية الفتية، وكان الاهتمام بمنطقة مقدونيا من جانب العالم الإغريقي أقرب وأدوم بكثير من اهتمام الفرس بها؛ فحتى في العصر البرونزي توجد شواهد فخارية على حدوث اتصال مع العالم الميسيني بحلول القرن الرابع عشر واستمراره حتى القرن الثاني عشر؛ إذ يحاكي الإنتاج المحلي النماذج الميسينية، فضلا عن السلع المجلوبة من اليونان. ولا يبدو أن هذا الاتصال تمخض في مقدونيا عن نظام يتمحور حول القلاع شبيه بنظام اليونان، على الأقل وفقا للشواهد الحالية. ويوضح هذا من ناحية أخرى ميوعة الاتصال بين اليونان ومقدونيا. انتهى التفاعل بانهيار ممالك العصر البرونزي في معظم منطقة شرق البحر المتوسط؛ ونتيجة لذلك، لم يكن هناك إلا اتصال محدود بين اليونان ومقدونيا في أواخر الألفية الثانية والقرون الأولى من الألفية الأولى.
تغير ذلك الوضع في القرن التاسع عندما بدأ إغريق البر الرئيس يغامرون من جديد بركوب البحر. ولا نستغرب أن المحاولات الأولى جرت في المياه المحلية القريبة، كالمنطقة الساحلية شمال بحر إيجة. وفي مرحلة مبكرة من القرن التاسع، كان إغريق من جزيرة وابية يعملون على إقامة مستوطنات تجارية في منطقة مثل سيندوس، بالقرب من سالونيك الحديثة، التي تعود نشأتها إلى القرن التاسع وتمتعت بعمر مديد حتى أواخر الفترة الرومانية. ويتضح ازدهارها المبكر من ثراء قرابين الدفن هناك، التي ضمت حلى ذهبية أنيقة بحلول القرن السادس، والأموال التي سمحت بحلول القرن الرابع بشراء أضحية قوامها خمسة أفراس وكلبان في مقبرة تضم 47 مدفنا، وهو قربان يرتبط عادة بمدافن النخبة. حذا إغريق من مناطق أخرى حذوهم في إقامة مستوطنات ، وخصوصا في شبه الجزيرة ذات الألسنة الثلاثة المعروفة باسم خالكيذيكي، قبالة المنطقة الصغيرة التي تشكل قلب مملكة الشعب المقدوني. وفي أواخر القرنين السابع والسادس، تغلغلت دول إغريقية أخرى في بحر بروبونتيس وتجاوزته إلى البحر الأسود. وفي النهاية صار ساحل ذلك البحر موقعا للكثير من التجمعات الإغريقية المستقلة. كان يوجد يقينا أناس من غير الإغريق يسكنون وراء الشريط الساحلي، لكن هم أيضا تعرضوا لضغط جيرانهم الإغريق وتأثيرهم الثقافي.
بينما كانت الدول، أو الدول-المدن، الإغريقية صغيرة ومستقلة ذاتيا، كانت ثقافتها المشتركة قد تمخضت عن آلة عسكرية قوية على هيئة تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس»، الذي استخدمه معظم العالم الإغريقي منذ القرن السابع. كان أفراد المشاة الثقيلة، الذين يرتدون الخوذ ودروع الصدر والساقين ويحملون دروعا مستديرة تسمى «هوبلون» في شمائلهم، ورماحا طويلة في أيمانهم؛ يسيرون إلى ساحة القتال سيرا متناغما في صفوف وأرتال، حامين بعضهم بعضا ومتأهبين للتقدم إلى الأمام لشغل موقع جندي أصيب أو قتل في الصف الأمامي. ألحقت فعالية الفلنكس الهزيمة بجيش الفرس الجرار في ماراثون سنة 490، وأخرى في بلاتايا سنة 479، ومن بعدها ظل الفلنكس الأداة المروعة من أدوات الحرب البرية حتى القرن الثاني. كانت الحرب المتكررة بين الدول- المدن سببا رئيسا، وإن لم تكن السبب الوحيد، لاستدعاء أفراد المشاة الثقيلة من المواطنين، ولفتت المناطق المجاورة اهتمام الإغريق أكثر فأكثر خلال القرنين الخامس والرابع.
نمت القوة البحرية أيضا باطراد بداية من أواخر العصر المظلم؛ إذ كانت ضرورية للتبادل التجاري والاستعمار اللذين دفعا سويا توسيع المستوطنات الإغريقية من أواخر القرن الثامن إلى منتصف القرن السادس. ومن الثابت استخدام السفن الإغريقية لأغراض عسكرية في مرحلة مبكرة من الفترة العتيقة. ويتبين لنا أن التفوق البحري لم يتحقق فورا من واقعة دحر الأسطول الإغريقي قبالة ساحل الأناضول الجنوبي، الذي تقول الروايات أنه حدث سنة 696، لكن ما يهمنا أن المجتمع الإغريقي احتاج إلى السفر بحرا، واهتم به منذ العصر الحجري الحديث. وبحلول أوائل القرن الخامس، عندما التمس الأثينيون نصح أبولو عن أفضل وسيلة للتصدي للهجوم الفارسي ، كانت إجابة عرافة دلفي: «اعتمدوا على الجدار الخشبي.» أصاب الأثينيون في تفسير هذه الإجابة، فاستغلوا اكتشاف عرق جديد من الفضة في إنشاء أسطول يضم 200 سفينة ثلاثية المجاديف أثبت حكمة أبولو، في معركتي سلاميس وميكالي خصوصا، وفيما بعدهما أيضا.
ما إن تحقق درء التهديد الفارسي، حتى صار الأسطول بمثابة القلب من حلف يتألف في أغلبه من دول إيجية بهدف القضاء على التهديد الفارسي نهائيا. وبتحقق ذلك الهدف، صار الأسطول دعامة الإمبراطورية الأثينية القوية التي نمت انطلاقا من الحلف الذي كانت عضويته ذات يوم طوعية. وكما ناقشنا في الفصل الرابع فإن الخشب المقدوني كان ضروريا لبناء سفن ذلك الأسطول؛ مما مثل أحد الإغراءات القوية للتدخل الأثيني في الشئون المقدونية. وكانت مصالح أثينا في شمال بحر إيجة، التي ربما نشأت مبكرا في أواخر القرن السادس، عنصر جذب آخر؛ إذ ازداد اعتماد أثينا على مصادر الحبوب الخارجية، وعلى رأسها دول البحر الأسود. وفوق ذلك كانت الدولة-المدينة السريعة التوسع تحتاج إلى سفن لإيصال تلك الحبوب، لكن تفتقر إلى الخشب اللازم لبنائها، وكانت مقدونيا من أفضل مصادر الخشب. (3) الموارد المقدونية لمواجهة المنافسين
خلاصة القول أن الحدود المقدونية كانت مائعة بسبب معالم المنطقة الطبيعية وحالة شعوبها الأخرى المزاجية، وكان الحفاظ على الهوية السياسية يتطلب يقظة عسكرية مستمرة. لكن على سبيل المقارنة بقدرة الجيران العسكرية، كانت مقدون في وضع غير مؤات وينذر بالخطر. حشد فيليب كما أسلفنا جيشا ناهز 10600 جندي مشاة وخيالة سنة 359، ونظرا لما كان لتهديد الإليريين من عواقب خطيرة، فالأرجح أن فيليب جمع أكبر قوة ممكنة. وفي المقابل - كما نوهنا من قبل - حشد أحشويرش جيشا قوامه ربع مليون رجل لحملته ضد اليونان، وحتى دولة-مدينة أثينا منفردة لم يكن تعداد سكانها من الذكور البالغين (أي المشاة الثقيلة) يزيد على ما بين 45 ألف رجل و60 ألفا في منتصف القرن الخامس. وكانت مقدونيا تكاد تفتقر تماما إلى قوة بحرية للتعامل مع التحديات الآتية من البحر حتى عهد فيليب. وعلى سبيل المقارنة نجد أن أثينا وحدها ساهمت بمائتي سفينة ثلاثية المجاديف أو أكثر في القوة البحرية الإغريقية المتحدة ضد الغزو الفارسي سنة 480.
أدى هيكل المملكة المقدونية الاجتماعي المبكر إلى زيادة ضعفها ككيان قوي موحد؛ إذ ألفت غالبية السكان الحياة في قرى متناثرة، يكسبون قوتهم من امتهان الرعي والزراعة وصيد البحر والبر. كانت العائلات الأرستقراطية نظيرة الأرغيين، في المناطق الأصغر التي وحدت في النهاية تحت سيطرة حاكم أرغي، توجه حياة السكان الجماعية في مجال نفوذها، وكان عمداء هذه العائلات يحتاجون إلى ثروة وقوة عسكرية كافيين للاحتفاظ بمراكزهم والحفاظ على استقلال عوالمهم. وتتضح قدرة كثيرين منهم على الاحتفاظ بمتطلبات النفوذ هذه من تاريخ المركزية في المنطقة؛ إذ لم يكن التوحيد عملية طبيعية أو خالية من المتاعب؛ بفضل استمرار الولاءات للعائلات المهمة. وحتى عندما كانت المركزية تجري على قدم وساق، كان بوسع المناطق أن تنشق، وكان هذا يحدث فعلا؛ فأثناء حكم بيرديكاس (454-413)، كانت منطقة لنكستيس في مقدونيا العليا تتمتع بالحكم الذاتي، ولم تفلح جهود توحيدها مع مقدونيا الدنيا، وتمكن قائد الحركة الانفصالية أرهابايوس من حشد قوة مشتركة من المشاة والخيالة تطلبت هزيمتها جيشا قوامه 3 آلاف جندي مشاة إغريقي وجميع الخيالة المقدونيين و1000 رجل خالكيذيكي و«حشد عظيم من البرابرة» (ثوكيديدس، الكتاب الرابع، 124). كان فقدان الفرق الإقليمية سيلحق ضررا خطيرا بقدرة مقدونيا على الدفاع عن نفسها، والحقيقة أنه لو شكل الزعماء الإقليميون ائتلافا، لدمر على الأرجح أي مظهر من مظاهر الوحدة.
في ظل غياب وثائق مقدونية تصف طبيعة المجتمع، غالبا ما يلجأ الباحثون إلى مجتمع هوميروس للمماثلة، فنجد في الإلياذة والأوديسة رجلا واحدا يمارس سلطة أكبر من أقرانه؛ فأجاممنون هو الزعيم المعلن للمجهود الإغريقي للاستيلاء على طروادة، وأما منصب أوديسيوس الرفيع في المملكة الجزرية فسبب الوضع التعيس الذي ساء في غيابه الذي دام 20 سنة عن مملكته. لكن لم يكن أجاممنون ولا أوديسيوس يتمتعان بسلطة مطلقة ؛ إذ لا يستطيع أجاممنون منع آخيل من التخلي غاضبا عن المجهود الحربي، بينما يضطر أوديسيوس إلى قتل جميع الطامحين إلى منصبه قبل أن يتسنى له استرداده. خلاصة القول أنه يجب أن يكون الملك قادرا على تأكيد حقه في الحكم بالوسائل البدنية. وقصة الأرغيين مماثلة إلى حد مدهش؛ ففي الظروف التي سادت زمن اعتلاء فيليب العرش، كان منافسوه المطالبون بالعرش ممثلين في ثلاثة إخوة غير أشقاء، وابن شقيقه الأكبر بيرديكاس الرضيع، وأبناء فروع السلالة الأرغية الأخرى. ولم يكن بوسع أي ملك أرغي منع قائد متحالف معه نظريا من الانسحاب من هذا الحلف، شأنه في ذلك شأن أجاممنون، ونراه أزاح منافسيه بالقوة البدنية شأنه شأن أوديسيوس.
كذلك أيضا يشبه دور العنصر غير الأرستقراطي في مقدونيا دور العامة أفراد الجيش الإغريقي المعسكر بالقرب من طروادة، والذين لم يكن ينتظر منهم إلا الانصياع لزعمائهم والهتاف من حين إلى آخر بتأييدهم، على الرغم من وجودهم ضمن تجمعات مؤلفة من أفراد من عموم الجيش. والرجل العامي الوحيد الذي يجاهر برأيه في طروادة، سرعان ما يضرب عقابا له على جرأته. ومع أن رفاق الرجل المضروب يأسون لمحنته، نسمعهم يقولون جماعيا بلسان الحال: «لن يعود بعدها بتفاخره ليتشاجر مع الأمراء بكلمات فيها الشتائم البذيئة» (الإلياذة، الكتاب الثاني، السطران 276-277). وعلى غرار جمهرة الآخيين «الذين لا قيمة لهم في معركة أو مجلس» في طروادة، يؤلف المقدونيون غير الأرستقراطيين مجلسا، هو جمعية الجيش، يتمتع بحقوق معينة، كالمناداة بالقائد الملكي واتخاذ القرارات في محاكمات الخيانة. ومع تشكيك بعض الباحثين المحدثين في أهمية هذه الحقوق وفي ممارستها دوريا، فمن الجائز تماما أنها كانت تباشر في المراحل الأولى من التاريخ المقدوني على هيئة مماثلة للتجمعات العفوية الهائجة ذاتها التي تصفها ملاحم هوميروس. وعلى الرغم من وجود علاقات مع العائلات الحاكمة في مقدونيا العليا، مع هشاشتها في الغالب، لم يكن هناك ما يكفي لإقامة علاقة بين غير النخب الذين يعيشون على مسافة ما من قلب مقدونيا الدنيا؛ فاللنكستيون يثمنون، وربما يخشون، سلطة الأسرة المالكة اللنكستية أكثر مما يثمنون سلطة الأرغي الحاكم ويخشونها بكثير، ويتكرر هذا الوضع في العديد من المناطق الأخرى التي كانت ذات يوم دولا مستقلة.
لو أريد لمملكة مقدون البقاء، بل الأكثر من ذلك لو أريد لها أن تصبح لاعبا مهما في شئون منطقة البلقان وبحر إيجة، لما كان هناك بد من القضاء على مواطن الضعف هذه. كانت الحاجة الأولى حاجة إلى دفاع قوي عن أراضيها ومواردها، بمعنى إنشاء ذراع عسكري قوي مستقر. ولأن التهديدات كانت تأتي دوما من كل الاتجاهات، فلا بد من أن يكون الجيش كبيرا، وأن تكون القوة البشرية الجاهزة متاحة باستمرار في أوقات متغيرة من السنة. لم يكن قلب منطقة مقدون يكفي في موارده وقوته البشرية للتصدي لتشكيلة التهديدات ولتوفير جيش دائم. وتشير التقديرات إلى أن قوام الجيش المقدوني قبل زمن فيليب الثاني كان يتراوح بين 8 آلاف و10 آلاف رجل؛ وهكذا، فعندما هاجم التراقيون بزعامة سيتالكيس مقدونيا سنة 429، بجيش قوامه 15 ألف رجل من بينهم 5 آلاف فارس، رفض بيرديكاس الاشتباك معهم بسبب عدم تكافؤ الجيشين (ثوكيديدس، الكتاب الثاني، 98، 3 والكتاب الثاني، 100، 5). كانت الحاجة تدعو إلى إعادة ترسيخ التحالفات على الأقل مع حلقة الممالك الملاصقة لتأمين دعم العناصر الأرستقراطية وغير الأرستقراطية على السواء، فيقدم الأحرار من العامة غالبية أفراد المشاة، وتقدم العائلات الأرستقراطية الفرسان وكادر الضباط. وتتضح صعوبة هذه المهمة في مقدار الوقت المطلوب لتحقيقها؛ فشهد القرن الخامس اتخاذ بعض الخطوات، لكن ولاء العامة والطبقة الأرستقراطية لم يضمن إلا في زمن فيليب الثاني.
وفي شيء من المفارقة، يبدو أن الضعف المتأصل في الحدود المائعة كان المفتاح إلى حل ما. كانت الهجمات الإليرية من الشمال الغربي والغارات البيونية من الشمال، تمر عبر أراضي مقدونيا العليا في طريقها إلى مقدونيا الدنيا، وأما قوات المشاة الثقيلة الإغريقية فكان يمكنها التحرش بشعبي إيليميا وبييريا أثناء سيرها نحو بيلا. ومن الجائز تماما أن استشعار الخطر المشترك، مقرونا بالتحالفات التي أبرمت فيما مضى، تمخض عن إدراك أنه قد يكون في مصلحة المنطقة بأسرها إقامة صورة من صور الاتحاد . زد على ذلك التوحد متباين الدرجات الذي شهدته الفترات السابقة عندما كانت مقدونيا الدنيا منبع قوة المركزية.
ربما كانت في صلة القرابة بين شعوب مقدونيا العليا والدنيا قوة أخرى من قوى التعاون بحلول القرنين الخامس والرابع؛ فكما وصف هاري ديل جغرافية المنطقة، كان السهل المقدوني قلبها. وفي المنطقة الواقعة وراء الحاجز الطبيعي الأول، ونعني سلسلة جبال بيرميون، أزاح الإليريون فيما بعد الجماعات المكدونية التي سكنت الوديان والجبال أولا؛ فأثار نجاح الغزو الإليري سنة 360 مزيدا من التهديدات في الشمال إذ مضى البيونيون ينهبون أعالي وادي نهر أكسيوس. وربما كان هذا المزيج دافعا إلى توحيد المكدونيين، ولو مؤقتا، وقد يأتي قائد قوي يمكنه إقامة اتحاد أطول أمدا. (4) سبل التوحيد العسكرية
لو أن إدراك الحاجة إلى دفاع مشترك هو الذي بعث على التوحد، لما كان بد من صياغة التزام أطول عمرا من أي أزمة مؤقتة. ونظرا لطبيعة القيادة في مقدون والدول المجاورة، كان النجاح يرتبط ارتباطا وثيقا بمهارات الزعماء الشخصية.
تسمي مصادرنا الملك المقدوني «بازيليوس» والحكم المقدوني «بازيليا»، لكن لا يسعنا تأكيد أو نفي ما إذا كان المقدونيون أنفسهم، قبل حكم فيليب الثاني، يلقبون زعيمهم بازيليوس؛ فالنقود التي ضربها فيليب لا تحمل اللقب، ولا نجد إلا قرب نهاية حكم الإسكندر الأكبر قطعة نقد منقوشا عليها الكلمتين «ألكسندرو» و«بازيليوس». وحتى لو استخدم الحكام الأرغيون السابقون هذا اللفظ، فما كان معناه ليضاهي المعنى المتأصل في الاستخدام الإغريقي الدارج كإطلاق لقب بازيليوس مثلا على «الأركون» (منصب يشغله عدة أشخاص يختارون سنويا لأداء مسئوليات محددة) الأثيني. بدلا من ذلك كان مجمل الصلاحيات والامتيازات المنوطة بالملوك المقدونيين أشبه من نواح كثيرة بما كان منوطا بملوك الملاحم الهوميرية؛ إذ كان الملك طوال حكم الإسكندر الثالث في جوهره قائدا عسكريا، وكانت مسئولياته وما يرافقها من امتيازات تنبع من ذلك الدور. وفي كلتا الحالتين أيضا كان الملوك يحكمون انطلاقا من قدرتهم الشخصية لا بصفتهم تجسيدا اعتباريا عاما للدولة. حقق الملوك المقدونيون دائما نجاحهم، قل أو كثر، بفضل سماتهم القيادية الفردية ؛ إذ كانوا يأتون أفعالا عظيمة وينطقون بكلمات مقنعة مثل أوديسيوس، وينبغي أن نضيف إلى ذلك أنهم كانوا نماذج للدهاء وسرعة التصرف، بطبيعة لا تعرف الرحمة غالبا. مع أنه يبدو من شبه المؤكد أن فيليب الثاني أضاف عناصر إدارية إلى الحكم في عهده، سيكون إنشاء هيكل إداري مدني كامل مهمة خلفاء الإسكندر الأنتيغونيين في القرن الثالث.
كان لزاما على الملك المقدوني أن يمتلك مقدرة قيادية واضحة ليقود ويحكم بنفسه؛ إذ كانت قدرة الملك على اختيار معاونين أكفاء مهمة لكن لا تكفي وحدها. وكما يتبين لنا من تاريخ المملكة المبكر، كانت وظيفة الملك الأولى الدفاع عن المملكة والحفاظ عليها من التهديدات الداخلية والخارجية، ولكي يفعل ذلك كان يقود رجاله في ساحة القتال بنفسه. أدرك بيرديكاس ضرورة التماس تدخل الإسبرطيين حفاظا على سلامة مقدونيا، لكنه أضاف إلى القوة الإسبرطية لدى وصولها فرقة مقدونية تحت قيادته، وسارت القوتان سويا لإجبار الزعيم اللنكستي على الدخول بإقليمه الواقع في مقدونيا العليا من جديد في حلف بيرديكاس. ولو لم يكن بمقدور الملك أن يقود جيشه ببراعة وبنفسه، فلا يليق به أن يكون حاكما مقدونيا. وهكذا فمع أن الملك كان ينتقل غالبا من الأب إلى ابنه، فلا شك أن ابن بيرديكاس الثالث لم يكن لائقا لإظهار المقدرة المطلوبة؛ لصغره، فانتقل الملك من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر؛ أي من بيرديكاس إلى فيليب. كان يجب أن تكون المكانة رفيعة في أعين الجنود، وخصوصا من ينتمون منهم إلى أقاليم كانت ذات يوم ممالك مستقلة، لا لكسب احترامهم فحسب، بل أيضا لمناداتهم به قائدا أول الأمر.
نظرا لأن الملك المقدوني كان شكلا من أشكال القيادة الشخصية، كانت دعائمه تقوم على الولاء الشخصي لا على قاعدة دستورية. كان الملك يحتل صميم العديد من روابط الولاء التي تعززها منزلته العسكرية والدينية والاقتصادية الخاصة، وكما رأينا فإن مصدر سلطة الملك الأساسي كان قيادته العسكرية، التي لم تكن لتوجد من دونها مملكة يحكمها. كان توطيد دعائم المملكة وتوسيعها، ما إن تتحقق السيطرة على قلبها، يتطلب حضورا عسكريا قويا للتصرف والرد بسرعة. ومع أن كثيرا من عناصر الجيش المقدوني، كما هو معروف من المصادر المعنية بفيليب والإسكندر، طور في القرن الخامس، فإن جهود فيليب أحدثت ما وصف بأنه ثورة عسكرية.
كان العنصر الأول قوة بحجم كاف. أتينا فيما سبق على ذكر محدودية حجم الجيش المقدوني في عهد بيرديكاس، وربما كانت ترتبط قلة عدد جنوده بتنصل اللنكستيين من ولائهم للحكم الأرغي، ففقد من ثم مصدر مهم للحصول على المجندين. وعند تصدي الملك بيرديكاس الثالث للغزو الإليري سنة 360، فقد 4 آلاف رجل من جيشه، وربما كان هؤلاء جزءا من رقم العشرة آلاف المقبول عموما كحد أقصى لأي جيش مقدوني قبل حكم فيليب الثاني. لا ريب أن مسئولية فيليب الأولى لدى المناداة به ملكا كانت تجنيد جيش آخر للتعامل مع التهديد الإليري، وتقول الروايات إن جيشه بلغ 10 آلاف جندي مشاة و600 فارس. وبعملية حسابية بسيطة لو طرحنا القتلى الذين خلفهم الإليريون، نجد هذا الرقم يزيد بمقدار 4 آلاف رجل عن الحد الأقصى الذي يمكن لقلب مملكة مقدون حشده. ومع أننا لا نعرف حالة التحالفات مع ممالك مقدونيا العليا سنة 360 / 359، فمن المستبعد أنها كانت متينة. ويتبين من حاجة أمينتاس الثالث إلى الالتجاء إلى الدول الإغريقية الكبرى طلبا للمساعدة بسبب افتقاره إلى مصدر عون موثوق فيه أقرب إليه منها؛ أن أحداث العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع قوضت الروابط مع هذه الممالك. ومن الجائز تماما أن الانتصار الإليري هو الذي وفر مجندين جددا؛ أمن الشطط أن نقترح أن الأربعة آلاف أو أكثر من الجنود الذين يتطلبهم التصدي لغزوة الإليريين (أو التراقيين أو الإغريق) التالية جاءوا من مناطق مقدونيا العليا استجابة للخطر المشترك الذي لا يخفى على ذي عينين؟ ربما نجد ما يؤيد هذا الطرح في وجود القائد فيليب الموثوق فيه بارمنيون في سنوات حكمه الأولى؛ إذ كان بارمنيون من مقدونيا العليا.
فمن الذي سيقود جيشا مؤلفا من فرق إقليمية؟ على أحد المستويات، سيتولى زعيم كل إقليم قيادة فرقة إقليمه العسكرية باتباع هيكل قيادة شبيه بالموصوف في الإلياذة. ومرة أخرى كما في طروادة، يوجد إدراك على مستوى أعلى في المعركة أن «السيادة للكثيرين ليست لائقة أو مفيدة. ليكن لنا حاكم واحد، بازيليوس واحد» (الإلياذة، 2، 204-205). والأرجح أن يختص الأرغيون بالقيادة العليا، من واقع هيبتهم وتحالفاتهم السابقة ومساهمتهم بالشطر الأكبر من مجموع القوة. وستمتد آصرة مماثلة للتي بين الملك الأرغي وفرقته، بينه وبين الجنود الذين ينتمون إلى الأقاليم الأخرى لفترة زمنية معينة.
كانت الآصرة قوية بين الحاكم الأرغي ومن لا غنى عنهم للحفاظ على المملكة، فكان كل منهما يعتمد على الآخر. كان يحق لجمعية الجيش أن تنادي بالملك لقائدها، الذي يتولى بدوره مسئولية قيادة جيشه هذا إلى النصر، وسيدر هذا النصر مكافآت (غنائم، منح أراض، ترقيا في المراتب، وحياة أطول في الحقيقة) يمنحها القائد المنتصر. وتروي المصادر إنشاء وحدة من الجنود المقدونيين تسمى صحابة الملك المشاة (بيزهيتايروي) بجانب الصحابة (هيتايروي) الموجودين فعلا من أصحاب المكانة الأرستقراطية، وذلك في مرحلة مبكرة تعود إلى حكم الإسكندر الأول. ومن الجائز تماما أن نجاح المشاة الثقيلة الإغريق في مواجهة القوات الفارسية أثار إعجاب الإسكندر، فاستحدث تشكيلا مماثلا بين جنوده المقدونيين، وإن انقسمت الآراء حول دقة هذه النسبة إليه. لكن كما رأينا فلم تحظ بالديمومة إلا تطورات قليلة في الحياة المقدونية المبكرة، مما استلزم تكرار الابتكارات السابقة على الدوام.
ومن ثم كان لفيليب ابتكاراته في دور المشاة المقدونية، وهو موضوع سننظر فيه في موضع آت. وللإبقاء على تعاون الفرق الإقليمية فيما بعد انقضاء أي أزمة راهنة متصورة، كان على فيليب أن يجني ثمارا ينعم بها على جميع سرايا الجيش، فالمتوقع أن تعزز هذه المكافآت مقرونة بالحوافز آصرة الولاء بين صفوف جيش متنوع ينتمي إلى أقاليم تتجاوز قلب المملكة، وبين قائده الأرغي. وربما يكون احتراف الجندية مسارا مهنيا مفضلا لراع يرعى قطيعه في المرتفعات الجبلية ما دامت توجد حاجة واضحة إلى جيش دائم.
فهل تسنى أيضا إقناع العائلات الأرستقراطية التي تسكن المرتفعات الجبلية؟ ربما كان نجاح فيليب الأولي في درء هجمات الإليريين حافزا قويا لمواصلة التعاون، ويدل منصب بارمنيون القيادي الرفيع الذي تولاه بحلول 356، عندما قاد المقدونيين إلى النصر على الإليريين، على أنه أمكن إقناع شخص واحد على الأقل. ويوما بعد يوم تطول قائمة المستقطبين من المناطق التي كانت ذات يوم مستقلة، على نحو ما سنرى في التطورات التي شهدتها علاقات فيليب مع العائلات النبيلة الأخرى.
كان أي قائد يحتاج بجانب قوة كبيرة من المشاة والخيالة إلى قادة معاونين، وكانت فروع السلالة الأرغية مصدرا محتملا، لكن فضلت عليها غالبا السلالات الملكية الإقليمية، فبداية لم يكن هؤلاء الملوك يشكلون تهديدات مباشرة للحكم الأرغي، وثانيا كانت هناك آصرة طبيعية تربط بين أبناء العائلات الأرستقراطية والفرق العسكرية التي تنتمي إلى مناطقهم. وقد استحدث فيليب سبلا لتحفيز التعاون، أو أعاد تأسيسها. توجد ملامح معينة تنسب إلى عهد أرخيلاوس، لكن الظروف التي سادت بين موته سنة 399 واعتلاء فيليب العرش سنة 359 قلما أثمرت تعاونا أكبر بين المناطق؛ مما استلزم إعادة اتخاذ الخطوات السابقة. كان مفتاح نظام حوافز فيليب هو التمييز بين الوظائف العسكرية المخصصة للنبلاء ولغير النبلاء، والمؤهلات المطلوبة للوفاء بتلك الوظائف. ويتضح التقسيم في أبسط صوره في لفظي هيتايروي وبيزهيتايروي؛ إذ كان النبلاء صحابة الملك، وأما غير النبلاء فكانوا صحابته المشاة؛ فمن الفئة الأولى كان يأتي قواده ومسئولوه الآخرون، بينما كانت الأخيرة تقدم الوحدات الأكبر عددا من المشاة (المعروفة باسم حملة الدروع أو الجنود المدرعين) والخيالة، وكانت الوحدات الخاصة داخل كلا الفرعين وحدات ملكية. ومع أن أي ملك قد يرجو استقطاب معاونيه دوما من أقاليم مملكته التي تدين له بالولاء، فربما يكون من الأحوط أن يستحدث مسارا مهنيا.
وقد فعل فيليب هذا بالضبط، فعله في مستهل حكمه، وعندما مات كان النظام يعمل بكامل طاقته (آريانوس، الكتاب الرابع، 13، 1). كان حجر الأساس تدريب أبناء البيوت النبيلة أثناء سنوات مراهقتهم؛ إذ كانوا يقيمون في بيلا لتدريبهم كغلمان للملك، وبفضل إقامتهم في بيلا صاروا يعرفون في المصادر باسم «بيلايوس»، بمعنى البيلاويين. وربما تراوح عدد هؤلاء الشباب بين 85 و200؛ ومع اتساع رقعة المملكة ازداد عدد المجندين، فتضمنت المجموعة شبابا من مقدونيا العليا والدنيا وإبيروس وأقاليم اليونان.
كان معظم التدريب بدنيا؛ إذ كان هذا النظام يشتمل على بعض ملامح نظام تعليم الذكور الإسبرطي الصارم، ونظام تعليم أبناء العائلات الأرستقراطية الفارسية، الذي كان غرضه - كما يخلص زينوفون في وصفه هذا التقليد الفارسي - تعريف الصبيان فورا كيف يحكمون وكيف ينقادون للحاكم (الأنباسة، الكتاب الأول، 9، 4). كانوا بصفتهم غلمان الملك يخدمونه ويحرسونه، وهذا دور مهم يقينا لأي ملك مقدوني، والطلاب الذين ينجحون - والمأمول أن يحوزوا الثقة - في هذا التدريب بتفوق ينالون في النهاية منصبا دائما يخدمون فيه ضمن حراس الملك الشخصيين («سوماتوفيلاكيس») السبعة، ساهرين على حمايته على الدوام.
كانت تلك التجربة تشتمل أيضا على مكون فكري فيما يخص بعض الشباب؛ إذ تشير المصادر إلى أن بعض غلمان الملك شاركوا الإسكندر في تلقيه التعليم على يد أرسطو. ويوصف رفاق ابن (أبناء) الملك المقربون هؤلاء بأنهم «سينتروفوي»، بمعنى «نشئوا مع» ذلك الابن. وكان من بين سينتروفوي الإسكندر: هفايستيون، وبطليموس بن لاجوس، وسلوقس، وربما بيرديكاس وليسيماخوس، وكلهم جميعا صاروا ضباطا كبارا تحت الإسكندر، وكلهم كتب له البقاء - عدا هفايستيون - ليعدوا من بين أقوى خلفائه. كان الوقت الذي قضوه في البلاط يهدف أيضا إلى تعزيز أواصر الولاء للبيت الأرغي الحاكم، مما يحد من ثم من الميول الانفصالية الإشكالية التي شابت معظم التاريخ المقدوني.
كان أي ملك يحتاج بجانب الحرس الشخصي إلى رجال على درجة عالية من التدريب يمكنهم الخدمة كقادة عسكريين لفرق جيشه. تطلب الجيش المؤلف من 35 ألف رجل، الذي ورثه الإسكندر عن فيليب، عددا من هؤلاء الضباط. وكانت الحاجة تدعو إلى مزيد من الضباط للحاميات ومتابعة الشئون في بيلا ذاتها؛ لأن الملك الحاكم لم يكن يستطيع الإشراف شخصيا على كل تدريب لغلمان الملك، أو التحقق من استلام الإيرادات وتخصيصها، أو استلام جميع المراسلات وصياغتها. وصارت المناصب ذات الأهمية المتزايدة هدف شباب الأسر الأرستقراطية الذين دربوا في أول الأمر في بيلا.
غير أن الرجال الذين كانت توكل إليهم مسئوليات جسام، كانوا أكثر حنكة من غلمان الملك الحديثي التخرج. ويبدو أن مستوى وسيطا من تدريب غلمان الملك كان يشتمل على الأرجح على قتال فعلي. وثمة اقتراح منطقي وهو أن الضباط المتدربين كانوا، ببلوغهم من العمر 19 أو 20 سنة، يخدمون في وحدات المشاة الملكية أو الفرسان التي ميزها فيليب عن الوحدات العادية، وكان المشاركون فيها نخبة الهيتايروي الذي يشتبكون مع العدو تحت قيادة الملك شخصيا. وهكذا واصل أولئك الشباب الأرستقراطيون، الذين بدءوا تدريبهم في بيلا، تدريبهم بصفتهم مدرعي الملك وفرسانه تحت عيني الملك ذاته.
بالإضافة إلى التطويرات التي أدخلت على كل من هيكل الجيش وبرنامج استقطاب المعاونين، أحدث فيليب ابتكارات كبيرة في الأسلحة والدروع، وتشكيل الجنود، والتكتيكات، وإسباغ الصفة الاحترافية على وضعية الجيش.
من ناحية الهيكل الأساسي، ظل فيلق المشاة المسلحين عنصرا ضروريا من عناصر الحرب، كحالهم في اليونان منذ العصر العتيق؛ غير أن قوات المشاة المقدونية كانت تختلف عن الإغريق من نواح عديدة؛ إذ استخدم فيليب تشكيلا عميقا استنادا إلى معرفته الشخصية بالتغييرات التي استحدثت في طيبة في ثمانينيات القرن الرابع وسبعينياته، فكانت وحدة الفلنكس المقدونية بعمق 16 صفا وعرض 16 صفا. وعلى سبيل المقارنة نقول إن الفلنكس الإغريقي لم يزد عمقه عن 4-8 صفوف. وكان الرجال الذين يحتلون الصف الأمامي في التشكيل المقدوني قادة من يصطفون من خلفهم. كان الجندي أو فرد المشاة الثقيلة يحتمي بدرعين للساقين وخوذة ودرع معدني للصدر وترس، وكان يحمل رمحا خشبيا («ساريسا») طوله نحو 13-14 قدما (4 أمتار) وسيفا كسلاح ثانوي. كان عتادهم أخف وزنا من عتاد المشاة الثقيلة الإغريقية؛ مما زاد سرعة الجيش في سيره.
كما سبق أن نوهنا كانت قوات المشاة أكثر تنوعا من الفلنكس الإغريقي، وكان ثلاثة آلاف رجل يؤلفون فيلق مشاة نخبويا، وهو فيلق الجنود المدرعين الملكيين. ومع عدم وضوح أصل هذه الوحدة، فالجائز أنها بدأت كقوة حرس شخصي صغيرة للملك. كان الجنود المدرعون النخبويون، بتسليحهم الأخف من جنود المشاة العادية، يتمركزون في الغالب في الجناح الأيمن للجيش بين الفرسان عن يمينهم والفلنكس عن يسارهم. بل كانت ثمة أيضا فرقة أخرى جنودها أخف تسليحا تتألف من رماة سهام ورماة مقاليع، توفر قدرة بعيدة المدى، وكانت أهدافها في المعركة تختلف أيضا عن أهداف المشاة الإغريقية؛ إذ كانت مهمتها تثبيت القوة المعادية بحيث تتسنى لوحدات الخيالة والمشاة الخفيفة المهاجمة من المؤخرة والأجناب، وكذلك اغتنام الفرص لاختراق الثغرات التي يتم إحداثها في صفوف مشاة العدو.
ما كان ضروريا للنجاح العسكري بالقدر نفسه هو الخيالة المقدونية. سبق أن نوهنا إلى صلاحية الأرض المقدونية والتيسالية لاستيلاد الخيول، وعلى النقيض مما كان عليه الوضع في معظم العالم الإغريقي الجنوبي، كان استخدام المقدونيين الخيل في الحرب شائعا قبل زمن فيليب، وكان لا بد للملك الناجح من أن يكون ماهرا في ركوب الخيل وقائدا يعتمد عليه لجنوده المشاة. تتضح لنا منزلة الخيالة من إطلاق اسم «صحابة الملك» على أفضل عناصرها، وكان الملك يقود هذه الوحدة الخاصة بنفسه. كانت الوحدات تشكل على هيئة سرايا على رأس كل منها قائد، وكانت بمنزلة «قوات صدمة» هدفها اختراق أي ثغرات في صف العدو. كان الخيال يرتدي درعا للصدر ويحمل ساريسا طولها نحو 9 أقدام (3 أمتار) بالإضافة إلى سيف معقوف طويل. كانت الساريسا مسننة بالحديد في كلا طرفيها بحيث يمكن استخدامها كرمح ونصل طاعن في القتال المتلاحم. وكان هناك العديد من الوحدات الراكبة كشأن قوات المشاة. كان بعض الخيالة رماة نبال ركبانا، وكان بعضهم الآخر يسير متقدما الجيش بمسافة على هيئة كشافة.
كان الجيش المقدوني يستعين قبل القتال بالمعلومات الاستخباراتية التي تمده بها الكشافة، وبالتحسينات التي طرأت على خطوط الإمداد والتموين ومكنت الجيش كاملا من السير حوالي 15 ميلا (24 كيلومترا) في اليوم، والقوات الخفيفة من السير بسرعة تزيد على 40 ميلا (65 كيلومترا) في اليوم. ولتسهيل الاستيلاء على المراكز المحصنة كان الجيش يستعين بآلات الحصار التي استحدثها فيليب، كالمجانق الالتوائية التي تستطيع قذف رءوس سهام لمسافة نحو 1600 قدم (500 متر)، وقذف حجارة تزن 50 رطلا (أكثر من 22 كيلوجراما)، وأبراج الحصار الضخمة. كان جميع الجنود يتلقون تدريبا دائما، وهي ممارسة اعتبرها رجل الدولة الأثيني ديموستيني «خداعا» فقال: «الصيف والشتاء سيان عنده ... فلا يوجد موسم يوقف فيه العمليات» (الخطبة الفيليبية الثالثة، 50).
على صعيد القدرة البحرية، وسع فيليب القوة المقدونية بإنشاء أسطول. كان بناء السفن ممارسا على الأرجح بصورة ما في الأزمنة القديمة، وكما رأينا فإن الدول الإغريقية كانت تتلهف على موارد مقدونيا من الخشب الممتاز لاستخدامه في بناء سفن لأنفسها؛ غير أن الباحثين ينسبون دائما إلى فيليب الفضل في إنشاء أسطول، وخصوصا للاشتباك مع الجيران ذوي القدرات البحرية في شرق بحر إيجة وبحر بروبونتيس والبحر الأسود. كان يدرك أن القوة البحرية ضرورية لأي مجهود يهدف إلى التصدي للوجود الأثيني في تلك المناطق، بجانب امتلاك الموارد اللازمة. وبحلول سنة 340 صار لدى فيليب الأسطول والدافع لدخول تلك المياه، فجرد حملته أولا في شبه جزيرة كيرسونيسوس ثم في بحر بروبونتيس، ومكنه أسطوله من ضرب حصار على كل من بيرينثوس وبيزنطية. وتتجلى حقيقة أن مقدون لم تكن طورت خبرة عظيمة في عالم بوسيدون (إله البحار) في فشل كلتا هاتين المحاولتين؛ إذ تمكن الأسطول الأثيني المؤلف من 40 سفينة فقط من دحر الأسطول المقدوني عن بيزنطية إلى البسفور، وسريعا إلى البحر الأسود؛ لكن ذلك الأسطول نفسه تمكن من الاستيلاء على أسطول الحبوب الأثيني المؤلف من 230 سفينة على بكرة أبيه. وقد تأخر إتقان المقدونيين الحرب البحرية حتى الربع الثاني من القرن الثالث، لكن أهميتها نالت الاعتراف قبل ذلك بقرون.
في الرواية التي تتحدث عن تخليص الأسطول العالق في البحر الأسود دلالة على مظهر آخر من مظاهر النجاح العسكري المقدوني، ألا وهو الاستخبارات المضادة. يبدو أن فيليب كان بارعا في إرسال تقارير إلى ضباطه يرجى من ورائها أن تقع في أيدي العدو؛ فلمساعدة ذلك الأسطول، أرسل فيليب أوامره إلى أنتيباتروس، الضابط المسئول عن الشئون في تراقيا، يأمره بالرحيل فورا عن منطقة بحر بروبونتيس، وعندما تصادف وصول هذه «المعلومة» إلى الأسطول الأثيني المتمركز في البسفور - على نحو ما كان فيليب يرجو بل يتوقع حدوثه أيضا على الأرجح - أبحر الأسطول الإغريقي قاصدا ساحل تراقيا الإيجي، فسمح من ثم للأسطول المقدوني بالإبحار دونما عائق عبر البسفور إلى بحر بروبونتيس. وتتكرر «حالات اعتراض» مماثلة للمعلومات في مراحل كثيرة حاسمة في مشوار فيليب العسكري. (5) الأفراد العسكريون
كان توسيع الوحدات العسكرية وتنويعها يتطلب عددا أعظم من الأفراد، وقدرا أكبر من التدريب المتخصص لهم. كان النجاح في الميدان في مواجهة الخصوم من شأنه أن يوفر في آن واحد معينا أكبر للتجنيد ومجندين ذوي خبرات خاصة، كالأغريانيين الذين كانوا يسكنون حوض نهر سترايمون واشتهروا ببراعتهم في رماية النبال، والتيساليين الذين كانوا أبرع من ركب الخيل من الإغريق. ولأن التوسع كان متذبذبا كحركة الأكورديون أثناء التاريخ المقدوني، لا نستغرب أن ارتبطت الابتكارات العسكرية، وخصوصا تقوية وحدات المشاة، بفترات التوسع. الشيء اللافت بخاصة هو الزيادات في الرقعة الجغرافية أثناء حكم الإسكندر الأول في القرن الخامس وفيليب الثاني في منتصف القرن الرابع؛ إذ كان لب المملكة الأصلي في القرن السادس ومستهل القرن الخامس أشبه بقوس من الأرض بمحاذاة الساحل الغربي للخليج الثيرمي، مع امتداده لمسافة قصيرة على الساحل الشمالي. وفي عهد الإسكندر الأول، ازدادت المساحة إلى 6600 ميل مربع (17200 كيلومتر مربع) بإضافة أجزاء من مقدونيا العليا؛ وبحلول نهاية عهد فيليب الثاني شملت السيطرة المقدونية 16680 ميلا مربعا (43210 كيلومترات مربعة). يقدر عدد السكان في زمن فيليب بسبعمائة ألف نسمة، مقارنة بمائتين وخمسين ألف نسمة قبل ذلك بما يزيد على قرن بقليل، وسيشكل الذكور البالغون ما بين 160 و200 ألف من هذا العدد، وهؤلاء هم معين التجنيد العسكري.
الخريطة 3: توسيع لب مقدونيا في عهد فيليب الثاني.
كان الأفراد يجندون كمشاة وخيالة على السواء، وكما أسلفنا كانت هناك وحدات خاصة بين كل من المشاة والفرسان، ومع أن الشواهد لا تبين طبيعة التدريب، فإنها تشير إلى أنه كان دائما. وكان مسار الشباب الأرستقراطي المهني الذي يبدأ مبكرا في حوالي سن الثالثة عشرة هو الآخر مسارا دائما؛ إذ كان مصمما لتخريج ضباط يتسمون بالكفاءة والولاء. وتشير الشواهد إلى أنه كان ناجحا بشدة، وإن لم يكن بصورة كلية. ربما كان الارتقاء الأولي تجربة مهينة؛ إذ كان يضع شابا من النخبة في مرتبة جندي مشاة. ومن ناحية أخرى، كان هؤلاء الشباب جزءا من وحدة مشاة أرستقراطية أصغر تتمتع بارتباط خاص بالملك، وكانوا بهذه الصفة يواصلون مباشرة مسئوليتهم الأصلية، وهي حراسة الملك في ميدان المعركة، وفي أثناء ذلك يمكنهم إثبات جدارتهم بالترقي في سلم القيادة. وصلت إلينا معلومات كافية عن ضباط الإسكندر تبرهن على أهمية التدريب المبكر في الوقوف على الرجال الذي سيعينون في النهاية في المناصب ذات الشأن، وكانت هناك هرمية مماثلة في صفوف الخيالة، التي كانت تضم وحدة نخبوية هي فصيلة الملك؛ وعلى هذا النحو أيضا كانت تختبر همة الرجال الأصغر سنا بغية تكليفهم بمهام مستقبلية. كانت هناك حاجة أيضا إلى غير الأرستقراط كضباط مسئولين عن الجنود المدرعين العاديين. ومع أن غالبية هؤلاء القادة كانوا ينتمون إلى خلفيات مغمورة، يبدو منطقيا أن نتصور وجود سلم للارتقاء هنا، وأيضا فيما يخص الجنود الملكيين.
من المناصب المرموقة بخاصة أن يكون المرء واحدا من حراس الملك الشخصيين السبعة أثناء وجوده في بيلا، وأيضا وهو خارجها على رأس حملة. وكان الفرد يشغل هذا المنصب مدى الحياة ما لم يوجد ما يبرر إقالته. وقد أورث فيليب الإسكندر ثلاثة من حراسه الشخصيين؛ وهم أريباس الإبيروسي الذي ربما كان من أقارب أوليمبياس وارتحل مع الإسكندر حتى وصل مصر ومات فيها متأثرا بمرضه، ورجل يسمى ديميتريوس استمر كحارس للإسكندر حتى أقيل بشبهة الخيانة سنة 327، وبالاكروس الذي خدم مع الإسكندر حتى نهاية معركة إيسوس سنة 333، وعندئذ عين حاكما على قيليقية. بالإضافة إلى الحراس الشخصيين، كان جميع القادة معاوني الملك ذوي أهمية بالغة لنجاح المقدونيين في الحرب، وتدلنا أمثلة ثلاثة من أقوى رجال فيليب على تاريخهم الشخصي وطبيعة مشاويرهم المهنية.
كان أنتيباتروس، المولود بعد سنة 400 بقليل، يكبر فيليب بنحو 17 أو 18 سنة، ومن ثم كان ناشطا في خدمة أبي فيليب وإخوته الذين سبقوه على العرش. كان أنتيباتروس ابن لولاوس وينتمي إلى مكان يسمى باليوريا موضعه غير مؤكد. ما يؤيد انتماء لولاوس إلى أسرة أرستقراطية تعيين بيرديكاس الثاني إياه قائدا للفرسان سنة 432 (ثوكيديدس، الكتاب الأول، 62، 2)؛ ومنزلة أولاده؛ إذ كان اثنان من أبناء أنتيباتروس (فيليبوس ولولاوس) من حراس الملك الشخصيين، وكان لبناته دور مهم في إقامة التحالفات من خلال الزواج؛ وقد أسند إليه شخصيا أداء مجموعة متنوعة من الخدمات، كقائد في الحملات، وللتفاوض على شروط السلام لدى انتهاء الحرب المقدسة سنة 346، ومع أثينا بعد النصر المقدوني في خيرونية سنة 338، ولتمثيل فيليب في الفعاليات الهيلينية الجامعة المهمة كدورة الألعاب البيثية سنة 342، وللعمل كوصي على العرش في غياب فيليب. خلاصة القول أن أنتيباتروس نموذج يمثل العائلات الأرستقراطية التي تنتمي إلى لب المملكة، والتي كان يمكن الاعتماد عليها كحلفاء للملك الأرغي، على الأقل في هذه الحالة.
أما بارمنيون، الذي تزامن مولده تقريبا مع مولد أنتيباتروس، فهو إن لم يكن يساوي أنتيباتروس في أهميته عند فيليب، فقد كان يدانيه. روى بلوتارخس أن فيليب قال إن الأثينيين ينتقون 10 قواد كل سنة، لكنه لم يعثر على مدى سنوات إلا على قائد واحد وهو بارمنيون (بلوتارخس، أقوال فيليب الثاني = الأخلاق، 177سي). تعود أصول بارمنيون بن فيلوتاس على الأرجح إلى مقدونيا العليا. وبعد أن ساعد بارمنيون فيليب في تثبيت دعائم حكمه في السنوات المضطربة الأولى، قاد حملات ألحقت هزيمة بالإليريين سنة 356، وتفاوض على بنود السلام بجانب أنتيباتروس سنة 346، ووقع عليه الاختيار ضمن قادة القوة المتقدمة في آسيا الصغرى سنة 337. كان ابنه، المسمى أيضا فيلوتاس، من غلمان الملك، وترقى في المناصب المهمة خلال مشواره؛ وكان الابن الذي يصغره، واسمه نيكانور، ضابطا في صفوف الجنود المدرعين الصحابة وعين حاكما في غرب الهند؛ وأما ابنه الأصغر، ويسمى هكتور، فمات أثناء حملة الإسكندر في مصر. تبين هذه الأسرة المهمة أهمية الروابط مع إقليم مقدونيا الأوسع وكذلك أخطارها؛ إذ أعدم بارمنيون وفيلوتاس بعد ثبوت خيانتهما الإسكندر الثالث.
ولد أنتيغونس، الملقب بالأعور، سنة ميلاد فيليب. ويوصف أنتيغونس بأنه رفيق كل من فيليب والإسكندر (جوستين، الكتاب السادس عشر، 1، 12)، وهو ارتباط يفترض ضمنا اكتسابه أهمية في عهدي الملكين الأرغيين، وإن كنا لا نعرف إلا القليل عن نشاطه السابق؛ ومن ثم فمنزلته بل موطنه الأصلي أيضا غير مؤكدين، وإن كان بعضهم حاول إثبات انتمائه إلى بيرويا شمال نهر هالياكمون في جنوب هيماثيا. لا توجد خيوط تدلنا على منزلته الاجتماعية فيما وصل إلى أيدينا من شواهد على التدريب المهني الذي كان يتلقاه الشباب الأرستقراطي، وأيا ما كانت طبيعة منزلته الاجتماعية، فمن المستبعد تماما أنه كان من بين غلمان الملك نظرا لتاريخ ميلاده، زد على ذلك أن هذا التقليد تبلور رسميا في عهد فيليب. كذلك لم يتلق ابنه الذي عاش حتى بلغ مبلغ الرجال تدريبا في بيلا، بل نشئ بصحبة أبيه في الأناضول التي أرسله إليها الإسكندر سنة 333. يمكن أن نجد أمارة أخرى على منزلته الاجتماعية الأصلية في منصبه القيادي وقت عبور الإسكندر إلى الأناضول؛ إذ أسندت إلى أنتيغونس قيادة المشاة الثقيلة الإغريقية الحليفة، وهو منصب رفيع يقينا لكن ليس في رفعة منصب القيادة في وحدات الجنود المدرعين والخيالة الملكية المقدونية. كل هذه التفاصيل ربما تشير إلى منزلة اجتماعية غير نخبوية؛ ومن ناحية أخرى، ربما كانت زوجته قريبة لفيليب كبنت من بنات أحد فروع السلالة الأرغية. وقد يكشف الجمع بين هذه الخيوط القليلة عن فئة ثالثة من المقدونيين الذين استقطبوا إلى الجهاز العسكري للمملكة المتسعة، وهم أفراد الأسر المقيمة في لب المملكة الذين يستبعد تنافسهم على العرش الأرغي. ومع عدم انتمائهم إلى أصل أرستقراطي، استطاعوا الترقي في المناصب والمنزلة بالزواج وبإثبات جدارتهم وولائهم للملك الأرغي الحاكم. كان معين المعاونين ضيقا طوال معظم التاريخ المقدوني السابق، وكان على فليب أن يفكر تفكيرا إبداعيا في صنف الرجال الذين لا يملكون المهارات فحسب، بل الذين لديهم أيضا أسبابهم الوجيهة ليدينوا بالولاء للقائد العام للجيش. (6) نتائج الإصلاح العسكري
خلاصة القول أن فيليب صاغ هيكلا تنظيميا وتدريبيا فعالا لتلبية متطلبات مملكته الأولية، وهي الدفاع عن قلب المملكة، تليه السيطرة على المناطق المحيطة والعمل الهجومي ضد الجيران المزعجين الأبعد موضعا. كانت الأداة الأساسية جيشا كبيرا جيد التدريب جاهزا للتحرك فور صدور الأوامر. كانت الحاجة تدعو إلى أعداد كبيرة من الجنود، من مشاة عاديين وخيالة متمرسين ووحدات خاصة كرماة النبال، وكانت قيادة هذه الوحدات تحتاج إلى أعداد كبيرة من القادة المدربين جيدا. كانت مركزية القيادة ضرورية لتنسيق الوحدات والمسئولين المعاونين ، ومن دونها كانت المصالح الإقليمية، مدفوعة بطموحات الزعماء المحليين، ستقلص سلطة الحاكم الأرغي الاسمي بسرعة. تحقق أحد جوانب المركزية بتركيز الأنشطة في موضع واحد، فالسفارات وتطوير آلات الحصار وتدريب الضباط المستقبليين وتخطيط الحملات والرقابة على الموارد وحياة الملك وآل بيته الخاصة؛ كلها تركزت في بيلا. وكما تكشف لنا الشواهد الآثارية التي جادت بها بيلا، فإن علينا فيما يبدو إعادة النظر في فكرتنا عن وجود تنظيم سياسي غير مهيكل في جوهره هناك؛ فعلى الرغم من أن التنظيم السياسي المؤسسي لم يكن بعد على شاكلة نظيره الفارسي المعاصر، توجد أمارات واضحة على الهيكلة النظامية، وربما بدأ مسئولو البلاط المقدوني يتولون مناصب إدارية، مثلما جادل بعضهم قياسا على المؤسسات الأوروبية في القرون الوسطى. لكن حتى شواهدنا الضئيلة تشير إلى أن بيلا كانت مقر دواوين الدولة النظامية، كأمانة السر، وتطوير التكنولوجيا العسكرية، والرقابة على تخصيص الموارد. ولا شك أن اتساع الأنشطة في بيلا تطلب إشرافا مستمرا من جانب مسئولين متنوعين مدربين على مهام عملهم، ويملكون الكفاءة لإدارة شئون من تحت أيديهم، ويرجى أن يكون لديهم ولاء.
كان القول الفصل في كل تلك الأنشطة قول الملك، ومع نجاح حملاته صارت لديه الحوافز التي يقدمها للجنود العاديين والقوات النخبوية على حد سواء. وبإنشاء سلم تدريبي للضباط المستقبليين واتخاذ مكان التدريب في بيلا، أقام فيليب أواصر جديدة مع اليافعين الذين يرجون أن يكونوا شخصيات مهمة في أنشطة تبشر بأن تكون مجزية؛ فلم يكن يوجد إلا شخص واحد في أي وقت بعينه يمكنه أن يكون حاكما لدولة لنكستيس أو أوريستيس المستقلة، لكن كان هناك لنكستيون وأوريستيسيون كثيرون يمكنهم التمتع بالترقي في المناصب القيادية المهمة في الدولة المقدونية. كان الملك الأرغي يرجو أيضا ميزة شخصية، وهي أمنه، الذي كان في أحوال كثيرة جدا عرضة للخطر من خلال الاجتياحات العسكرية للمملكة، ومن خلال المؤامرات التي يحيكها أفراد السلالة الأرغية الآخرون، ومن خلال طموحات حكام المناطق التي كانت ذات يوم ممالك مستقلة.
يتجاهل مثل هذا التأكيد على أهمية القيادة الملكية المؤسسات الإدارية الأخرى الموجودة في معظم الدول؛ ألم تكن هناك هيئة أو مؤسسة سياسية أخرى ذات شأن كبير في حياة مقدون الإدارية بجانب القيادة الشخصية وجمعية الجيش؟ لا يوجد ما ينم عن وجود مدونة قوانين مكتوبة تنظم العدالة وتطبيقها، ويبدو أن القانون العرفي في صورته الشفهية كان يحدد الحقوق والمسئوليات.
ألم يكن هناك مجلس استشاري؟ لا يوجد ما ينم عن وجود مجلس رسمي طوال تاريخها المبكر، وإن كان المرجح أن مجلسا غير رسمي لعب دورا في اتخاذ القرارات. وربما تكون النظائر الهوميرية من جديد مفيدة لنا في هذا الصدد؛ فمثلما تشاور أجاممنون مع مختلف الملوك، كذلك تشاور فيليب مع كبار ضباطه، من أمثال أنتيباتروس وبارمنيون وأنتيغونس، لتنسيق الحملات أو تفويض المسئوليات. وتتحدث المصادر التي بين أيدينا عن مشاورات من هذا القبيل جرت بين الإسكندر وضباطه، ومن أشهرها مناقشة عرض داريوس الذي تضمن تقديم تنازلات بعد النجاحات المقدونية المتكررة:
عندما ذكر أمر هذه التنازلات في ملتقى للصحابة، يقال إن بارمنيون قال للإسكندر إنه لو كان الإسكندر لرضي بتلك الشروط لينهي بذلك الحرب دون مزيد من الخطر؛ فأجاب الإسكندر بارمنيون بقوله إنه لو كان بارمنيون لفعل ذلك بالضبط، لكن لأنه الإسكندر فسيرد على داريوس على نحو ما بين. (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 2)
بمعنى أن الإسكندر لم يقبل الشروط المعروضة.
كان المشاركون في هذه الجلسات ينتمون على الأرجح إلى صحابة الملك المقربين، وإن كان هذا لا يعني أننا نقول بوجود مجموعة ثابتة من الصحابة يشكلون المجلس، فالرجال الأقرب إلى الملك سيكونون غالبا في أماكن بعيدة يؤدون مسئوليات أخرى موكلة إليهم. غير أن الأفراد الذين هم موضع أكبر ثقة من الملك كانوا يشكلون قوة متنفذة، وكان الإسكندر يدين إلى حد كبير بالفضل في توليه الملك إلى الدعم الذي قدمه له صحابة فيليب .
تكشف نجاحات مقدون أثناء عهدي فيليب والإسكندر عن أحد جوانب مبتكرات فيليب، وقد عبر جاك إيليس عن الجانب الآخر لتلك النتائج تعبيرا دقيقا وجيدا بقوله:
لكن لو كان الجيش أداة الوحدة الجديدة ومظهرها في آن واحد، فمن الضروري أكثر حتى من ذي قبل أن تكون الأهداف العسكرية دائما نصب الأعين، والأهم من ذلك تحقيق النجاحات العسكرية خشية أن يوجه الجيش الطاقات المكتشفة حديثا ليعنى بشئون نفسه وبالدولة. بمعنى أنه بالرغم من أن همة فيليب وفطنته بلورتا تلك الثورة على الأقل، فإنه كان مقيدا - شأنه شأن أي شخص آخر - بالنتائج التي ترتبت عليها، أي كان يمتطي ظهر الوحش الذي أطلق سراحه. (الصفحة 9)
كان الجيش الجديد أداة التوحيد والتوسيع والمركزية تحت قيادة ملك يحكم انطلاقا من بيلا، وكان ضروريا لاستقرار المملكة واستتباب سلطة الملوك الأرغيين على حد سواء؛ ومن ثم لزم أن يكون موجودا على الدوام. كانت وظيفته بالطبع صون سلامة أراضي المملكة مهما كانت مساحتها، ومع التوسع وإحلال السلام في المزيد من الأقاليم، دعت الحاجة إلى أهداف جديدة، وهكذا كانت استدامة الملك الفرص المناسبة لجيشه بندا بالغ الأهمية على أجندته.
كان تأمين السلطة الملكية أيضا مرتبطا بالابتكارات العسكرية إيجابيا وسلبيا على السواء؛ فغلمان الملك كانوا حرسه في بيلا، بل كان أيضا حراس الملك الشخصيون السبعة يمارسون وظيفة أشق بحماية ملكهم من الخطر، لكن أفراد كلتا الفئتين كان يمكن أن تحركهم أحقادهم الشخصية؛ إذ قتل فيليب على أيدي أحد «غلمانه»، ويزعم أن أحد حراس الإسكندر السبعة كان متورطا في مؤامرة ضده. كان كثير من جنود فيليب وضباطه من مناطق مقدونيا العليا، وقد أحسن هؤلاء، مثل بارمنيون، خدمته وارتقوا في المناصب القيادية الرفيعة. وكان شخص يدعى الإسكندر من المملكة اللنكستية من أول من أعلنوا تأييدهم الإسكندر الثالث لدى موت فيليب، ورافق الإسكندر في حملته في بلاد فارس، وأسندت إليه مناصب مهمة كقيادة الخيالة التيسالية، لكن اشتبه في تآمره على الإسكندر، فألقي القبض عليه وسجن وفي النهاية أعدم سنة 330. كان ممكنا لصغار الضباط أيضا أن يخونوا؛ إذ فر رجل يدعى أمينتاس بن أنطيوخوس من خدمة الإسكندر إلى داريوس، وقاد المرتزقة الإغريق في معركة إيسوس. ولو غضب الجنود النظاميون على قائدهم، فالتمرد ممكن دائما على الرغم من يمين الولاء الذي أدوه بمناسبة اعتلاء الملك العرش (بوليبيوس، الكتاب الخامس عشر، 25، 11؛ كورتيوس، الكتاب العاشر، 7، 9).
المغزى أن «الوحش» كان له ذيل قوي يضرب به الملك المقدوني ويضرب به أعداء الملك ومملكته، وكان الأحوط لقائده أن يبقي عينيه مفتوحتين على حركات هذا الذيل.
الفصل السادس
ملاقاة التهديد البعيد
كتب فرناند بروديل في تأريخه الواسع الذي يحمل عنوان «الذاكرة والبحر المتوسط» عن «خطأ الإسكندر»؛ بمعنى قيادته قواته شرقا لا غربا؛ إذ لو اتخذ قراره بالسير غربا، «أفليس من الجائز أنه كان سيحول دون المصير الذي لاقته روما؟» (الصفحة 250) ومع ذلك فإن معاصرين للإسكندر، بل أيضا ملك آخر يحمل اسم الإسكندر (صهره الذي كان يحكم إبيروس)، وجهوا اهتمامهم نحو إيطاليا، لكن لم يكتب النجاح إلا لقليلين. المدهش أن الإسكندر الثالث المقدوني حقق نجاحا غير عادي في مواجهة الإمبراطورية الفارسية المترامية الأطراف والثرية والقوية، وكل من اختيار الخصم والنجاح في مواجهته يستحق منا التأمل؛ فلماذا كانت بلاد فارس هدف الإسكندر؟ وماذا كانت حالة تلك الإمبراطورية سنة 336؟ بالإضافة إلى ذلك، توجد قضايا أخرى عديدة ستساعدنا على فهم الإسكندر نفسه: إلى أي مدى كانت معرفته عميقة بالإمبراطورية الأخمينية؟ وإلى أي مدى كان هيكلها وثقافتها أجنبيين عليه؟ وهل أثر فتح بلاد فارس على خططه التالية؟ (1) إنشاء الإمبراطورية الأخمينية
خرجت إلى الوجود في أواخر الألفية الرابعة في شرق البحر المتوسط ثقافات معقدة على هيئة دول-مدن فرادى، ومع توسيع دول منطقة ما بين النهرين رقعتها، برزت ممالك أكبر في أواخر الألفية الثالثة والألفية الثانية في مصر وفي الشرق الأدنى؛ كانت تلك الحضارات في الوقت نفسه بمنزلة مغانط تجتذب شعوبا جديدة إلى شبكات نشاطها. وبحلول أواخر الألفية الثانية كانت تهيمن على منطقة شرق البحر المتوسط قوتان كبيرتان؛ مصر في الجنوب والمملكة الحيثية في الشمال. فتت الانهيار الذي ما زال غامضا واعترى الحضارات في نهاية الألفية الثانية قواعد السلطة لقرون عديدة، لكن في القرن السادس اتحدت الشعوب التي وفدت متأخرا على المنطقة تحت حاكم واحد، وتوسعت توسعا انفجاريا، فصارت الإمبراطورية الوحيدة في عالم شرق البحر المتوسط. كانت هذه التوليفة هي الإمبراطورية الفارسية، التي كانت الدولة الأكبر في امتدادها في تاريخ منطقة البحر المتوسط والشرق الأدنى حتى إقامة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ امتدت من تراقيا إلى نهر سيحون في الشمال، ومن الساحل الليبي إلى نهر السند في الجنوب. انعكس تنوع الشعوب التي وحدت بإنشاء هذه الدولة المترامية الأطراف في فلسفة الحكم؛ إذ شجع حكامها الحفاظ على التقاليد الثقافية المحلية تحت هيكل الإدارة الموحدة.
شكلت الإمبراطورية سريعا في القرن السادس قبل الميلاد حينما كانت دول عديدة تتنافس على السيادة في أعقاب انهيار الإمبراطورية الآشورية في الشرق الأدنى سنة 612. كان أهم المتنافسين مملكتي بابل ومصر القديمتين اللتين تحررتا آنذاك من السيطرة الأجنبية، والميديين الهنود-الأوروبيين الذين وفدوا على المنطقة متأخرا وكانت أرضهم تمتد جنوبا من غرب أعالي دجلة إلى الخليج الفارسي. كلل مسعى الميديين بالنجاح، فبسطوا سيادتهم على شعب هندي-أوروبي آخر وهو الفرس الذين كانوا أقل اتحادا من أقاربهم في اللغة؛ ومن ثم كانوا عرضة للاختراق من جانب جيرانهم الأقوى منهم. تمخض زواج ابنة الملك الميدي بقمبيز الأول ملك فارس عن انعكاس أدوار الشعبين؛ إذ تآمر ابن جاء ثمرة هذا الزواج يسمى قورش ضد جده الميدي، الذي استسلم استسلاما مشروطا سنة 559. كان قورش أول ملوك السلالة الأخمينية - سميت تيمنا بأخمينس الذي يزعم أنه الجد الأكبر للسلالة - التي استمرت حتى حكم الإسكندر المقدوني.
ظفر قورش بلقب «الشاه» من خلال مشوار عاصف وطد خلاله الحدود الأساسية لإمبراطوريته. وإذ ورث النزاع بين ميديا ومملكة ليديا الأناضولية، زحف بجيشه فألحق هزيمة ماحقة بالجيش الليدي سنة 546، ثم سار إلى ساحل الأناضول، ضاما بذلك دول-مدن آسيا الصغرى الإغريقية إلى ملكه المتسع. وفي بلاد ما بين النهرين دعي إلى تولي إدارة بابل فتولاها سنة 538 ليكتسب بذلك أرضا غرب نهر الفرات. كان الجنود الفرس ناشطين في الشرق أيضا، وتحديدا في أفغانستان الحديثة وأطراف إيران وما وراء حدود الهند الحديثة. لم يبسط قورش سيادته على ثالث المتنافسين على السلطة؛ إذ ترك مهمة ضم مصر إلى الإمبراطورية إلى ابنه وخليفته قمبيز الثاني (530-522) بعد مقتله في الحرب ضد الماساجيتاي في الجزء الشمالي الشرقي من إمبراطوريته. كان قورش قد عين قبل ذلك قمبيز ملكا على مدينة بابل، التي يبدو أنه مكث فيها طوال معظم حكمه، وفي 526 أعد العدة لغزو مصر فأخضعها للسيطرة الفارسية بحلول صيف 525. وبالإضافة إلى توسيعه الإمبراطورية، تتسم سمعته بالولع بالوحشية في الروايات المصرية والإغريقية والفارسية على السواء، وقد مات سنة 522، إما انتحارا وإما قتلا.
بضم مصر بلغت الإمبراطورية أقصى اتساع لها تقريبا. كان واضحا أن الحكم المباشر على يد ملك مستقر في قلب فارس القديم لن يكفل السيطرة الفعالة. علاوة على ذلك، كان الكثير من الأقاليم التي ضمت إلى الإمبراطورية ذا حدود واضحة المعالم ونظم حكم مستقرة منذ زمن بعيد؛ فاستفاد الأخمينيون من المناطق المعلومة الحدود ومن هياكلها في استحداث هيكلهم الإداري الخاص بهم. كانت الأقاليم مرزبات (ساترابيات)، على رأس كل منها مرزبان (ساتراب، والكلمة أصلها فارسي قديم بمعنى حامي الإقليم)، وكان تعيين هؤلاء من لدن الملك يرمز إلى حقيقة أن السلطة النهائية منوطة به. وجد رابط آخر في الآصرة الشخصية بين المرازبة والملك، ويبدو أن أهمية أواصر الولاء الشخصية بين الأفراد، الشائعة جدا في المجتمعات القبلية، كانت تشكل أساس سلطة المرزبان. كان المرازبة في البداية من أبناء العائلات أو العشائر الفارسية المهمة الذين كان دعمهم ضروريا لاستقرار الحكم الأخميني، لا من أبناء الأسرة الحاكمة ذاتها. وفي بعض أجزاء الإمبراطورية ظل الحكام المحليون في السلطة، مؤدين مسئوليات المرازبة؛ وكان هذا هو الحال في الممالك الجزرية التي ضمت إلى الإمبراطورية، وفي إيفاجوراس ملك قبرص مثال على استمرار أشكال الحكم المحلية، لكنها باتت آنئذ تحت إشراف الهيكل الإمبراطوري.
الخريطة 4: دولة فارس الأخمينية.
في عهدي قورش وقمبيز، كانت المسئولية العسكرية واجب المرازبة الأول؛ لأنه على الرغم من تمام فتح الأقاليم التي كانت فيما سبق ممالك مستقلة، لم تكن الأوضاع استتبت تماما في كثير منها. وحتى بعد تحقق إحلال السلام، كان الحفاظ على النظام الداخلي مطلبا مستمرا . أضافت إعاشة الجنود بعدا اقتصاديا إلى مسئوليات المرازبة؛ إذ وقع فرض الضرائب وجمعها وتدبير السلع - وربما الأرض - للحاميات، على عاتق حامي كل إقليم. وعلى الرغم من حدوث تغيرات في طبيعة مسئوليات المرازبة على مدى القرنين أو نحوهما، اللذين انقضيا بين موت قمبيز ونهاية الملك الأخميني، بقي الهيكل الأساسي للسيطرة المحلية على الأقاليم في إطار مملكة مركزية كما هو.
نشب صراع خطير على السلطة العليا لدى موت قمبيز لكن تفاصيله غير واضحة، وانتهى سنة 522 بنجاح داريوس الأول، أحد أبناء العائلات الفارسية المهمة التي لعبت دورا قويا في تكوين الإمبراطورية في عهد قورش، زاعما أنه الحاكم التاسع من السلالة الأخمينية، وهو زعم إشكالي بسبب الاختلاف في النسب بين قورش وداريوس الأول، لكن ادعاء داريوس نال احترام معاصريه وخلفائه. اتجه اهتمامه في البداية إلى قمع الانتفاضات التي قامت في أجزاء كثيرة من دولته، فقضى بدعم من زعماء الأقاليم الموالية وقواتهم على تمرد معظم المتمردين في غضون سنة، وإن استمرت الثورات في بعض المناطق المشاكسة كبابل.
من الجائز تماما أن القوة العسكرية الكبيرة بإسراف التي كان يتمتع بها بعض حماة الأقاليم هي التي أفضت إلى إعادة هيكلة سلطة المرازبة، فحدت آنذاك سلطتهم العسكرية المستقلة استقلالا كبيرا بتقسيم السلطة بين مسئولين، فكان للمرزبان السلطة المدنية العليا، وأما القادة العسكريون داخل المرزبة فكانوا مسئولين مسئولية مباشرة أمام الشاه. وكان استحداث «كتاب الملك» و«أعين الملك» و«آذان الملك» لأداء الشئون ورصدها في الأقاليم مرتبطا على الأرجح بمحاولات لجم سلطة المرازبة. ويتضح عدم نجاح هذه الابتكارات بالكلية من واقع استمرار صعوبة الحد من سلطة المرازبة المستقلة ومواردهم التي تجلت في أحداث القرنين الخامس والرابع.
يحظى داريوس الأول باحترام كبير لإنشائه هيكلا إداريا متماسكا للأرض المترامية الأطراف الواقعة تحت السيطرة الفارسية، وهو هيكل ظل يوفر إطار السيطرة على الإمبراطورية التي ظفر بها الإسكندر المقدوني. وثمة نقش موجود في جبل بيستون يعود إلى زمن داريوس يصف الاثنين والعشرين إقليما الخاضعة له. أما من حيث التنظيم المرزباني، فكانت الإمبراطورية تنقسم إلى 20 مرزبة؛ كانت معظم المرزبات تضم عددا من المدن الكبيرة التي وفرت، كالحال في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، سبلا لمستوى آخر من الإدارة (العسكرية والمالية وأمانة السر)، ومع ذلك كان المسئولون المحليون خاضعين لسلطة المرازبة في أمور معينة. كانت بعض المدن تتمتع بوضعية فريدة؛ إذ وضعت بابل مثلا في بعض الأحيان تحت سيطرة أحد أبناء الملك الكبار، غالبا لاكتساب خبرة لمستقبله عندما يأتي يوم يخلف فيه أباه؛ فهيكل بابل الإداري المفصل الموروث من الألف سنة ونصف الألف السابقة جعل منها مركزا بالغ الأهمية وفرصة تدريب ممتازة.
تصف الألواح التي استخرجت من تخت جمشيد (برسبوليس) سلم السلطة لمرزبة بارس المركزية، وهو هيكل ربما يوحي بترتيبات مماثلة في أماكن أخرى في الإمبراطورية. ويبدو أن شخصا يدعى فرناكيس، وهو أحد أعمام داريوس، كان مكلفا بالشئون المالية والإدارية وشئون آل بيت الملك في المنطقة بأسرها. كان هناك معاون مهم يدير الخزانة بفروعها الإقليمية، وكان آخر فيما يبدو مسئولا عن تنسيق الإنتاج والمؤن، وثالث يمكن الربط بينه وبين الأرشيف المركزي.
توجد ألقاب أخرى مسجلة؛ إذ كان «الهيبارخ» يتولى قيادات خاصة، وكان أحد هؤلاء المسئولين مكلفا بقاعدة أسطول مهمة في آسيا الصغرى في كايمي. ترتبط مسئولية عسكرية جامعة بمنصب «كارانوس» الرسمي، وعندما تناقش المصادر الكارانوس فالحديث عن المسئولية عن قيادة جيش عظيم يجمع بين قوات أكثر من مرزبة واحدة. وشغل هذا المنصب على ما يبدو شخص يدعى أبروكومس بمناسبة ثورة قام بها شقيق ملك حاكم، فوجد الملك نفسه مضطرا إلى الاعتماد على كل ما هو تحت تصرفه من قوة عسكرية دون الاقتصار على قوة المنطقة المركزية وهي بارس.
كان الجيش ضروريا للحفاظ على الإمبراطورية، وحدد تنظيمه بدقة، فشكلت وحدات المشاة على ما يبدو من مضاعفات العدد 10 إلى 10 آلاف، مع وجود قادة على كل مستوى من المستويات. كانت الوحدة الأعظم شأنا؛ ومن ثم الأعظم امتيازا، وحدة «الخالدون الفرس العشرة آلاف» الذين كانوا يقومون بدور حرس الملك الخاص في ساحة المعركة. كانت القوة البحرية على قدر مساو في الأهمية لأمن الإمبراطورية، وكانت الأقاليم القريبة من البحر، وخصوصا فينيقيا وآسيا الصغرى، تقدم كلا من السفن والبحارة المدربين. كانت الخدمة العسكرية واجبة على كل شعوب الإمبراطورية؛ إذ يعدد هيرودوت 45 شعبا مختلفا في روايته حول الزحف الفارسي إلى اليونان بقيادة أحشويرش. كان هناك مصدر آخر للجنود والضباط فيما وراء حدود الإقليم الفارسي في ظل توافر أعداد كبيرة ومتزايدة من المرتزقة، الإغريق وغيرهم على السواء، للاستئجار في القرنين الرابع والثالث.
كان أحد ملامح الحكم في دول أخرى كثيرة غائبا إلى حد كبير عن الإمبراطورية الفارسية؛ إذ لم تكن توجد بها على ما يبدو هيئة استشارية رسمية. ومع أن مؤرخ الحروب الفارسية الإغريقي هيرودوت يصف مشاورات بين أحشويرش وكبار مسئوليه أثناء الحملة الإغريقية، لم يلعب أي منتدى دائم للنقاش دورا في اتخاذ القرار. وحتى أبناء العائلات السبع الكبرى التي قررت فيما بينها - وفقا لرواية هيرودوت - من يخلف قمبيز على العرش؛ لم تكن تتصرف دوما كمجموعة بعد اتخاذها قرارها بشأن إسناد الملك. والحقيقة أن اثنتين من هذه العائلات تختفيان من السجلات، ويرى أبناء العائلات الأخرى في وظائف بعيدة عن المركزين الملكيين شوشان وتخت جمشيد.
بالإضافة إلى تقسيم الإمبراطورية إلى وحدات إدارية واستحداث هيكل رسمي منظم لها، عمل الملوك على ربط ربوعها القاصية بعضها ببعض، ببناء الطرق والجسور والعبارات وصيانتها، وأبرزها «الطريق الملكي» الذي كان يمتد لمسافة 1600 ميل (2600 كيلومتر) من شوشان إلى سارديس، العاصمة الغربية للإمبراطورية، وكان آمنا نسبيا للمسافرين بفضل ما زود به من مخافر وحاميات. علاوة على ذلك، سمح نظام التتابع المستخدم في نقل الرسائل المهمة بإيصالها في غضون نحو أسبوع، وأما السفر العادي فكان يستغرق 90 يوما أو أكثر. كان تطوير عملة موحدة صورة أخرى من صور توحيد الإمبراطورية؛ إذ يسر التبادل التجاري في عموم المملكة.
شكل 6-1: ختم داريوس الأسطواني. حقوق الطبع محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
كان يوجد على رأس هذا الهيكل الملك الذي يتمتع بسلطة تكاد تكون مطلقة، على الأقل من الناحية النظرية. كان الملك محصورا في السلالة الأخمينية، وينتقل عادة من الأب إلى ابنه. كان الملك الأخميني يحكم بصفته نائبا عن الإله أهورا مزدا، رب الخير كله، ويقول نقش داريوس الأول في جبل بيستون: «بفضل أهورا مزدا أنا الملك. أهورا مزدا وهبني الملك.» كانت كلمته قانونا، وكل الناس يخضعون له، وكل الأملاك ملكا له، وإن كان من خلال السلم الإداري الذي أسلفنا بيانه. ومع ذلك كان الحكام الأخمينيون يبرهنون على جدارتهم من خلال أفعالهم، وبرهن كثيرون منهم على جدارتهم من خلال سماتهم البدنية؛ فقد وصف أحد أطباء البلاط داريوس بأنه الأجمل بين الرجال. وكان التدريب على الفنون البدنية كركوب الخيل ورمي الرماح والنبال يصقل عودهم ويشد قوامهم، وكان مما يزيدهم بهاء ملابسهم وحليهم؛ إذ يقول بلوتارخس متحدثا عن ملابس أحد ملوك القرن الرابع وحليه إنها قدرت بثلاثة ملايين رطل من الذهب. بل كان أيضا العدد الكبير من الخدم الذين يمسكون بالمظلات أو يهشون الحشرات أو يقدمون الشراب، يضفي مزيدا من الجلال على الملك. كانت هناك شعارات أخرى تنم عن منزلته السامية، ومنها عربة مقدسة يجرها الخيل، وخيمة ملكية مهيبة، وصور منقوشة على جدران القصور الملكية. كان التقليد الفارسي تعبيرا عن تقدير هذه المنزلة عبارة عن انحناءة إجلال، فكان الأقل شأنا يسجدون في حضور الملك.
كانت رفاهية الملك وزوجاته وأولاده مصونة، وكانت ملذاتهم ملباة، وكان من بين الامتيازات الملكية الحريم، وبأعداد كبيرة جدا في الغالب؛ إذ يروى أن داريوس الثالث فقد 329 من حريمه أثناء فراره من الإسكندر بعد معركة إيسوس. كان الخصيان مهمين بالقدر نفسه لآل بيته، وربما نشأت أهميتهم كحشم في جناح الحريم ورعاة لأولاد الملك، لكنهم تولوا بمرور الوقت مناصب رسمية وصاروا مؤتمنين ومستشارين للملك نفسه.
تختلف صورة النظام الإمبراطوري الفارسي هذه من نواح متعددة بمرور الزمن؛ إذ يصف الباحثون المتخصصون في التاريخ الفارسي تطوره بتجاوزه الروابط الإقطاعية إلى الهياكل الدواوينية. ومع تنامي الهيكل الرسمي، شهدت قيادة الملك الشخصية هي الأخرى تحولا، وفي خضم هذا التحول، بدأت تتبدى صعوبات في الحفاظ على التلاحم عبر المملكة المترامية الأطراف بحلول منتصف القرن الخامس. (2) المزيد من التوسع
قبل أن تتفاقم العيوب عقد داريوس الأول وخليفته أحشويرش العزم على توسيع رقعة المملكة، وبعد التعامل بنجاح مع العديد من الانتفاضات التي قامت في أجزاء متعددة من الإمبراطورية، وربما الشروع في إصلاحات إدارية؛ اتجه داريوس إلى المزيد من التوسع في سكيثيا وتراقيا وربما أيضا في منطقة نهر السند، عن طريق الاستكشاف البحري من الخليج الفارسي إلى مياه خليج عمان. وفي سنة 499 اضطر إلى التعامل مع ثورة أخرى قامت بها هذه المرة الدول الإغريقية في غرب الأناضول؛ إذ نجح المتمردون بمساعدة من دولتين إغريقيتين في البر الرئيس (أثينا وإريتريا في جزيرة وابية) في الاستيلاء على سارديس. وسواء أكان الإغريق غير قادرين على المضي في العمل العسكري أو غير راغبين فيه، فإنهم هزموا وعادوا إلى السيطرة الفارسية بحلول سنة 494، لكن ملابسات هذه الثورة لفتت انتباه الفرس إلى عالم البر الرئيس الإغريقي المزعج، ذلك العالم المنقسم إلى مئات الدول المستقلة المتحاربة على الدوام؛ فنظم داريوس عملين انتقاميين ضد المشاركين في الثورة من البر الرئيس، جاء الأول سنة 492 على هيئة حملة بحرية في شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من خضوع تراقيا ومقدون للضغط الفارسي، غرق جزء كبير من الأسطول في عاصفة قوية قبالة شرقي شبه جزيرة خالكيذيكي مع تكبد خسارة فادحة في الرجال. وبحلول سنة 490 كان الأسطول قد جدد، فأبحر عبر جزر كيكلادس قاصدا المضيق الواقع بين جزيرة وابية وأتيكا في البر الرئيس، للتعامل مع المساهمين في الثورة السابقة من البر الرئيس، وبعد الاستيلاء على إريتريا أحرقت معابدها ورحل سكانها إلى قلب الإمبراطورية الفارسية. ثم وجه الفرس اهتمامهم إلى الشريك الثاني في الجريمة، فنزلوا في السهل الكائن عند ماراثون شرق أتيكا، وهو المكان الذي احتشد فيه 10 آلاف أثيني مع فرقة عسكرية من دولة بلاتايا الصغيرة في وسط اليونان للتصدي لجيش يفوقهم بكثير. ولدهشة الجميع، هزم الجيش الفارسي في ماراثون.
لم يبذل داريوس محاولة ثالثة؛ إذ استحوذت ثورة قامت في مصر على اهتمامه الفوري. والواقع أن داريوس مات سنة 486 دون استعادة المرزبة السابقة إلى السيطرة الفارسية، فخلفه ابنه أحشويرش على العرش. ولم تعد مصر إلى وضعها السابق كمرزبة فارسية إلا في السنة الثانية من حكم الملك الجديد، ومن المهم أن ننوه إلى أن «مرزبانها» الجديد كان أخا لأحشويرش لا أحد أبناء أسرة أرستقراطية أخرى، وسننظر في دلالة هذا التغيير في السياسة المتبعة في موضع لاحق.
تسنى لأحشويرش آنذاك توجيه اهتمامه إلى المهمة غير المكتملة في اليونان، فجرد حملة هائلة لضم البر الرئيس اليوناني إلى الملك الفارسي. حشد جيش قوامه نحو 250 ألف رجل، وفقا للحسابات الحديثة، أثناء التحضير المتأني لحملة برية وبحرية مشتركة، وأقيم جسر مزدوج ضخم عبر مضيق هلسبونت لتيسير عبور الرجال والدواب والمؤن، وأنشئت مستودعات للأغذية على امتداد الطريق، وأقنعت دول إغريقية عديدة بالتحالف مع الفرس، وإن لم يكن التحالف الرسمي فالوعد بالحياد على الأقل. نجح أحشويرش في أول الأمر، فصار الملك المقدوني تابعا فارسيا بحكم الواقع، مع استخدام شمال مملكته كنقطة انطلاق للحملة المتجهة جنوبا. هزمت القوات الإغريقية المسيطرة على الممر الحيوي عند ترموبيلي، وسرعان ما دمرت أثينا بعد ذلك. لكن على الرغم من هذه الانتصارات، كانت الغلبة للإغريق بحرا في معركة سلاميس في الخليج الساروني؛ مما أقنع أحشويرش بضرورة العودة إلى عاصمته، وفي السنة التالية هزمت القوات الإغريقية القوة البرية الفارسية التي تركت في بلاتايا. وفي اليوم ذاته، أو بعده بفترة وجيزة، انتصر الأسطول الإغريقي في معركة حاسمة ضد الأسطول الفارسي قبالة ساحل آسيا الصغرى، وبعد ذلك باثنتي عشرة سنة، ألحق ائتلاف من الدول الإغريقية، بقيادة عليا من أثينا، هزيمة أخرى بالأسطول الفارسي قبالة ساحل الأناضول الجنوبي. آذن هذا النجاح الإغريقي بالحلقة الأخيرة في محاولة لتحرير الدول الإغريقية بآسيا الصغرى من السيطرة الفارسية؛ ومن ثم تقليص رقعة الإمبراطورية الفارسية، ولن يحتفي الإغريق وحدهم بنصرهم، بل سيشاركهم إياه أيضا المقدونيون، الذين كانوا قد جروا إلى محاولة التوسع الفارسية غربا.
على الرغم من أن هذه الخسائر لم تمزق أوصال الإمبراطورية، أو تستنزف خزانتها، فإنها برهنت على أن التوسع المستمر بعيدا عن قلب الإمبراطورية مجانب للحكمة؛ إذ انتفضت بابل ثائرة من جديد فنشرت تعزيزات عسكرية في آسيا الصغرى في سبعينيات القرن الخامس. وفي العقد التالي، بدأت انتفاضات أوسع انتشارا، وإن كان أحشويرش لم يعش للتصدي لها. غير أن وفاته تبرهن على عيبين خطيرين في هيكل الدولة الفارسية؛ إذ قتل على يد المسئول النبيل المهم أرتبانس بمساعدة أحد الخصيان حراس السرير، وكان هدف أرتبانس - الذي لم يتحقق - على ما يبدو الاستحواذ على الملك لنفسه. كان يوجد مرشحون آخرون لولاية العرش ممثلين في أبناء أحشويرش الشرعيين الثلاثة: داريوس وهستاسبس وأرتحششتا، مرتبين بحسب السن. كان العرف أن يخلف الملك أكبر أبنائه، لكن في حالتنا هذه عمد أرتحششتا إلى قتل داريوس، ثم حاول أرتبانس قتل أرتحششتا، لكنه هو الذي قتل. ولي العرش أرتحششتا، لكن لم يستتب له الملك إلا بعد أن واجه تحدي أخيه الموجود على قيد الحياة هستاسبس، الذي زحف على رأس قواته من مرزبته في باخترا لمنازعة أخيه على العرش، فلقي حتفه في المعركة. واستباقا للأحداث نقول إن قتل الملك الحاكم والصراع بين الخلفاء المرتقبين سيصيران سمة معظم ما تبقى من تاريخ السلالة الأخمينية. ومن نافلة القول أن انعدام الأمن على رأس السلطة المطلقة يحدث خللا في هيكل السيطرة بأكمله.
حكم أرتحششتا بعد رحلته الوعرة إلى العرش 40 سنة (465-424) انشغل خلالها بالاحتفاظ بالأقاليم التي ضمها أسلافه إلى الإمبراطورية بدلا من توسيعها. واصل الإغريق المزعجون هجماتهم على دولة الفرس بإرسال حملة كبيرة إلى مصر، التي كانت ذات يوم مملكة مستقلة، لانتزاع السيطرة عليها من أيدي الفرس. انطلقت الحملة سنة 461 وحققت بعض النجاح الأولي، ولم يهزم الإغريق إلا سنة 454. ثم أبرمت معاهدة سلام بين فارس وأثينا بعد ذلك بخمس سنوات. في تلك الأثناء، كان الإغريق ناشطين أيضا في إثارة المشكلات في آسيا الصغرى، ولمعالجة الوضع المتقلقل أرسل أرتحششتا ابنه قورش إلى المنطقة برتبة كارانوس، أو قائد أعلى. وفوق ذلك ثار رجل يدعى ميجابيزوس في سوريا بمعونة مرتزقة إغريق، ويبدو أن ثمة أعمالا عدائية جرت في يهوذا. برزت إلى السطح مشكلات أخرى على أطراف الإمبراطورية، فحدثت قلاقل في باخترا، وأما في قبرص فكان لدى الملك الأصلي إيفاجوراس طموحاته الخاصة لتوسيع الإقليم الذي تحت سيطرته، على الرغم من تبعيته الاسمية للشاه الفارسي.
كان تخلي ذلك الملك الأخميني عن اسمه الشخصي (الذي ربما كان «أرشو») مقابل اتخاذ لقب ملكي؛ أمارة على تغيرات أعمق داخل الهيكل الإمبراطوري، ويعني اسم أرتحششتا «السلطة من خلال الإله أرتا». يكشف هذا التطور عن تغير لطيف في طبيعة الملك؛ إذ بينما كان استخدام الملك اسمه الشخصي يؤكد على قدرته على الحكم من واقع سماته الذاتية، يؤكد اتخاذ لقب ملكي على الشرف الموروث الذي يجلبه هذا المنصب. ثمة تذكرة أخرى بالسلطة الملكية تجلت في صور الملوك التي صارت ترى آنذاك على المسكوكات النقدية الفارسية. ويوحي كلا هذين التطورين بإضفاء المزيد من الطابع المؤسسي على الحكم الفارسي.
مات أرتحششتا الأول ميتة طبيعية، وهو شيء لن يناله إلا قليل من خلفائه. والواقع أن ابنه الشرعي وخليفته أحشويرش قتل بعد توليه العرش بخمسة وأربعين يوما على يد أحد أبناء أرتحششتا غير الشرعيين، وهو سغديانوس. حشد ابن آخر من أبناء أرتحششتا غير الشرعيين، وهو أوخوس، جيشا في مرزبته القزوينية وانضم إليه مرزبان مصر في تنافسه على العرش؛ غير أن ثمة مشكلة خطيرة وقعت وتمثلت في ارتكاب قائد فرسان آل البيت في عهد سغديانوس خطأ تنفير جنود القصر. ترك سغديانوس حيا نحو ستة أشهر بعد استسلامه ثم قتل. صار أوخوس ملكا، فاعتلى العرش متخذا لقب داريوس الثاني، ولم يكن عهده الذي استمر حتى 404 عهد سلام، فبعد مواجهته ثورة أخيه الشقيق آرسيتس، تصدى للمتمردين في ميديا والأناضول ولانتفاضة قوم يسمون القزوينيين يعيشون جنوب بحر قزوين. ما كان إشكاليا بالقدر نفسه ضلوع فارس في الشئون الإغريقية؛ إذ كان انتهاجها سياسة متذبذبة قوامها تأييد إسبرطة وحلفائها، ثم تأييد أثينا، أمرا فادحا في التكلفة المالية وفي التحريض على سياسات مختلفة بين المرازبة المعنيين أشد العناية باليونان، وتحديدا مرازبة الأناضول.
لدى موت داريوس الثاني ، ميتة طبيعية على ما يبدو، خلفه سنة 405 أو 404 ابنه الأكبر أرسيس، الذي اعتلى العرش وتلقب بأرتحششتا الثاني. اضطر الملك الجديد، في مرحلة مبكرة من حكمه، إلى التعامل مع أخيه قورش، الذي كان يحاول خلعه من على العرش. كان قورش قد حشد قوة كبيرة بممارسته الدور العسكري الذي أسنده إليه أبوه في الأناضول، وقد وجهها آنذاك ضد أخيه. ومثلما ينبئنا أحد المشاركين، وهو زينوفون الأثيني، الذي يصف الحملة في أنباسته الشهيرة، كان حوالي 13 ألف رجل من ذلك الجيش من المرتزقة الإغريق الذين ساروا بداية من سنة 401 غربا عبر الإمبراطورية لملاقاة جيش أرتحششتا في كوناكسا شمال بابل، فحسمت النتيجة بمقتل قورش، مما سمح لأرتحششتا بالحكم حتى سنة 359. شابت تلك العقود ثورات وتمردات، فثارت مصر، التي نالت قبل ذلك استقلالها لمدة ستين سنة حتى أعيدت إلى السيطرة الفارسية الجزئية على الأقل بين سنتي 404 و400. مضت حوالي خمس عشرة سنة قبل أن يحشد جيش لاستعادة السيطرة عليها، لكنه أخفق. كان الملك الأخميني مشغولا في موضع آخر؛ إذ وقعت قلاقل في بقاع كثيرة من آسيا الصغرى نتيجة السخط الداخلي ونشاط إسبرطة العسكري في المنطقة على السواء. وكان ملك قبرص الإغريقي إيفاجوراس أيضا منهمكا في توسيع نشاطه، فاستولى على صور الفينيقية مما قوى شوكة الثورة في جنوب الأناضول. يمكن رؤية ما يعرف باسم «سلام الملك» لسنة 386 في ضوء السيطرة على التدخل الإغريقي في أراضي الدولة الفارسية، وذلك بإعلان تبعية المدن الآسيوية ومعها جزيرتا كلازوميناي وقبرص للشاه، وضرورة إنهاء كل التحالفات الكبيرة التي تجمع الدول الإغريقية. لم ينجح هذا السلام؛ إذ شهدت ستينيات ذلك القرن ثورة كثير من المرازبة الغربيين ضد الملك، وهو وضع استمر حتى الخمسينيات.
كانت علاقاته حتى مع أسرته مشوبة بالصراع؛ إذ أعدم ابنه الأكبر وولي عهده بعد تآمره ضده ، وانتحر ابن شرعي آخر، وقتل ابن غير شرعي أثير لديه؛ فخلفه على العرش ابنه الشرعي الذي بقي على قيد الحياة، وهو أخوس، متخذا لقب أرتحششتا الثالث. توحي شهادة من كاتب ينتمي إلى القرن الأول قبل الميلاد بأنه كان قلقا بشأن قدرته على النجاة من التهديدات النابعة من أفراد الأسرة، وللحيلولة دون بعض المحاولات على الأقل، دفن المرأة التي كانت زوجة أبيه وأخته في آن واحد حية، وحبس عمه وأكثر من مائة من أبنائه وأحفاده هو شخصيا في فناء قتلوا فيه بزخات من الأسهم.
وهكذا عاش ليحكم لمدة 21 سنة، أكبر نجاح حققه فيها هو استعادة مصر سنة 342. ولمعالجة الوضع في الأناضول أمر المرازبة الغربيين بحل الجيوش الخاصة التي شكلوها من قبل. ويتضح لنا تمكنه من إعادة توطيد بعض السيطرة المركزية من قرار أرتبازوس، مرزبان فريجيا، التماس اللجوء لنفسه وأسرته بعيدا عن طائلة يد أرتحششتا، وتحديدا في بلاط فيليب الثاني في بيلا. وأخمدت الثورة في قبرص بصعوبة بالغة، بل تمكن أيضا قواده من إنهاء ثورة القزوينيين التي ظلت مستعرة منذ عهد داريوس الثاني.
كانت نهاية أرتحششتا الثالث شبيهة بنهاية معظم أسلافه وكذلك بنهاية خليفته أرتحششتا الرابع؛ إذ قتل سنة 338 على أيدي أبنائه بمساعدة أحد أعظم مسئوليه نفوذا، وهو الخصي باغواس. وبعد أن حكم أرتحششتا الرابع سنتين، تعرض وأبناؤه للتطهير، ومن جديد بتدبير من باغواس. لم يبق على قيد الحياة إلا قليل من الخلفاء، وكان أجدر المرشحين بالعرش واحدا من قواد الحملة ضد القزوينيين ومن أبناء عمومة الملك، كان قد عين مرزبانا في أرمينيا، فصار بمنأى عن الأذى أثناء عملية التطهير، وعندما دعي إلى ولاية الملك أجبر باغواس أولا على احتساء شراب من قدح مسموم كان مهيأ ليحتسيه هو شخصيا.
وهكذا صار كودومانوس آخر ملوك الأخمينيين سنة 336 متخذا لقب داريوس الثالث. كان فيليب المقدوني بحلول ذلك العام قد شكل الحلف الكورنثي، وأعلن باسمه الحرب ضد الدولة الفارسية. والحقيقة أنه بدأ يقيم قواعد أمامية قبل اغتياله سنة 336، تاركا ملك مقدونيا للإسكندر الثالث؛ ومن ثم لن يكون أمام داريوس وقت طويل لترتيب أوضاع إمبراطوريته قبل التعامل مع المقدونيين على التراب الفارسي. (3) مقارنة الإمبراطورية الفارسية بالمملكة المقدونية
تأتي معظم معلوماتنا عن الإمبراطورية الفارسية من مصادر إغريقية، وتصبغ طبيعة العلاقات بين الفرس والإغريق عموما هذه المصادر بصبغة غير إطرائية بالمرة. يقينا توجد استثناءات؛ إذ يحتوي كتاب زينوفون المعنون ب «كيروبيديا» (بمعنى «تعليم قورش») على تعليقات إيجابية على كثير من ملامح الحياة الفارسية. لكن حتى زينوفون يتحدث عن خيانة الفرس (هيلينيكا، الكتاب الرابع، 1، 32-33)، وهي خصلة رآها رأي العين كواحد من المرتزقة الإغريق الذين استأجرهم قورش الأصغر في محاولته إطاحة الملك، الذي اتفق أن كان أخاه كما رأينا. ووصف أفلاطون سوء إدارة الإمبراطورية الفارسية بفضل إسراف الفرس في الاسترقاق والطغيان (القوانين، الكتاب الثالث، 694 إف إف)، وذم إيسقراط «رخاوة» الفرس (الخطبة المدحية، 138-149). لا تقتصر وجهات نظر الأعداء هذه على حالة الإغريق والفرس، ورأينا أن صورة فيليب الثاني الاعتيادية في المصادر الإغريقية أقل ما يقال عنها أنها غير إيجابية.
في محاولة لتجاوز مثل هذه الأحكام إلى معلومات قد تلقي الضوء على الإسكندر ومسيرته، يتركز اهتمامنا على طبيعة الإمبراطورية الفارسية بحلول منتصف القرن الرابع، حين كان فيليب يعكف على تقوية مملكته المقدونية، وبعد ذلك بقليل حين زحف فيليب ثم الإسكندر ضد الإمبراطورية. فما مدى اختلاف الدولتين؟ وإلى أي مدى كانت معرفة كل منهما بدولة الآخر وتنظيمها تامة؟ إن وجود اختلافات ضخمة بين الدولتين قد يقودنا إلى إدراك مرونة فيليب وقدرته على التكيف بل فوق ذلك أيضا مرونة الإسكندر وقدرته على التكيف، وهو الذي أزاح بحكمه حكم السلالة الأخمينية. ومن ناحية أخرى، فإن وجود عدد كبير من أوجه التماثل قد يوحي بوجود وئام كامن يستطيع أي فاتح طامح استغلاله.
نبدأ بطبيعة الدولتين المادية وحجمهما من حيث الرقعة الجغرافية والسكان. والسؤالان الوجيهان في هذا الصدد هما: كيف أنشئت كل دولة؟ وكيف حكمت بمجرد أن أنشئت؟ ويتمخض ضم أصناف مختلفة من الشعوب إلى الدولتين عن سؤال ثالث: هل أبقي على التقاليد المحلية لدى الشعوب التي كانت ذات يوم مستقلة أم لا، ولو أبقي عليها، فما تبعات ذلك سياسيا وثقافيا واقتصاديا؟ ولأن المملكة المقدونية والإمبراطورية الفارسية لم تكونا كيانين جامدين طوال تاريخيهما، فمن الضروري أن نتساءل عما إذا كانت تطوراتهما على مر الزمن قد أثارت صعوبات داخلية.
كانت الإمبراطورية الفارسية أكبر دولة موحدة عرفها الشرق الأدنى خلال الألفين والخمسمائة سنة التي شهدت نمو دول بأحجام متزايدة. وكأبعاد تقريبية نقول إن رقعة الإمبراطورية امتدت نحو 2500 ميل (4 آلاف كيلومتر) من غرب الأناضول إلى جبال هندوكوش، وأكثر من 1000 ميل (1600 كيلومتر) من ساحل البحر الأسود الجنوبي إلى ساحل الخليج الفارسي الشمالي في المنطقة التي توجد بها العاصمة الفارسية تخت جمشيد وباسارجاد. ومع صعوبة حساب التقديرات السكانية نقول إن سكان الإمبراطورية الفارسية كانوا يعدون بالملايين؛ فمصر وحدها في الفترة التي تلت موت الإسكندر كان يسكنها ما بين سبعة ملايين وثمانية ملايين نسمة. ونما سكان مدن فردية كبابل حتى وصل عددهم إلى 50 ألف نسمة أو أكثر. كانت هذه الشعوب متنوعة تنوعا فوق العادة من حيث الإثنية وطريقة الحياة؛ ففي قلب الدولة كان يوجد الفرس الهنود-الأوروبيون أنفسهم الذين لم تكن جماعاتهم القبلية وحدت إلا مؤخرا. سمح هذا التوحيد ببسط السيطرة على الشعوب العريقة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والأناضول ومصر في الغرب، والشعوب القبلية في شبه الجزيرة العربية في الجنوب، وسكان الجبال في آسيا الوسطى، فضلا عن سكان غربي الهند على الأقل من خلال التحالف. كان التنظيم السياسي للمناطق المفتوحة يتراوح بين سيطرة شخصية على يد شيخ للقبيلة وهياكل إدارية مستحكمة بعمق. وعلى قدر مماثل من التنوع كانت الهياكل الاقتصادية لدى العناصر الفردية المكونة للإمبراطورية؛ إذ تعايش البدو الرحل مع اقتصادات شديدة التخصص مدارة بإحكام. وكانت كثرة اللغات والمعتقدات والثقافات المادية تجليات ملموسة للاختلافات القائمة بين سكان الإمبراطورية.
ومع ضآلة المساحة الجغرافية التي حققتها مقدون أثناء حكم فيليب الثاني مقارنة بمساحة دولة الفرس، فإن نموها على مر الزمن وسع رقعتها كثيرا؛ إذ تضاعفت أبعادها المادية أكثر من ثلاثة أمثالها منذ حكم الإسكندر الأول، الذي اتسعت المملكة أصلا في عهده اتساعا شديدا. امتدت رقعة المملكة التي تزيد على 16600 ميل مربع (43 ألف كيلومتر مربع) من البحر الأدرياتي إلى ساحل البحر الأسود الغربي، وجنوبا من دول البلقان مرورا بالبر الرئيس اليوناني. لم يكن عدد السكان كبيرا كبر عدد سكان الإمبراطورية الفارسية، غير أن ثمة تقديرا يشير إلى وجود حوالي مليون ساكن عبر المنطقة الواقعة تحت سيطرة فيليب الفعلية برمتها بحلول سنة 336، وهذا الرقم تضاعف أيضا ثلاث مرات منذ نهاية القرن الخامس. كانت مقدون عملاقة مقارنة بحجم الدول الواقعة في غربي بحر إيجة. كان تنوع سكانها لافتا للنظر؛ إذ مع أن معظم الشعوب التي وحدها فيليب كانت هندية-أوروبية، كانت لغاتها وثقافاتها شديدة التباين. كان الإغريق قد ألفوا حياة الدول-المدن منذ قرون، وأما الإليريون والتراقيون فاحتفظوا بوجودهم القبلي، وكان سكان مقدونيا الدنيا يشهدون بأعينهم إنشاء الهيكل الإداري لمملكة متنامية.
تمخض اتساع رقعة الدولتين عن مشكلات في الاتصال. سبق أن نوهنا إلى صد الدول-المدن الشديدة الصغر في البر الرئيس اليوناني محاولات داريوس الأول وابنه أحشويرش الأول، الرامية إلى مزيد من التوسع. كان التمرد يغلب على المناطق القصوى عن العواصم الفارسية منذ حكم أرتحششتا (465-424)، فكانت آسيا الصغرى الإغريقية مصدر قلق دائم في ظل سعي إغريق البر الرئيس إلى تحريرها من الأغلال الفارسية. وكانت مصر هي الأخرى شديدة المراس؛ إذ نالت استقلالها قبل نهاية القرن الخامس واحتفظت بحريتها حتى 343. ولربما كان من الممكن استعادتها قبل ذلك عندما انتزع الفرس السيطرة على أحد مصبي النيل في أواخر القرن الخامس؛ مما جعلهم في وضع مؤات لأخذ العاصمة منف على حين غرة، لكن بحلول وقت إحالة القائد العسكري خطته إلى الملك للموافقة عليها، كان المدافعون قد اكتسبوا اليد العليا. وكانت المناطق التي يصعب الوصول إليها في عموم الإمبراطورية بقاعا ساخنة طوال فترة حكم الأخمينيين، لكن سنة بعد سنة اقتربت الثورات من العواصم الفارسية؛ فكانت ميديا في حالة ثورة في السنوات الأخيرة من حكم داريوس الثاني. وحتى المرازبة، الذين يدينون بمناصبهم للملك، كان بوسعهم حشد جيوش كبيرة؛ ومن ثم نيل الاستقلال عن السيطرة الملكية. تجلى بعض هذه الحرية في التنافس بين مرازبة المناطق الكبيرة. ومن ناحية أخرى، كان المرازبة الغربيون جميعا في حالة ثورة ضد داريوس الثاني في ستينيات القرن الرابع.
ومع اتساع المملكة المقدونية، استحال على الملك قيادة الجيوش بنفسه في مناطق القلاقل، فاضطر إلى الاعتماد على معاونيه. كانت التقارير تستغرق وقتا لكي تصل إلى فيليب من بارمنيون، الذي عينه لقيادة الفرقة المؤلفة من 10 آلاف جندي، التي أرسلها إلى آسيا الصغرى. وكانت أفعال فيليب ذاته تعتمد على نجاح قوات يقودها آخرون أو فشلها.
كانت الدولتان متماثلتين في نشأتهما بحد السيف، وهو ما بيناه باختصار في هذا الفصل فيما يخص بلاد فارس، وفي الفصل الخامس فيما يخص مقدونيا. كان اكتساب وجود مستقل آمن هو الدافع لكل من الحكام الأخمينيين والأرغيين الأوائل. كانت فارس تابعة لميديا قبل حكم قورش، وأما مملكة مقدون الصغيرة فكانت عرضة للتهديد من كل جوانبها من جانب دول أقوى. ومع أن التوسع الفارسي كان أسرع وأعظم بكثير، كان الحفاظ على الإمبراطورية الموحدة يتطلب قوة عسكرية دائمة وتدريبا مستمرا. وكانت الوحدة المقدونية على رقعة جغرافية أوسع تشهد مدا وجزرا في ظل التهديدات المستمرة من الإليريين والتراقيين والإغريق كما رأينا في نهاية القرن السادس من الفرس؛ مما كان يتطلب من ثم تأهبا عسكريا مماثلا.
بالإضافة إلى قوة السلاح، عززت كلتا السلالتين الحاكمتين الوحدة بالدبلوماسية وإقامة إدارة مركزية فعالة. كانت التحالفات والاتفاقات التجارية والمفاوضات التي تجرى من خلال مبعوثين كلها أدوات من أدوات الحكم، شأنها شأن القيام بأعمال لتقليص قوة المنافسين المحتملين داخل الدولتين؛ فقد واجه الملوك الأخمينيون تهديدات من أسر أرستقراطية فارسية أخرى، وثورات من حكام الدول التي كانت ذات يوم مستقلة. كانت ممارسة إسناد مناصب مهمة، كمنصب المرزبان، إلى أبناء الطبقة الأرستقراطية الفارسية أداة للتخفيف من القلاقل النابعة من هذا الشق، مثلما كان تعيين مسئولين فرس يرجى ولاؤهم في مناصب عسكرية ومدنية في جميع مناطق المملكة استجابة لخطر الانفصالية في أقسام كاملة من الإمبراطورية. دعي أيضا غير الفرس للخدمة في أدوار مهمة. كانت قوة الأرستقراطيين المقدونيين مساوية في خطورتها، ولا نعني أبناء فروع السلالة الأرغية، بل أيضا أسر مقدونيا العليا النبيلة، وهو ما يتبين بوضوح من مسيرة أبي فيليب المتقلبة. كانت صياغة الهيكل الذي سيستقطب معونة هؤلاء المنافسين المحتملين ناجحة في أغلب الأحوال، وأما استحداث نظام غلمان الملك - وهم كما رأينا أبناء الأسر الأرستقراطية الذين ألحقوا بالتدريب المهني في بيلا وأعمارهم 13 أو 14 سنة - فكان حافزا فعالا بالقدر نفسه لضمان حسن سلوك آبائهم. وكان الاعتماد على غير المقدونيين لولاية المناصب الحيوية حلا آخر.
سعي في كلتا الدولتين إلى توازن بين ثقافة الفاتحين وثقافات الأقاليم المفتوحة المحلية، واستفاد الأخمينيون والأرغيون على السواء من كثير من المؤسسات المكينة في عموم دولتيهما؛ إذ برع فيليب الثاني في إقحام نفسه في مناصب موروثة كتاجوس تيساليا، وعضو المجلس الأمفكتيوني، والقائد الأعلى للحلف الكورنثي. ويسر إدماج النظم الإدارية المجربة، كنظم مصر وبلاد ما بين النهرين، إنشاء الإطار الفارسي الذي كان بسيطا نوعا ما في البداية. لم يتمخض قبول مختلف المعتقدات واللغات والتقاليد عن مشترك ثقافي فحسب، بل خفف أيضا من وطأة الفتح على الشعوب المفتوحة. وسمح للشعوب التي هجرها الآشوريون، كبني إسرائيل، بالعودة إلى مواطنها الأصلية التي ربما يمكنها فيها بناء معبد وممارسة الديانة التي عرفوا بها. وأما المقدونيون، فإن قبولهم مهارات الأقوام المفتوحة وثقافتها أثرى ثقافتهم دون أن تحل ثقافتها محلها، وخفف في الوقت نفسه من الشعور بالعداوة لدى كثير ممن ضموا إلى سيطرة بيلا، لكن يقينا ليس كلهم.
كان إنشاء هيكل حكم مركزي يستوعب النظم المحلية في الوقت نفسه الشاغل الأول لأسباب بديهية عديدة. من ناحية أخرى، أمدت الدولة ملوك كلتا المملكتين بميزة كبيرة على المنافسين المحتملين من حيث الموارد، المالية منها والبشرية، وقوتهم الشخصية. وعلى الرغم من عدم وضوح بعض ملامح الإدارة الأخمينية، تفصح ملامحها الأساسية عن تدرج هيكل السلطة من سلطة الملك المطلقة، إلى سلطة المرزبان، إلى الوظائف الخاصة في الخزائن والأراشيف في عموم الإمبراطورية. وعلى الصعيد المادي أيضا، كانت أصقاع الإمبراطورية متصلة من خلال شبكة الطرق والعملات النقدية والمراكز الشعائرية وإعلان المراسيم الملكية. كما قلنا فيما سبق فقد عمل الأرغيون على ترسيخ السيطرة المركزية على نحو مماثل، لكن بدرجة أقل مما يتضح من الوضع الفارسي، وإن كان هذا يتعارض نوعا ما مع الرؤية السائدة. من المهم أن نتذكر أن قدرا كبيرا من التطور المقدوني تحقق على يد فيليب، وأما الهيكل الفارسي فظل يتطور منذ منتصف القرن السادس. لم يعد الأرشيف المقدوني موجودا، لكن الأدلة على المعاهدات التي أبرمت مع الدول الأخرى حفظت. ويتضح لنا مدى الموارد الملكية من الكنوز التي اكتشفت في فيرجينا، وأما أطلال بيلا فتكشف عن مزيج يثير الإعجاب من المنشآت الإدارية والمسكن الملكي. عرف الأرغيون قيمة شبكة الطرق في مرحلة مبكرة تعود إلى حكم أرخيلاوس، ومضى فيليب قدما في إنشاء هذه الطرق واستخدم تصميمات مسكوكاته النقدية ليبرهن على طبيعة حكمه.
لكن المركز الحقيقي لكل مملكة كان ملكها، فكان الحاكم الأخميني يلقب ب «ملك العالم»، ومع أن الأرغيين لم يحصلوا على هذا اللقب، فإن فيليب وابنه الإسكندر كانا يستحقانه يقينا. كان فيليب ملك مقدونيا الأرغي وتاجوس تيساليا والقائد الأعلى للحلف الكورنثي وحليف المولوسيين الإبيروسيين بالعهد والزواج؛ وكان الإسكندر كل ما سبق وفوقه الكثير عندما وافاه أجله سنة 323. لم تقف في طريق ملوك كلتا الدولتين جمعيات أو مجالس قوية، حتى لو تمتعت جمعية الجيش المقدوني ببعض الحقوق المحددة، ولو كان الحكام الأخمينيون والأرغيون على السواء يتشاورون مع كبار معاونيهم. الأكثر من ذلك أن ترامي أطراف المملكتين وضع مزيدا من العوائق أمام ممارسة السلطة الملكية؛ إذ سبق أن ذكرنا أن تأخر وصول موافقة الملك على خطة الاستيلاء على العاصمة المصرية تسبب في إخفاق مجهود القوات الفارسية في نهاية القرن الخامس. وتوقفت أفعال فيليب ذاته سنة 356 على أخبار نجاح بارمنيون أو إخفاقه في التعامل مع التهديدات الجديدة التي شكلها الإليريون. وهكذا لم يكن أي من الحاكمين حاكما مطلقا بمعنى الكلمة في ممارسته سلطته، ومن ناحية أخرى كانت سلطتهما أقل قيودا بكثير من سلطة الزعماء في الدول الإغريقية.
من النتائج الأخرى للمركزية نتيجة اقتصادية؛ إذ كانت الثروة الموجودة تحت تصرف الملك طائلة؛ فمن حيث الكمية والثراء والأناقة تشهد مقتنيات المدافن المقدونية على طبيعة الموارد التي كانت تحت سيطرة الأرغيين المتأخرين، فكانت الأرض التي يفتحها جيش الملك تحمل صفة الأرض الملكية، وهذه يمكن تخصيصها لرجالات الملك أو تأجيرها لمستأجرين. وبالإضافة إلى الإيرادات المتحصلة من الأرض، كان الملوك المقدونيون يسيطرون على ما يبدو على الموارد الخشبية والمعدنية؛ إذ كان سك العملة امتيازا ملكيا، وكانت تجبى ضرائب على استخدام المرافق. كانت الثروة الملكية الفارسية تأتي من مصادر مماثلة لكن أكبر، وهي الإيجارات والضرائب والخدمات والسلع والحيوانات والحاصلات الزراعية وبعض الأنشطة الاحتكارية كسك العملة. ويروي آريانوس (الكتاب الثالث، 16، 7) اكتشاف الإسكندر، لدى دخوله شوشان بعد هزيمة داريوس وجيشه في جاوجاميلا، 50 ألف وزنة من الفضة وغيرها من العتاد الملكي.
خلاصة القول أن طبيعة مقدون في عهد فيليب والإسكندر كانت تشترك في سمات كثيرة مع الإمبراطورية الفارسية الأكثر نضجا. علاوة على ذلك، تجمع بين أصول السلالتين الملكيتين أوجه شبه مذهلة. كان الفرس وافدين جددا نسبيا على الشرق الأدنى؛ إذ رحلوا إلى المنطقة الواقعة شرق دجلة في منتصف الألفية الثانية، وتدريجيا شكل هؤلاء المهاجرون الهنود-الأوروبيون ممالك صغيرة يحكمها شيوخ قبائل، وحلت الزراعة المستقرة والرعي محل حياة الترحل. مر نحو ألف سنة قبل أن يدفع الضغط، الذي مارسه الجيران الأكثر اتحادا، إلى المركزية المتنامية بين الجماعات المنفردة. وتنقل لنا رواية هيرودوت عن خلافة داريوس الأول - على الرغم من غلبة الخيال على جوانب عدة فيها - طبيعة الحكم الفارسي المبكر بوصفه تنافسا بين زعماء سبع عشائر كبرى على العرش الأخميني (الكتاب الثالث، 82-86). ومن سمات تاريخ الإمبراطورية المتأخر استمرار تنافس أعيان الفرس مع الملك، زد على ذلك أن الأسرة الأخمينية ذاتها تكاثرت حتى شكلت فروعا كثيرة. وتدل الرواية التي تتحدث عن إقدام أرتحششتا الثالث على قتل أكثر من مائة منافس من السلالة الأخمينية لكي يحمي نفسه، على مدى خطورة هذا التكاثر.
كذلك كان المقدونيون حديثي عهد بالمنطقة التي ستصير قلب المملكة؛ فبعد أن ارتحلت الشعوب المكدونية القديمة شرق جبال بيندوس، استقرت في شريط اليابسة الذي يعانق الخليج الثيرمي قرب نهاية القرن الثامن، وكانت بقيادة شيخ عشيرة تسمى العشيرة الأرغية. وكما هو الحال مع الفرس، تعايش الوافدون الجدد مع الشعوب الموجودة من قبلهم، وأوجدوا نمط حياة يقوم على الزراعة. وسبق أن نوهنا أن ظروف حكم مماثلة على أيدي شيوخ العشائر كانت تسود بين الشعوب الأخرى في مقدونيا العليا وفيما وراءها من مناطق. وحتى زمن فيليب الثاني والإسكندر، كانت لسلطة هؤلاء الحكام، الذين كانوا ذات يوم مستقلين، هيبتها وعن جدارة. وتشبه السلالة الأرغية الحاكمة السلالة الفارسية في تكاثر فروعها؛ إذ كان لفيليب منافسون لا يقتصرون على إخوته الثلاثة غير الأشقاء، بل يضاف إليهم أيضا أمينتاس ابن أخيه الملك بيرديكاس الثالث، الذي أدى موته أثناء قتاله ضد الإليريين إلى شغور العرش، فضلا عن اثنين من المدعين. هزم هذان المدعيان واختفيا من السجلات، ولجأ الإخوة غير الأشقاء إلى خارج مقدونيا، لكن أمينتاس ترك على قيد الحياة وعاش حتى زمن الإسكندر، لكن هذا الملك رأى أن موت أمينتاس قد يطيل بقاءه.
على الرغم من التهديد المحتمل النابع من العائلات الأرستقراطية وفروع السلالة الملكية الأخرى، اضطرت السيطرة على المملكتين المتسعتين الحكام الأخمينيين والأرغيين إلى الاعتماد على مساعدة أبناء هذه الأسر المتنفذة والثرية كمسئولين معاونين في المناصب المدنية والعسكرية على السواء. ونرى أمارة على أهمية هذا الدعم في القسم (يسمى بالفارسية القديمة «بندكه») المتبادل بين شيخ العشيرة والملك، والذي يهدف إلى توطيد الثقة بين الطرفين والحفاظ عليها. كانت هناك آصرة مماثلة بين المقدونيين؛ لأن الملك الأرغي اضطر هو الآخر إلى الاعتماد على كبراء العائلات الأخرى المهمة ليتخذ منهم مسئوليه. كانت الرفقة سمة تلك العلاقة؛ إذ كان رجال الملك أصحابه (يسمون «هيتايروي»). وربما كانت للمهرجان الذي يسمى «هيتايريديا» ويقام على شرف زيوس جذور قديمة جدا. ويبدو أن رفاق السلاح اقتصروا في القرن الخامس على العائلات التي يسمح لها ثراؤها بالمساهمة بفرسان نخبويين في الجيوش الجماعية؛ وبمجيء عهد فيليب كان الصحابة المشاة مهمين للجيش ولتعزيز السلطة الملكية على حد سواء. واتخذ الملوك الفرس والمقدونيون أيضا معاونين مؤتمنين، ليسوا بفرس أو مقدونيين بالميلاد، في ممارسة لن توفر مزيدا من المسئولين فحسب، بل ستقلص أيضا الاعتماد الكامل على الأسر النبيلة المحلية.
طور الأرغيون والأخمينيون على السواء سبلا للحد من سلطة الطبقة الأرستقراطية، ومن ذلك توظيف أجانب في المناصب المهمة، وتعليم الشباب النبلاء في بلاط الملك، وإلزامية حضور المناسبات التي تقام في المراكز الملكية، وجواز المحاسبة على خيانة العهد أو آصرة الرفقة المتأصلة، وكلها قلصت قوة من هم دون الملك. لكن حتى مع تقليص هذه القوة كان احتمال إلحاق ضرر خطير بالسلالة الملكية ماثلا على الدوام، سواء أكان ثورة مرزبانية ضد السلطة المركزية أم التهديدات التي تحيق بحياة الملك ذاته. وعلى نحو يشبه علاقة شخصية صعبة، لم يكن بوسع الملك التعايش في وئام مع من يدانونه في المنزلة، ولا كان يستطيع الاستغناء عنهم في الوقت عينه.
من النتائج التي ترتبت على ذلك المأسسة المتنامية للسلطة المركزية؛ ففي حالة بلاد فارس، كان التجميع المتزايد للسلطات مضافا إليه الاتصال بالدول الأكثر تنظيما في الشرق الأدنى القديم، قد تمخض عن درجة من المركزية بحلول منتصف القرن السادس. تطلبت سرعة اتساع السيطرة الفارسية في البداية إلغاء التبعية للميديين؛ وما يروى من أن أم قورش كانت ابنة الملك الميدي ربما يفسر دور قورش نفسه في نيل استقلال الفرس. ومن ناحية أخرى، فإن نجاحه في ساحة القتال عزز على الأرجح مطالبة من جاء بعده من أبناء الأسرة الأخمينية بحكم البلاد، وهو ما يتفق معه تعريف التنظيم الفارسي المبكر بأنه «ملك حربي». وقعت على عاتق داريوس الأول مسئولية توسيع هيكل الحكم الموروث من قورش وقمبيز كما أسلفنا في هذا الفصل. وكانت آليات الحكم المتطورة، التي ورثت من الممالك التي كانت ذات يوم مستقلة في بلاد ما بين النهرين والأناضول ومصر، نماذج مفيدة لإدارة الإمبراطورية التي صارت آنذاك مترامية الأطراف. من الرموز الأخرى الدالة على طبيعة الحكم الفارسي المؤسسية المتزايدة اتخاذ خليفة أحشويرش لقب أرتحششتا عند توليه العرش، واستحداثه نقش صور الملك على العملة النقدية التي تضربها المملكة، وستستمر كلتا الممارستين حتى نهاية الأسرة الأخمينية.
كانت مظاهر سلطة السلالة الملكية عظيمة الأبهة تكمن في شعاراتها المادية، كالقصور والمدافن والطرق والتماثيل والنقوش، وكانت هذه المظاهر تصاحب الملوك حتى أثناء الحملات؛ إذ يعدد هيرودوت الكنوز التي غنمت من معسكر الفرس بعد هزيمتهم في بلاتايا فيقول: «خيام مليئة بالأثاثات المصنوعة من الذهب والفضة، وأرائك مطعمة بالمعدنين النفيسين ذاتهما، وصحاف وكئوس وأكواب كلها من الذهب، وعربات محملة بأجولة مليئة بقصاع من الذهب والفضة ... فضلا عن الملابس الباذخة الموشاة التي تضاءلت قيمتها بجانب تلك الوفرة من النفائس العظيمة» (الكتاب التاسع، 80). كانت أعداد العاملين في المراكز الملكية أيضا من الرموز المذهلة؛ إذ يبلغ مجموع قائمة خدم المطبخ والمآدب في موكب داريوس الثالث 795 خادما (أثينايوس، الكتاب الحادي عشر، 781إف-782). وقد عثر على هذا الإحصاء في دمشق التي ترك فيها الملك هؤلاء الخدم، ومعهم النساء والأطفال المسافرون مع الجيش، وعجل بالعودة إلى مركز مملكته بعد هزيمة الفرس في إيسوس.
يجسد وصف الحاشية والجهاز المصاحبين لملوك فارس تغيرا آخر عما كانت عليه الحال عند نشأة المملكة في القرن السادس؛ فمع اتساع الهيكل الإداري تراجعت اللياقة الشخصية والنجاح في القيادة العسكرية. كان قورش قد أنشأ مملكة مترامية الأطراف بفضل قيادته الشخصية، وجرد داريوس الأول الحملات بنفسه وإن فوض أيضا السلطة العسكرية إلى الآخرين في ممارسة ستزداد شيوعا بمرور الوقت، ويعزو هيرودوت إلى أحشويرش القرارات التي اتخذت أثناء الهجوم الفارسي على البر الرئيس اليوناني، وأما في معركة ترموبيلي فكان الشاه يصدر أوامره إلى فرقه العسكرية دون مشاركته هو شخصيا في القتال، وكان يراقب المعركة البحرية التي دارت قبالة سلاميس من موقع على الناحية الأخرى من المضيق قبالة الجزيرة؛ ومن بعد ذلك لم يل ملك فارسي القيادة في الميدان حتى عهد داريوس الثاني. ومع أن داريوس الثالث قاد المعركتين اللتين دارتا ضد المقدونيين في إيسوس وجاوجاميلا بنفسه، فكان قد فوض السلطة إلى المرازبة في المواجهة الأولى مع الإسكندر.
لم يحدث تطور جذري مماثل في مقدونيا، لكن الملك كان يكتسب طابعا جديدا مقارنة بأصله ك «ملك حربي». والحقيقة أن جمعية الجيش كانت كما نوهنا تنادي بالملك ملكا، وأما أجهزة الحكم الأخرى فكانت كأقل ما يكون. ويبدو أنه كان هناك مجلس مستشارين يدعوه الملك تبعا لرغبته أو حاجته. أثار الاتصال بالشعوب المجاورة تطورات سياسية داخلية؛ إذ من الممكن تماما كما أشرنا في الفصل الثاني أن يكون نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة الفرس في العقود الأولى من القرن الخامس، قد دفع الإسكندر الأول إلى توسيع قوات المشاة المقدونية، وهي خطوة عززت قوته في مواجهة قوة الأسر النبيلة الأخرى، ووسعت أيضا حجم الدولة المقدونية، مما تمخض من ثم عن الحاجة إلى وسائل للسيطرة على الأرض الجديدة. وأوضح التعامل مع دول تتلهف على الخشب المقدوني قيمة إبرام المعاهدات النافعة. أقيمت الحصون على الحدود لمنع الأغراب الطامعين في الاستيلاء على الموارد لا شرائها، وشقت الطرق لربط الأطراف بالقلب، وركزت الوظائف في العاصمة، وخصوصا على يد أرخيلاوس في أواخر القرن الخامس. ومع أن العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع قوضت تطورات القرن الخامس، استعاد فيليب التدابير السابقة وأضاف إليها المزيد من عنده. كانت بيلا مقر إقامة ملكيا فوق تل مشرف على دواوين الحكم المحيطة بساحة عامة كبيرة، مع وجود أماكن مخصصة للأرشيف والرقابة على سك العملة وتصميم الأسلحة، وميادين لتدريب غلمان الملك، ومساكن خاصة يتضح من أطلالها أنها ليست بيوت عمال الطبقة الدنيا ومعابد. وقد اتخذ فيليب، سيرا على خطى أسلافه، صورته على العملات المعدنية المقدونية ولسان حاله يقول: «أنا الدولة!» توجد نقطة اختلاف مهمة بين الملكين، وهي أنه على الرغم من تنظيم الإدارة المتزايد، واصل الملوك المقدونيون قيادة قواتهم في المعارك بأنفسهم.
عززت استمرارية السلالة الملكية بالتحالفات الزوجية. كانت زيجات الملك وأبنائه غالبا من داخل الأسرة المالكة حتى حكم داريوس الثاني؛ إذ اتخذ داريوس الأول ست زوجات، اثنتان منهما من بنات قورش، وواحدة ابنة بارديا بن قورش، واتخذ داريوس الأول أيضا زوجتين من عائلتين أرستقراطيتين كبيرتين هما ابنتا غوبارو وأوتانيس، وهذه الأخيرة كانت من قبل زوجة لكل من قمبيز وبارديا.
وتشير الشواهد إلى اتخاذ أمينتاس الثالث أبي فيليب زوجتين، إحداهما يوريديكا أم فيليب وهي من أصل إليري ولنكستي، والأخرى جايجيا وهي من بنات السلالة الأرغية. يكشف هذان الاختياران عن دافعي الحفاظ على السلالة المالكة وكذلك إقامة تحالفات مع ممالك أخرى كانت مستقلة؛ ومن ثم منبع خطر محتمل. وتبرهن زيجات فيليب الثاني السبع على الدوافع ذاتها، وإن كان اتساع المملكة تمخض عن ست زيجات بنساء غير أرغيات وزيجة واحدة فقط بأرغية، والمثير للاهتمام أنها كانت زيجته الأخيرة. كانت زوجاته الأخريات من تيساليا (اثنتان من بنات عائلتين مهمتين) وإليريا وإيليميا وإبيروس وتراقيا. لم يتخذ الإسكندر الثالث سوى ثلاث زوجات، وهن رخسانة ابنة أحد أعيان باخترا، واثنتين من بنات داريوس الثالث.
بينما عززت روابط الزواج السيطرة على السلطة في سلالة واحدة؛ مما مكن من إقامة أواصر أوسع مع العائلات المهمة الأخرى داخل حدود المملكة وخارجها على السواء؛ أضفى دور الملك الديني جلالا وهيبة على علاقاته مع العناصر غير الأرستقراطية الأكثر عددا في الإمبراطورية؛ فأعلن داريوس الأول اعترافه الصريح بفضل أهورا مزدا عليه في النقش البيستوني المسجل على وجه أحد الجبال على الطريق المؤدي من بابل إلى إكباتان، ويقف فيه داريوس أمام أسرى في الأغلال، ويقف وراءه شخصان يمسك أحدهما بقوس والآخر برمح، ومن فوق الأسرى شخص متصل بقرص الشمس المجنح يمسك في يده اليسرى بطوق. نرى في الصورة داريوس يمد يمناه نحو الشخص والطوق؛ أي إن النقش يؤكد أن داريوس ملك نال الملك بفضل أهورا مزدا - قوة الحقيقة في الديانة الزرادشتية - الذي يحمي الملك الفارسي ويمكنه، فيحكم بدوره مملكته ويضمن أن تسود فيها الحقيقة. كانت المهرجانات الإمبراطورية وإقامة المعابد امتيازات ملكية تمتد لتشمل الإذن بإقامة معابد للديانات الأخرى غير الزرادشتية وتمويلها.
على الرغم من اختلاف الآلهة والمهرجانات والأبنية الدينية في أنواعها، فإنها تتماثل في تحديد دور الملوك المقدونيين. كان زيوس وهرقل أهم شخصيتين عند الملوك الأرغيين؛ فكان هرقل الجد الأعلى للعشيرة، وكان زيوس أبا هرقل وأبا مكدون، ومكدون هو أبو المقدونيين ومن اسمه اشتق اسمهم. وتنم عن دور هذا النسب بلدتا ديون وهرقليون المقدونيتان الكائنتان على الطريق الرئيس جنوبا عبر تيساليا، واستخدام صورة لكلتا الشخصيتين على قطع النقد. كانت مراكز تعبد زيوس توجد في ديون والعاصمة الأصلية آيجي، التي أسس فيها أرخيلاوس مهرجانا تكريما ل «الإله الأعظم»، أما هرقل فكان يعبد في آيجي وبيلا. كان الملوك يباشرون مسئوليات خاصة في هذه المهرجانات وغيرها. وتكشف الفسيفسائيات الموجودة في بيلا عن أهمية ديونيسيوس، وهذا متوقع لما كان للخمر من أهمية في الندوات المقدونية. لا يوجد نقش كالموجود في جبل بيستون ينص على أن زيوس وهب الأرغيين الملك، ومع ذلك فهذا الجانب من جوانب الملك المقدوني باد بوضوح من دون نقش هكذا.
تؤكد الشواهد المادية أيضا سلطة الأخمينيين والأرغيين وثروتهما. كانت العاصمتان الفارسيتان شوشان وتخت جمشيد مبهرتين في أبعادهما وما بذل فيهما من عمل؛ إذ أقيمت مدينة شوشان على أساس منحدر من الطوب اللبن ارتفاعه بين 33 و40 قدما (10 و12 مترا)، وكان المار عبر بوابة داريوس إلى القصر يسير عبر الإيوان الأوسط من ثلاثة أواوين لمسافة تزيد على 68 قدما (21 مترا)، ولو نظر إلى أعلى فسيمتد بصره 40 أو 43 قدما (12 أو 13 مترا). وكانت المصطبة التي قامت عليها القصور تغطي نحو 30 آكر (12 هكتارا أو 120 ألف متر مربع)، بل كانت المصطبة التي في تخت جمشيد أكبر، مناهزة 31 آكر (125 ألف متر مربع). لم تكن بيلا بأبعاد مماثلة، لكنها كانت تثير الإعجاب فورا مقارنة بالمراكز الأخرى في مقدونيا واليونان؛ كانت الساحة العامة تغطي 17 آكر (7 هكتارات أو 70 ألف متر مربع) والقصر 15 آكر (6 هكتارات أو 60 ألف متر مربع). وكبرت الأبنية المحيطة بالساحة العامة رقعة المدينة، ولا شك أن المنطقة الممتدة على مسافة 2300 قدم (700 متر) الفاصلة بين القصر وقلب المدينة كانت أكثر من مجرد أرض غير مأهولة. ويكشف مخطط بيلا الهيبودامي عملية إنشائية مدروسة كالتي اتبعها الحكام الأخمينيون.
كانت هذه العواصم مراكز إدارة يشرف عليها الملوك ويفد إليها المبعوثون الأجانب والضيوف واللاجئون من أماكن أخرى للتعامل مع الملك، فخططت الطرق وأنشئت وفقا للتوجيهات الملكية، وكانت الخزائن المقامة لحفظ الثروة الملكية تدار بمعرفة مسئولين ملكيين، وأقيمت مواقع طقوسية بأمر الملك أو بإذنه، وكرس كثير منها لفعاليات لعب فيها الملوك الأدوار الرئيسة. خلاصة القول أنه بالرغم من أن ملوك الفرس ومقدون كانوا على دراية بالتهديدات المستمرة التي تحيق بسلطتهم، كانوا يتمتعون بمنزلة ميزتهم عن رعاياهم حتى ذوي المنزلة الأرستقراطية منهم. (4) معرفة الدولتين إحداهما الأخرى
يجمع بين مملكتي الأخمينيين والأرغيين عدد من أوجه الشبه، وإن كانت على نطاقات مختلفة. ويبقى أن نتساءل عن معرفة إحداهما الأخرى معرفة فعلية قبل الحملات التي جردها الإسكندر الثالث.
في القرن السادس وأوائل الخامس، كان الاتصال الذي ابتدره الفرس مباشرا، كان مباشرا أكثر مما ينبغي من منظور طريقة التفكير المقدونية؛ إذ أتى توسع الفرس بجيشهم إلى شمال بحر إيجة، وغربا إلى حدود دولة مقدونيا الصغيرة؛ ورغم أن داريوس الأول لم يفرض سيطرته عليها، فربما أقام معها علاقة تابع وسيد. وعندما جدد أحشويرش حملة أبيه ضد اليونان، كانت مقدون نقطة انطلاقه، وانضم ملكها الإسكندر الأول إلى ركب القوة الفارسية. أزال النجاح المبهر الذي حققه جنود المشاة الثقيلة والجدافون الإغريقيون الصلة المباشرة بين فارس ومقدون فعليا حتى حكم فيليب الثاني، الذي مدد توسعه حدود مملكته شرقا عبر تراقيا حتى صارت المملكتان جارتين يفصل بينهما بحر بروبونتيس والبحر الأسود. والحقيقة أنه يوجد ما يسوغ اعتقادنا أن فيليب كان يعمل على تأسيس موطئ قدم له في شمال غرب آسيا الصغرى سنة 340 من خلال ارتباطه بهيرمياس، الذي تمكن من الاستقلال بمملكته الصغيرة أتارنيوس عن الفرس. بلغت المعرفة المباشرة بالشئون الفارسية الأرغيين المتأخرين من خلال المسئولين الفرس الذين أيقنوا أن حياتهم ستكون أكثر أمنا في مقدونيا.
حالة أرتبازوس مفيدة بوجه خاص لاستقصائنا عالم الإسكندر. أول من عرف باسم أرتبازوس قائد من قواد حملة أحشويرش ضد الإغريق في 480-479، وولي هذا المنصب القيادي الرفيع بفضل نسبه في المقام الأول، فمن الجائز تماما أنه كان ابن أحد إخوة أخي داريوس. مكث الرجل في اليونان بعض الوقت بعد عودة أحشويرش إلى فارس في أعقاب هزيمته في سلاميس، ولدى عودته كوفئ بمرزبة داسكيليون (آشور الأخمينية)، التي يصفها هيرودوت بأنها «المرموقة أكثر من كل ما سواها من المرزبات وبفاصل كبير»؛ إذ كان مرزبانها «يتقاضى إردبا (حوالي خمسة بوشل) من الفضة كل يوم» (الكتاب الأول، 192)، وظلت المرزبة حكرا على ذريته 90 سنة. ثم حمل ابن حفيد أرتبازوس الاسم ذاته، لكنه على النقيض من جده الأكبر تورط في كفاحات المرازبة الغربيين ضد الملك في ستينيات القرن الرابع، ولما وجد نفسه في وضع محفوف بالمخاطر، قرر الرحيل. شجعه زواجه بامرأة إغريقية، إخوتها قادة مرتزقة متنفذون، على اختيار منفى في الغرب، فرحل مع أسرته (بما فيها أحد أصهاره) إلى منفاهم في مقدونيا حيث نزلوا فيها ضيوفا-أصدقاء على الملك فيليب. دامت إقامتهم هناك حوالي عقد من الزمان حتى أقنع إغريقي من أصهاره - وكان قد قدم خدمات جليلة لبلاد فارس - الملك أرتحششتا الثاني باستدعاء أرتبازوس وأسرته. لكن أتيحت لفيليب أثناء تلك السنوات العشر فرصة معرفة الشيء الكثير عن الوضع في بلاد فارس، ولأهل أرتبازوس فرصة التعرف جيدا على الحياة والناس في بيلا. ومن شبه المؤكد أن إحدى بنات أرتبازوس، وهي بارسين، عرفت الإسكندر في تلك السنوات وكانت تدانيه سنا. وبعد عودة الأسرة إلى فارس، وقع العديد من أفرادها في أسر المقدونيين سنة 332 أو 331، لكن الأسرى لم يعدموا، والواقع أن علاقة جديدة بدأت بين بارسين والإسكندر، وأثمرت ابنا يسمى هرقل ولد حوالي سنة 327.
ربما عرف مزيد من المعلومات من خلال مسئول فارسي آخر وهو أمينابيس الفرثي، الذي سافر إلى بيلا عندما نفاه أرتحششتا الثالث. وقد عاد هو الآخر ولحق برئيسه مزاكيس، مرزبان مصر، في استسلامه للإسكندر الثالث سنة 332.
بالإضافة إلى الاتصالات المباشرة، اكتسب الكثير من خلال الإغريق الذين استمرت اتصالاتهم ببلاد فارس منذ نهاية الحروب الفارسية في 480-479. لجأ أرستقراطيون فرس إلى الدول الإغريقية وإلى مقدونيا، وهاجر إغريق بارزون إلى بلاد فارس؛ فقد عمل كتسياس، الذي ينتمي إلى جزيرة كنيدوس، طبيبا لأرتحششتا الثاني، واشتغل أيضا بوضع مصنفه «برسيكا» في 23 كتابا، ومع أنه لم يصل إلى أيدينا منه إلا شذرات، فمن الممكن أنه كان معروفا لمعاصريه، مقدونيين وإغريق على السواء. وكان زينوفون الأثيني من بين المرتزقة الإغريق الذين خدموا قورش الأصغر، الذي سعى لانتزاع العرش من أخيه أرتحششتا الثاني، وكتب عن الحملة في مؤلفيه «الأنباسة» و«هيلينيكا»، ذاكرا تفاصيل بخصوص المنطقة الغربية من الإمبراطورية الفارسية. وجاءت روايات أبكر عن التفاعل الإغريقي والفارسي في «تاريخ هيرودوت»، وفي «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» لثوكيديدس. وكان القائدان الأثينيان الشهيران ثيميستوكليس وألكيبيادس يدينان بالفضل للفرس؛ إذ ختم ثيميستوكليس، أحد أبطال الهزيمة التي ألحقها الإغريق بحملة أحشويرش، حياته كمسئول فارسي في آسيا الصغرى؛ وأما ألكيبيادس، في خضم تذبذبه بين الرضا والغضب في أثينا، فختم حياته في آسيا الصغرى التي لجأ فيها إلى جوار مسئول فارسي كبير.
بمجيء عهد فيليب كانت تلك التفاعلات عدائية؛ إذ سمح القتال الدائم بين الدول-المدن الكبرى لفارس بإعادة تأكيد سلطتها في حوض بحر إيجة. وفي 387-386 فرض أرتحششتا الثاني على الدول الإغريقية اتفاقية تعرف باسم «سلام الملك»، الذي أسلفنا الحديث عنه في هذا الفصل باعتباره المطالبة الفارسية بالسيطرة على كل من الأراضي والشئون الإغريقية؛ وقد أعيد التأكيد على تلك الشروط بعد 15 سنة. ولا نستغرب أن هذه الشروط أثارت احتجاجات ونداءات مطالبة بالتغيير من داخل اليونان؛ إذ جادل إيسقراط الأثيني في خطبته المدحية بأنه لا سبيل إلى سلام دائم بين الإغريق ريثما يتفقوا على شن حرب ضد برابرة آسيا، وكان يدرك فوق ذلك أن العمل المشترك يعتمد على فرد قوي لا دولة-مدينة إغريقية، ومن ثم شجع فيليب في الخطبة التي وجهها إليه حوالي سنة 345 على الاضطلاع بكلا المجهودين، وأعني توحيد اليونان وقيادة جيش لغزو بلاد فارس البربرية. •••
استهل هذا الفصل بالسؤال عما جعل الإسكندر ينظر شرقا لا غربا مثلما فعل أقاربه الإبيروسيون. أحد الأجوبة أن بلاد فارس كانت مألوفة من خلال المعرفة المباشرة وغير المباشرة بتنظيمها، ومن خلال المناطق الغربية من الإمبراطورية، ومن خلال بعض المسئولين المهمين الذين صرحوا يقينا بأسباب لجوئهم إلى بيلا وقدموا يقينا معلومات أخرى، وكان من شأن هذه المعلومات أن تكشف عن وجود «مجال حيوي» وثروة في الشرق. وجواب آخر أن المملكتين كانتا متماثلتين - لم تكونا متطابقتين بالطبع - في نشأتهما وطبيعة حكمهما السياسي ومشكلاتهما. كان إغريق البر الرئيس وآسيا الصغرى يريدون التخلص من التهديد الفارسي، لكنهم بحلول منتصف القرن الرابع لم يكونوا قادرين على تحقيق تلك الغاية لأنفسهم؛ وهكذا كانت في المصادر الإغريقية ذريعة مقبولة في متناول أي حاكم مقدوني، وقبل أن يمضي زمن طويل كان فيليب قد أنجز المهمة الأولى التي حضه عليها إيسقراط وبات بمقدوره أن ينبري للثانية.
الملوك الأخمينيون.
قورش
559-530
قمبيز
530-522
داريوس الأول
522-486
أحشويرش الأول
486-465
أرتحششتا الأول
465-424
أحشويرش الثاني
424
سغديانوس
424-423
داريوس الثاني
423-405
أرتحششتا الثاني
405-359
أرتحششتا الثالث
359-338
أرتحششتا الرابع
338-336
داريوس الثالث
336-330
الإسكندر الثالث
330-323
الفصل السابع
إعادة بناء شخص الإسكندر
قدمنا في الفصل الأول من محاولتنا التعرف أكثر على الإسكندر الثالث المقدوني صورة أولية لمسيرته، برزت لنا من التمحيص المتأني للمصادر الإشكالية والتوفيق فيما بينها. تفادت هذه الصورة الأولية كثيرا من التفاصيل غير اليقينية والمسائل الجدلية، كتاريخ تدمير تخت جمشيد ودافع الإسكندر إلى حرقها. بل الأكثر جدلية شخصية ذلك الشخص الذي أثر على حياة الملايين من البشر في معظم أرجاء العالم المعروف آنذاك، وفي النهاية امتد تأثيره إلى ما وارء حدود ذلك العالم بكثير. نقلنا في المقدمة رد ويل كابي - وهو رد مدهش لكن منطقي - على الجهود المبذولة لمعرفة دافع الإسكندر؛ إذ لم يعجز كابي عن تقديم تفسير فحسب، بل اقترح أيضا أن الإسكندر نفسه كان سيجد صعوبة في تقديم مثل هذا التفسير. توصلت كلود موسي، المؤرخة البارزة المتخصصة في العالم القديم، إلى استنتاج مماثل في سيرة الإسكندر التي وضعتها حديثا بملاحظتها أنه «سيظل دائما غريبا عنا» (الصفحة 211)، ونبهت تحديدا إلى ضرورة الكف عن التكهن بالبعد السيكولوجي في الإسكندر.
مثلما نوهنا في مستهل محاولتنا هذه لدراسة الإسكندر، فإن طبيعة الشواهد التي وصلت إلينا تتحمل جزءا كبيرا من المسئولية في ذلك؛ فكم يؤسفنا مثلا أن ضاعت الكتب الأربعة التي تحوي خطابات أرسطو إلى الإسكندر، أو الكتاب الذي يحوي خطابات هذا الفيلسوف إلى هفايستيون. ولو كان لنا أن نثق في رواية آريانوس في هذا الشأن، فالإسكندر كتب أيضا خطابات إلى أمه أثناء وجود المقدونيين في الهند (الكتاب السادس، 1، 3)، وردا على عرض داريوس في أعقاب هزيمة الفرس في إيسوس (الكتاب الثاني، 14، 4 إف إف). فلا شيء يضاهي الأفكار الشخصية الثاقبة التي كانت ستجود بها تلك الخطابات. وحتى أفضل المصادر التي كتب لها البقاء تظهر المشكلات التي واجهها مؤلفوها؛ إذ يتحدث آريانوس عن وجود العديد من الروايات الكاذبة واحتمال تخليد هذه الروايات، ويذكر أن هدفه من وراء التاريخ الذي وضعه هو التصدي لها (الكتاب السادس، 11، 2). يعترف آريانوس في محاولته تقديم رواية صادقة بوجود تفاصيل معينة لا تشغل باله (الكتاب الخامس، 20، 2)، ويقر بأنه لا يستطيع المساهمة في التوصل إلى فهم لما كان يدور ببال الإسكندر، ولا يليق به أن يستنبط ذلك (الكتاب السابع، 1، 4).
توجد أبواب أخرى مفضية إلى طبيعة هذا البطل، تناولنا خمسة منها إيمانا منا بإمكانية معرفة الكثير عن الإسكندر الثالث، من خلال تفاعل هذا الشخص الآسر والغامض في آن واحد مع عالمه؛ فلا شك أن الإسكندر شكل مسار التاريخ بأفعاله. وفي الوقت نفسه شكلته طبيعة العالم الذي ولد فيه لكي يمضي في مشوار حياته العاصف. كان لزاما عليه أن يتعلم التكيف مع عالمه، موظفا الاستراتيجيات التي غلب على ظنه نجاحها. إن الأبواب التي تقدم أتم الخيوط لفهم الفرد هي مملكته وشعبه، ومنزلته كأحد أبناء السلالة الأرغية ونسبه من جهة أبويه، ومواطن ضعف مقدونيا في مواجهة جيرانها التي تطلبت دائما جيشا لا يلين، والعلاقة بين مقدون واليونان، وطبيعة الإمبراطورية الفارسية في القرن الرابع. (1) شبابه
كانت سنة 356 التي ولد فيها الإسكندر، طيبة نسبيا مقارنة بالعقود الأربعة السابقة من التاريخ المقدوني، والمدهش أن الإليريين المروعين لم يكرروا غزوتهم التي شنوها في 360 / 359 وأودت بحياة الملك المقدوني ومعه غالبا ثلثا جنوده. ولعل توقع وقوع هجوم آخر قوى في الواقع الأواصر الضعيفة التي كانت تربط قلب المملكة، المطل على الخليج الثيرمي ببحر إيجة، والممالك الداخلية العديدة بتاريخها الحافل بالتذبذب بين الانضمام إلى مملكة موحدة والاستقلال بذاتها. بل كانت أيضا هذه الأراضي الغربية أقرب إلى أرض الإليريين، وكان بوسع أهلها استشعار شدة أي غزوة يشنها الإليريون ضد مقدونيا قبل وصول الغزاة إلى هدفهم. تبرهن على حدوث تلاحم أوثق بين مقدونيا الدنيا والعليا أصول الرجال الذين كانوا من أخلص رجالات فيليب، ومن بعده الإسكندر؛ فبارمنيون، الذي ربطته روابط وثيقة بمقدونيا العليا، قاد الجيش المقدوني بنجاح في مواجهة الإليريين سنة 356، وظل قائد فيليب الفعلي المخلص طوال حكمه، وتمتع بمنزلة مماثلة في ظل حكم الإسكندر لمدة ست سنوات. ويتضح ولاء أوريستيس من خلال المناصب الرفيعة التي قلدها كراتيروس وبيرديكاس، وولاء إيليميا من خلال القائد كوينوس، وكان ليوناتوس صديق الإسكندر من أبناء الأسرة المالكة في لنكستيس. من ناحية أخرى، لم يكن هذا التلاحم قد أعيد توطيده إلا حديثا؛ فلنكستيس مثلا كان لها تاريخ حافل بالعداء تجاه السيطرة المقدونية، وكان لعميد الأسرة اللنكستية المالكة أثناء حكم فيليب ثلاثة أبناء بالغون. وكان من الخطأ أن يعتقد المرء أن محاولات استعادة الاستقلال لن تحدث أبدا.
كان الحاكم الأرغي الجديد فيليب الثاني قد أبرم معاهدة مع الملك الإليري في أعقاب الانتصار الإليري، وتمخضت حملة ناجحة ضد الإليريين سنة 358 عن زواج دبلوماسي بين فيليب وابنة الملك الإليري. وفي السنة التالية وسع تحالف اقترن أيضا بالزواج، هذه المرة بابنة ملك إبيروس، مجال النفوذ المقدوني غربا. كانت المفاوضات مع الجيران في الشمال والجنوب والشرق أيضا في ازدياد في السنوات الأولى من حكم فيليب؛ إذ خففت الدبلوماسية والهدايا وطأة البيونيين والتراقيين، واستحدث الزواج بابنة أسرة تيسالية مهمة في لاريسا وجودا مقدونيا في شمال اليونان، ووافقت أثينا مصدر المتاعب في جنوب اليونان على عقد معاهدة، وأما الدول الإغريقية في شمال بحر إيجة فبدأت تشعر بضغط الجيش المقدوني. كان أي ابن يولد للملك المقدوني سيشهد توسيع السيطرة المقدونية المتواصل؛ إذ تضاعفت مساحة المملكة مرتين مقارنة بما كانت عليه في نهاية القرن الخامس.
وحتى عندما كان قلب المملكة أصغر من هذا بكثير، كانت المنطقة تجود بتشكيلة تحسد عليها من الموارد الطبيعية، منها نهران كبيران وروافدهما بما فيها من ثروة سمكية وفيرة، وتساقط كميات معقولة من الأمطار في الشتاء، وتراكمات جليدية توفر المياه في الصيف، وسهول خصبة من ضمنها سهل ساحلي كبير ملائم للزراعة والرعي، وجبال تكسوها أحراج تستوطنها تشكيلة واسعة من الحيوانات، وإمدادات وفيرة من المعادن. ولم يؤد التوسع إلى حماية الشعب والموارد الموجودين بالفعل فحسب، بل أضاف إليهما أيضا.
كذلك فإن فعالية استخدام الموارد الطبيعية والبشرية كانت في ازدياد أثناء شباب الإسكندر؛ إذ وسع فيليب الثاني المستوطنة المقامة في بيلا، التي وسعت في عهد أرخيلاوس في السنوات الأخيرة من القرن الخامس، لتشمل ما يلزم من منشآت للسيطرة المركزية على المملكة. ومع أن استمرار سكن بيلا والبناء من جديد على موقعها يحجب صورة عاصمة المملكة أثناء حكم فيليب، فقد وصلتنا شواهد كافية تبين أنها لم تكن بلدة صغيرة يسكنها شعب بدائي، بل كانت تضم مسكنا للملك وبيته الكبير، ومسكنا لغلمان الملك والرسل الزائرين، وما يلزم من منشآت للاعتناء بكل هؤلاء. وعلى مسافة بعيدة نوعا ما كانت هناك دواوين الإدارة الحكومية، كأمانة السر والسجلات، وإدارة الموارد، ووحدات كالمعنية بتطوير المعدات العسكرية. كان مركز المملكة السابق في آيجي - التي ظلت العاصمة المراسمية للمملكة - يضم مسرحا ومدافن ملكية كبيرة تضم رفات الأرغيين السابقين رجالا ونساء، وقد برهنت أعمال التنقيب التي جرت في موقع هذه المدافن على فخامة المشغولات التي كانت تستخدم يقينا في القصر وكرست للموتى. علاوة على ذلك، يجري حاليا اكتشاف المزيد من المدافن وبسرعة لا تستطيع مواكبتها أعمال التنقيب. كان يعاد غالبا تأسيس مستوطنات أخرى كمدن مقدونية عندما توضع تحت السيطرة المقدونية، وأقيمت مستعمرات جديدة، وأنشئت حصون على الحدود المتزايدة الاتساع، وأسفرت جهود الربط بين مختلف أرجاء المملكة عن شق الطرق.
وهكذا كان الابن الصغير لأي ملك على دراية بمملكة مركزية ومتنوعة ومتزايدة الاتساع تدار انطلاقا من عاصمة يعيش فيها داخل القسم المخصص للسكنى من القصر. ولو لم يكن هذا الشاب معاقا بدنيا أو عقليا، كان يتلقى تعليما يليق بوريث محتمل للملك. وفي قلب هذا التعليم ستكون القدرة على الحكم حكما مباشرا في كل الأمور الضرورية لإدارة شئون المملكة.
كان طابع مقدونيا المادي قوة مهمة في تكوين ملك يتعين عليه تجريد حملات طوال السنة، متحملا درجات حرارة تصل إلى حد التجمد شتاء، وخصوصا في الجبال، وقيظ الصيف الذي تتجاوز فيه درجة الحرارة 40°م (104°ف). ونظرا لإمكانية استخدام العدو وديان الأنهار والممرات الجبلية كنقاط يغزو منها المملكة، كان من الحيوي أن يعرف هذه الملامح الطبيعية جيدا. وكان الحفاظ على الأمن في المناطق الجبلية العليا من المملكة يؤدي إلى مواجهات خطيرة مع حيوانات وحشية ورعايا ساخطين. تنضم الشواهد المادية من رسوم وفسيفسائيات إلى المصادر المكتوبة لتبين أهمية البراعة في الصيد البري بين الأرغيين؛ إذ ضلع في «مؤامرة» ضد الإسكندر سنة 330 واحد من غلمان الملك سبق أن ضرب لتفوقه على الإسكندر في قتل خنزير بري أثناء رحلة صيد. كانت الدراية بالأنهار تتطلب القدرة على عبورها عند اللزوم؛ فالملك المقدوني الناجح لا بد أن يكون لائقا بدنيا عند الميلاد، ولا يتعرض للإعاقة في شبابه، ويصقل هذه اللياقة بالتدريب حتى يكون ندا لأبطال هوميروس من حيث كونهم أشبه بالآلهة إذا ما قورنوا بعامة الرجال.
مع اكتساب مقدون أبعادا جديدة ومزيدا من التعقيد، تطلب الأمر مهارات جديدة لحكمها بنجاح. كان يمكن تفويض مسائل الإدارة إلى آخرين يملكون المهارات المطلوبة، لكن الدواوين كأمانة السر ووحدة تصميم المعدات وديوان سك العملة، كانت تقتضي تزويدها بمن يليق بها من موظفين ومشرفين أكفاء. ومع التوسع الإقليمي جاءت الحاجة إلى تقسيم المسئولية الأساسية عن القيادة العسكرية، فلم يكن بوسع الملك أن يوجد في تراقيا ووسط اليونان في آن واحد، لكن البطء في الاستجابة للانتفاضات أو الاجتياحات كان من الممكن أن تكون له تبعات كارثية.
وفوق ذلك فإن توسيع المملكة بنجاح تمخض عن الحاجة إلى معاملة الرعايا والحلفاء بطريقة يفهمونها. كان معظم جيران مقدونيا من أصل هندي-أوروبي، لكن حتى هذا الإرث المشترك بات آنذاك ينطوي على اختلافات حقيقية في اللغة وأساليب الحياة، وسيتمكن الحاكم من خلال امتلاكه معرفة أعمق ببعض الاختلافات الثقافية على الأقل من اكتشاف العلاقة السليمة. كان هناك من يتقنون لغتين، لكن ليس من المستبعد أن نتصور نمو لغة مشتركة، استنادا إلى القواسم الهندية-الأوروبية المشتركة. فهل يعقل أن فيليب كان يتحدث مع زوجاته الإيليمية والإليرية والإبيروسية والإغريقية والتراقية بواسطة مترجمين؟
شكل 7-1: ترميم جدارية الصيد في المدفن الثاني في فيرجينا. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كانت اليونان الجار الملاصق الأكثر تقدما في الإنجازات الفكرية بحلول منتصف القرن الرابع، وكان التعامل مع عالم الدول-المدن المتحاربة، فضلا عن إيجاد مكان في ذلك العالم، يتطلب معرفة بالأعراف والتاريخ السابق والقيم، ولا غنى عن تحدث الإغريقية وقراءتها لكل ما سبق. إن أي رجل في مكان فيليب كان سيثمن على الأرجح واقع التعامل مع الإغريق بلغتهم وأساليبهم، وبالإضافة إلى إدراكه هذا على المستوى الشخصي، كان سيدرك حكمة إعداد الوريث المحتمل ليكون لديه الفهم ذاته.
وجد في أرسطو - الذي عاش في بيلا في شبابه عندما كان أبوه يشتغل طبيبا للأرغيين - معلم مؤهل على أعلى مستوى للإسكندر الشاب. والواضح أن أرسطو كان يستطيع التواصل مع الإسكندر والشباب الآخرين الذين تتلمذوا على يديه لأكثر من سنتين، وربما كان هذا التواصل باللسان المقدوني لكن اليقيني أنه كان أيضا باللسان الإغريقي. على الرغم من ضياع متني المؤلفين اللذين يعتقد أن أرسطو وضعهما لأجل الإسكندر، فإن عنوانيهما مكتوبان بالإغريقية، ويقينا كانت محتوياتهما كذلك، وهذان هما: «عن المستعمرات» و«عن الملكية». لم تسجل الموضوعات التي كان يدرسها الشباب، لكن اهتمامات أرسطو الواسعة في العلوم والأدب والخطابة والفلسفة انعكست يقينا في هذا التعليم. يورد وصف آريانوس للإسكندر افتتانه بصور أخرى للفلسفة، ومن ذلك مثلا «الجيمنوسوفيستاي» أو الحكماء العراة في الهند (آريانوس، الكتاب السابع، 1، 4-2، 1). وكان من ضمن خبراء حملة الإسكندر في آسيا مساحون يتمتعون بمعرفة خاصة بعلمي الحيوان والأحياء. وولع الملك بالأدب لا يظهر فحسب من نسخة الإلياذة التي أعدها له أرسطو وحملها معه إلى آسيا، بل يظهر أيضا من المسابقات الأدبية التي كانت فعاليات منتظمة طوال حملته المديدة (آريانوس، الكتاب الثاني، 5، 8، في الأناضول؛ الكتاب السابع، 14، 1، لدى العودة إلى إكباتان). ومع أننا لا نستطيع الوثوق في دقة الخطب التي ينسبها آريانوس إلى الإسكندر، تتجلى قوة منطقه في قدرته على الإقناع لإثارة حماس رجاله للقتال، أو للاستيلاء على حصن حصين، أو عبور نهر مجهول في ظلمات الليل، أو لتحمل مسيرة عبر جبال هندوكوش أو صحراء جيدروسيا.
خلاصة القول أن ابن الملك، سليم البدن والعقل، بدأ يتلقى أنواعا مختلفة من التدريب في سن مبكرة، وكان بعض ذلك التدريب غير مباشر، كالتأقلم مع البيئة المقدونية، ومعايشة الحياة في القصر وفي وسط مدينة بيلا، ومراقبة أبيه وصحابته وكذلك وفود الممالك أو الدول الأخرى. كان معظم التعليم رسميا على أيدي معلمين خصوصيين، والأرجح أنه تضمن نظام اللياقة البدنية ذاته الذي يدرب عليه غلمان الملك. وفي عقده الثاني، أدرج في تدريبه تنفيذ المهام الموكلة إليه من الملك؛ إذ صار الإسكندر وصيا على العرش وعمره 16 سنة، وقاد ميمنة الجيش في خيرونية وعمره 18 سنة.
كانت مراقبة فيليب شيئا مهما لأنه، كما رأينا، أنشأ القاعدة التي سينطلق منها الإسكندر ضد بلاد فارس بعد خلافته أبيه بسنتين فقط. كانت تلك القاعدة عبارة عن مملكة كبيرة تحت حكم ملك قوي واحد، وكانت الأداة التي شكلتها عبارة عن جيش دائم يستند إلى الفلنكس الإغريقي لكنه خضع لإصلاحات في المعدات والتكتيكات والأفراد. طور فيليب جهاز حكم إداريا أو وسعه، شأنه شأن تجنيد الضباط المستقبليين من خلال تدريب أبناء الطبقة الأرستقراطية كغلمان للملك. واجتذبت المكافآت، التي منحت للمنخرطين في السلك العسكري، رجالا لم يقتصروا على مقدونيا بل جاءوا أيضا من مناطق ضمت حديثا إلى المملكة. وعندما امتد نطاق سيطرة فيليب إلى بحر بروبونتيس، شرع يبني أسطولا. كان لدى الإسكندر سنة 334 أسطول من 160 سفينة ثلاثية المجاديف، وغيرها الكثير من السفن التجارية لزوم عبوره إلى الأناضول (آريانوس، الكتاب الأول، 11، 6).
كان فيليب قد اكتسب معرفة وثيقة بجيرانه، وكان بمقدوره أن يقحم نفسه في الهيكل الوطيد الخاص بمن هزمهم هو ورجاله. كان حليفا لبعض هؤلاء الجيران، وبينه وبين العديد من العائلات الحاكمة صهر، ومسئولا في بعض الدول وخصوصا اليونان، كتاجوس التيساليين، وكان الداعي إلى إقامة حلف وزعيمه. كان يلي أدوارا عدة بجانب ملكه مقدونيا، ومع ذلك ظل الفاعل النشيط في جميع جوانب الحكم؛ إذ كانت المجالات العسكري منها والديني والإداري كلها تجتمع في الحاكم الأرغي. وكلما تقدم به العمر وازداد حكمة، أدرك الابن النابه دور أبيه المتعدد الأوجه.
غير أن دور الملك كقائد الجيش هو الأبرز، وأحد مؤشرات ذلك مقدار ما يقضيه الملك من وقت بعيدا عن بيلا على رأس حملة عسكرية. لزم في أحوال كثيرة كما نوهنا تقسيم الجيش للتعامل مع تهديدات في أماكن نائية بعضها عن بعض. في الوقت نفسه كان دور الجيش المقدوني واضحا تماما للعيان في بيلا؛ حيث كان الشباب أبناء العائلات المهمة يتلقون تدريبا ليتبوءوا منزلة نخبوية في الجيش، وكان الصحابة الأكبر سنا يتشاورون مع فيليب بشأن مراكز القيادة المسندة إليهم، وكان العديد من صحابة الملك يعملون حرسا له. كانت تعقد مجالس مع أهم معاوني الملك في بيلا، وفي غيرها من الأماكن، والجيش في حملة، وكان العتاد العسكري يصمم في بيلا، وفيها خططت قوة بحرية مع اتساع المصالح المقدونية عبر شمالي بحر إيجة وفي بحر بروبونتيس والبحر الأسود. كانت السفارات تفد على بيلا بوتيرة متزايدة مع تصاعد انتصارات الجيش.
إذا كان لدى ابن الملك الأرغي آمال في خلافة أبيه، فسيعترف بقاعدة المملكة العسكرية، مناضلا لتحقيق السمات المطلوبة لضمان قوة هذه القاعدة، وسيحتاج إلى إكبار أبيه وإكبار غلمان الملك الذين يدانونه عمرا، والذين كان دعمهم حاسم الأهمية في المناداة بأي ملك جديد، وسيدرك ضرورة أن يبشر بقيادة سليمة لكي ينال رضا الجيش المقدوني بأسره، من مشاة عاديين وصحابة نخبويين على السواء. كان الأمر يتطلب ما هو أكثر من البشرى؛ إذ لا بد من أن يكون الوريث المحتمل قد برهن على قدرته في الميدان. ولي فيليب الملك في المقام الأول لأن ابن أخيه الملك السابق الذي قتل في الحرب ضد الإليريين كان طفلا. إن من شأن الملك اللبيب أن يمنح ابنه أو أبناءه الفرص لكي يظهر قدراتهم في سن مبكرة نسبيا، وكان فيليب لبيبا فمنح الإسكندر الفرص ليبرهن على قدراته.
إذن كانت هناك سمات شخصية معينة لا بد منها، لكن كان ضروريا بالمثل أن يكون المرء أحد أبناء السلالة الأرغية، التي استحوذت على الزعامة منذ أواخر القرن السادس وفقا للمصادر الموثوق فيها، وقبل ذلك بكثير لو كانت الإشارات المقدونية للملوك الأوائل صحيحة على أي حال. وتتضح قوة الحق الأرغي في الحكم من تردد خلفاء الإسكندر في الخروج على هذا التقليد؛ إذ على الرغم من وجود مجموعة من الرجال الأقوياء الذين يتوقون إلى الحكم لدى موت الإسكندر، فإنهم نادوا بابن الإسكندر ورخسانة الذي لم يولد بعد - إذا ما ولد ذكرا - ملكا على البلاد، وأما جمعية الجيش فنادت بفيليب الثالث أريدايوس، ابن فيليب الآخر من زوجته التيسالية فيلينا، ملكا على البلاد. وبما أنه لم يكن يتوقع لابن رخسانة، الإسكندر الرابع، أن يحكم بنفسه قبل سنوات عديدة، وأن فيليب الثالث اعتبر ضعيف العقل والجسد، استقرت القيادة الحقيقية في أيدي الآخرين، لكن لم يتسن بسرعة تجاهل أحقية الأرغيين بالحكم.
كان انتماء المرء إلى السلالة الأرغية يشرف نسبه؛ بما أن هرقل كان الجد الأعلى للأسرة. كان يصعب العثور على جد أنسب منه للأرغيين في ضوء ما اتسم به الملك المقدوني من سمة بطولية، وما ترافق مع حكم مقدونيا من مهام تكاد تكون هرقلية. برهن الإسكندر دوما على هذه الصلة (مثلا: آريانوس، الكتاب الأول، 11، 7-8، في بداية الحملة؛ الكتاب الثاني، 24، 6، في صور؛ الكتاب السادس، 3، 2، في الهند). زد على ذلك أنه لم يكتف بمحاكاة ذلك البطل، لكنه كما سجل آريانوس: «كان يستشعر حسا بالتنافس معه ومع البطل بيرسيوس، الذي كان أيضا من أسلافه» (الكتاب الثالث، 3، 2). أضاف نسبه من جهة أمه جدا آخر مثار فخر، وهو نيوبتوليموس بن آخيل الذي كان أقوى محارب في طروادة. قد نقلل من صدق الإيمان بمثل هذا النسب في زمننا هذا، لكن لو فعلنا فسنجحف كثيرا وجهات نظر المقدونيين القدماء ومثلهم الإغريق.
عززت أواصر الأرغيين بالآلهة الدور الملكي في الديانة المقدونية أكثر مما عززه النسب البطولي؛ إذ كان الملوك يقدمون الأضاحي نيابة عن المقدونيين، وأسسوا مهرجانات وألعابا تتطلب أبنية خاصة كالمسارح والمعابد ومواقع ملائمة لاستيعاب المسابقات الرياضية. كان مركز المملكة القديمة في آيجي يضم مسرحا ومعبدا ليوكليا، وكانت ديون تضم حرما لديميتر يعود تاريخه إلى القرن السادس. لا نستبعد أن الملك الحاكم كان يوفر أيضا ما تقتضيه مناسبات تقديم الأضحيات من قرابين ومستلزمات. فأي إله أحسن من زيوس، أبي الرجال والآلهة، يدعي المرء الانتساب إليه؟ كانت أصول الإسكندر كما يروي آريانوس تعود إلى زيوس، كحال الملوك المينوسيين الأسطوريين مينوس وأياكوس ورادامانثيس (الكتاب السابع، 29، 3). وكحالهم ربما كانت تتجلى له آيات من زيوس، كالذي حدث عندما رعدت السماء وأمطرت أمارة للمكان الذي يتخذ فيه معبدا لإله الأوليمب زيوس في سارديس (الكتاب الأول، 17، 6). وكما آمنا بانتهاء نسبه إلى سلف بطولي، ينبغي أن نكون مستعدين لقبول الرأي الذي كان الملوك الأرغيون يؤمنون به، وهو أن الآلهة العظام منوا عليهم بالتمكين.
كان الانتماء إلى نسب مجيد نعمة يتنعم بها الأرغيون، ومن ناحية أخرى كانت المنزلة الأرغية تنطوي على مخاطر حقيقية؛ فعلى مدى مائتي سنة أو نحوها من الحكم الأرغي، انبثقت فروع كثيرة من جذع الشجرة الأصلي، فصار ممكنا أن ينتمي ورثة العرش إلى عائلات عدة، وكان التنافس بين تلك العائلات في أحوال كثيرة دمويا؛ فلدى موت بيرديكاس الثاني، ولي الحكم أبناء ثلاثة أفرع لفترات وجيزة. كان من الجائز تماما أن يفتقر الملك الحاكم إلى الشعور بالأمان، وأن يكون لدى الوريث المحتمل ما يبرر اعترافه بالأخطار التي تحدق بحياته. الزيجات المتعددة سمة أخرى مبكرة تعود إلى زمن الإسكندر الأول؛ إذ اتخذ أمينتاس الثالث أبو فيليب زوجتين، ورزق من كلتيهما الأبناء. وكان من أولى مهام فيليب الثاني لدى ولايته العرش التعامل مع إخوته غير الأشقاء. واتخذ فيليب نفسه سبع زوجات، وكان له ابنان بالغان لدى مقتله هما الإسكندر الثالث وفيليب الثالث، لكن عروسه الأخيرة كانت حبلى. وعلى الرغم من المناداة بالإسكندر ملكا على الفور، فقد كان هناك تهديدان محتملان لاحتفاظه بالعرش منبعهما أهله الأقربون، ويتجلى إدراك الإسكندر التهديد الذي يحيق بفرص خلافته أبيه على العرش في العلاقات المقدونية مع أحد مرازبة كاريا الفارسية وهو بيكسوداروس، الذي عرض سنة 336 دخوله في حلف مقدونيا على أن يكلل هذا الحلف بزواج ابنته بفيليب الثالث أريدايوس ابن الملك فيليب الثاني؛ فبادر الإسكندر لدى بلوغه نبأ هذا العرض بإرسال رسول من تلقاء نفسه إلى المرزبان بيكسوداروس حاضا إياه على النظر فيه هو شخصيا بدلا من أريدايوس كزوج مناسب لابنته؛ فحال غضب فيليب على تدخل الإسكندر دون إتمام هذا الزواج، لكن مضامينه كانت مخيفة في نظر وريثه المرتقب (بلوتارخس، الإسكندر، الفصل 10، 1-3).
سيتجلى وجود النساء ونفوذهن في السلالة الأرغية لأي طفل يترعرع في الجناح السكني بالقصر. كانت النساء المهمات ضمانا للمعاهدات من خلال الزواج بأبناء الأسرة الأرغية؛ لأنهن كن ينتمين إلى أسر متنفذة في ممالك أو دول أخرى. ومع أن وظيفتهن الرسمية كانت إنجاب أبناء لوراثة العرش وبنات لتأمين التحالفات، كان نفوذهن يمكن أن يقرر مستقبل الحكم المقدوني. ومن الجائز أن يتمتع الإسكندر الثالث بحظوظ أوفر لو اتفق أن كان فيليب الثالث فاقد الأهلية، وهذا ما آل إليه حاله على يد أوليمبياس كما اشتهر عنها. وربما كان الإسكندر بدوره هدفا لأم فيليب الثالث. كان الأمن مشكلة حقيقية لأي رجل أرغي، وخصوصا ابن الملك. وستوازن ردود أفعال الوريث المحتمل على الأرجح بين إعجاب بقدرات أمه وربما اشمئزاز من أفعالها الأنانية التي يغلب عليها انعدام الرأفة.
ومن ثم لم تكن أواصر البنوة ضرورية لنجاح ابن ملك بعينه فحسب، بل كانت تزيد أهمية نسبه. ظل الجدود الأوائل على أهميتهم، لكن الأواصر العائلية الجديدة من خلال الزواج كان يمكنها إضافة أسلاف عظام آخرين. كان الزواج وسيلة بديهية يوسع بها المرء أسرته، لكن التبني كان وسيلة أخرى؛ فعندما استعاد الإسكندر الملكة آدا كملكة شرعية على كاريا، كانت العلاقة بينهما تجسيدا للعلاقة بين الأهل؛ إذ كان الإسكندر يخاطب آدا كأمه، وأما هي فاتخذته ابنا وخليفة (آريانوس، الكتاب الأول، 23، 7-8).
شجعت بيئة القصر في الغالب أي ذكر أرغي شاب على البحث عن صداقة في مكان آخر. وأحد الخيوط التي تقودنا إلى مصدر أصدقاء الإسكندر المقربين فترة التعليم التي قضاها مع أرسطو؛ ففي حرم حوريات الماء بالقرب من ميزا، تلقى الإسكندر تعليمه بصحبة العديد من أقرانه ومنهم بطليموس بن لاجوس، وكاساندروس بن أنتيباتروس، ومارسيا البيلي الذي ألف رسالة في تعليم الإسكندر لكن ضاعت للأسف، وهفايستيون الذي وصفه آريانوس بأنه أحب الرجال إلى الإسكندر (الكتاب السابع، 14، 3)، وربما بيرديكاس وليسيماخوس أيضا. تتجلى إمكانية دوام تلك الصداقة في تعيين بطليموس وهفايستيون كعضوين في حرس الإسكندر، عندما اجتاز المقدونيون مسيرتهم الشاقة عبر صحراء جيدروسيا. وتوجد شواهد أخرى على استمرار علاقة الإسكندر مع أصدقائه من أيام شبابه الذين نفوا بسببه بعد شجاره مع أبيه فيليب الثاني سنة 337، وهم: بطليموس، وهاربالوس، وإريجيوس وأخوه لاوميدون وهما من ميتيلين بجزيرة ليسبوس، ونيارخوس بن أندروتيموس الذي وفد من كريت لمعاونة فيليب، فقد ولي هاربالوس منصبا ماليا مهما في بابل في عهد الإسكندر ومات بعد ملكه، وارتقى نيارخوس ليتولى إمارة الأسطول الذي أبحر من الهند عبر الخليج الفارسي ومات هو الآخر بعد الإسكندر، وقاد إريجيوس خيالة الحلفاء في جاوجاميلا وقاد فيما بعد قوة أرسلت للتعامل مع الزعيم الفارسي في آريا بآسيا الوسطى، وكان بطليموس واحدا من أنجح من خلفوا الإسكندر، وأما هفايستيون فمات قبل ملكه لكن بسبب المرض لا بأوامر من ملكه لخيانته.
كان الأصدقاء الثقات ضرورة حيوية، وكانت البسالة تنقل الوافدين الجدد إلى دائرة أقرب الرفاق؛ إذ كان إكليلا البسالة اللذان منحا في شوشان سنة 324 من نصيب بوكستاس وليوناتوس، فضلا عن جوائز أخرى كانت من نصيب الأصدقاء الأقدمين (الكتاب السابع، 5، 4-6). صار كراتيروس بالمثل موضع ثقة خاصة لدى الإسكندر بعد أن خدم أبيه، وكان الإسكندر يرفعه إلى مكانة تضاهي مكانته شخصيا (الكتاب السابع، 12، 3). وتجلى إخلاص هؤلاء الأصدقاء وتفانيهم في أفعالهم التي نمت عن الشجاعة والفداء نيابة عن الملك.
في الوقت نفسه يمكن للصداقة أن تنتهي؛ إذ راح كلايتوس الأسود، الذي سبق أن أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس، ضحية اتهامه الإسكندر بادعائه لنفسه من المجد أكثر مما ينبغي له. وأدان الإسكندر، بسبب تهديد التآمر ضد حياته، حارسه فيلوتاس بل أباه بارمنيون أيضا الذي كان فيليب يعتبره أكفأ معاونيه. كانت الصداقات بالغة الأهمية لكن هشة.
بحلول سنة 336 كان الإسكندر الثالث المقدوني قد بلغ عامه العشرين، وقد تلقى تدريبا لائقا لكي يحكم كقائد للجيش المقدوني، الذي كان أهم أداة للحفاظ على مملكة موحدة قوية. كان قد تفادى أخطار الدسائس التي حيكت ضد وراثته العرش، والإعاقة بفعل حادث بدني أو بكيد من شخص آخر، والرفض من فيليب نفسه كوريث له. كانت أمه قد أمنت بقاءه على قيد الحياة وهو طفل، واختط له أبوه مسارا تعليميا لإعداده كوريث محتمل. كان معظم ذلك التعليم بدنيا، وصقلته طبيعة مقدونيا القاسية، والموروثات القديمة كالقدرة على قتل خنزير بري دون استخدام شبكة، وتدريبه لكي يصير فارسا وجندي مشاة لا يشق له غبار ولا يبزه إلا الملك شخصيا. وهكذا يمكننا تصور الإسكندر كشخص مهيب بدنيا، ولا يعني هذا بالضرورة أنه كان فارع الطول أو ضخما بائن الضخامة، بل كان بالأحرى قويا مشدود البنية وعلى درجة عالية من الرشاقة، وكانت همته بادية في أفعاله وأقواله. كان قد اكتسب عصبة من الأصدقاء الذين صادق بعضهم مصادفة أثناء تلقيهم التدريب في بيلا كغلمان للملك، وبعضهم الآخر بالألفة. ظل معظم أصدقاء الإسكندر الأوائل معاونين له جديرين بالثقة وأصدقاء طوال حياته. ولنا أن نؤمن أنه كان يعرف قيمة هؤلاء الصحابة، وخصوصا مع ازدياد إدراكه المخاطر التي تحيق بشخصه ومنصبه. كان ابن عمه أمينتاس يطالب بأحقيته في العرش من خلال أبيه بيرديكاس الثالث الذي حال صغر سنه دون أن يخلفه عندما قتل في الغزو الإليري في 360 / 359، لكنه بات آنذاك مكتمل النضج؛ إذ كان يكبر الإسكندر بنحو أربع سنوات، ومتزوجا بإحدى بنات فيليب. وكان أخو الإسكندر غير الشقيق فيليب الثالث أريدايوس منافسا آخر. الأكثر من ذلك أن أحدث زوجات فيليب، وهي كليوباترا، كانت حبلى، وبما أنها كانت تنتمي إلى نسب مقدوني مهم، فلو وضعت ذكرا فقد يقع عليه اختيار فيليب كوريث بدلا من الإسكندر؛ بما أن فيليب لم يكن يتوقع بالطبع أن يقتل قبل مولد هذا الطفل، أو حتى قبل بلوغه العقد الثاني من عمره. ومن الممكن تماما أن الإسكندر كان قلقا على مستقبله.
ربما انتقل ذلك القلق إلى أمن مملكة مقدونيا. أتيحت للإسكندر فرص متكررة لاكتساب وعي بهذا؛ إذ كان الجيش ناشطا طوال السنة، وكانت بيلا زاخرة بالتخطيط للحرب، وكان الرسل يفدون دوما للتفاوض. كان توسيع المملكة قد حدث منذ وقت قريب جدا، وكان الإغريق قد هزموا قبل ذلك بعامين فقط، ولم تكن مضت غير سنة واحدة على خروج الحلف الكورنثي إلى الوجود. ولم تستتب الأوضاع قط في الأقاليم التي كانت معادية من قبل، وحتى ممالك مقدونيا العليا كان يمكنها تأكيد استقلالها.
هل لنا أن نقترح وجود أي انفعالات داخلية كانت تنتاب الإسكندر في هذه المرحلة الزمنية المعينة؟ ربما يمكننا الاعتراف مطمئنين بطموحه إلى خلافه فيليب إيمانا منه بلياقته للاضطلاع بما ينطوي عليه المنصب من مسئوليات. ولا ريب أن علمه أنه من نسل زيوس وهرقل وآخيل، فضلا عن فيليب، زاده إيمانا بلياقته. من المحتمل أن هذا التقييم الإيجابي أضعفه بعض الشيء قلقه على سلامته واعترافه بجسامة المهام التي ستلقى على عاتقه إذا كتب له البقاء. وتمخض يونيو 336 عن هذه الانفعالات المتضاربة؛ إذ اغتيل فيليب أثناء احتفاله بزيجة أخرى ملوكية، طرفاها كليوباترا شقيقة الإسكندر وخالها الملك الإسكندر الإبيروسي؛ ففي اليوم الثاني من الاحتفالات افتتح موكب مهيب تتصدره تماثيل الأوليمبيين الاثني عشر، بالإضافة إلى تمثال لفيليب، دورة الألعاب التي رتب لإقامتها ذلك اليوم، ولدى دخول فيليب نفسه المسرح الكائن في آيجي، طعنه أحد حراسه وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة. في أعقاب البلبلة الفورية التي تلت ذلك ، قدم أنتيباتروس - الرجل الثاني بعد فيليب - الإسكندر إلى جمعية الجيش، فنادى به أعضاؤها ملكا عليهم. (2) توطيد دعائم السلطة الملكية أول الأمر
كانت طبيعة الملك المقدوني تشكل تحديين كبيرين أمام أي ملك جديد، فلم تكن الفترات الانتقالية، وخصوصا عند مقتل أحد الملوك، تثير اضطرابات في المملكة وحدها بل في عموم نطاقها، الذي كان قد اتسع بشدة بحلول سنة 336. بادئ الأمر لا بد من أن يثبت الإسكندر أنه الأرغي الأنسب للحكم، وهو ما كان سيسهل تحقيقه لو غاب المنافسون بالكلية، أو لم يوجد إلا القليل منهم. بعد مقتل فيليب بفترة وجيزة، قتلت أحدث زوجات فيليب ورضيعها، ربما بناء على أوامر أوليمبياس، وقتل أمينتاس ابن عمه، الذي ربما كان يداهن الإغريق للفوز بالملك، وأما فيليب الثالث أريدايوس فترك على قيد الحياة.
ثاني الطرق وأهمها ليثبت لياقته للحكم براعته الشخصية كقائد عسكري دون مساعدة أبيه. أشعل موت فيليب انتفاضات في المناطق الحدودية القبلية وفي اليونان، فقاد الإسكندر جيشه صوب تراقيا إلى أرض تريبالي والإليريين، ثم إلى أرض التراقيين المستقلين (آريانوس، الكتاب الأول، 1، 4-7) الذين أطلقوا عربات تجرها الدواب في وجه المقدونيين أثناء ارتقائهم ممرا جبليا شديد الانحدار. واحتاج الهجوم على جيتاي عبور نهر إستروس (الدانوب)، أكبر الأنهار على الإطلاق (آريانوس، الكتاب الأول، 3، 5)، وكانت الدراية بالأنهار والجبال المقدونية بممراتها الضيقة تدريبا جيدا تلقاه قائد الجيش الذي نودي به حديثا.
استلزم التعامل مع الإغريق أيضا عملا عسكريا؛ إذ استدعت الثورة التي قامت في طيبة أثناء انشغال الجيش في الشمال الشرقي عودته السريعة إلى بيلا، ومنها إلى وسط اليونان؛ فحوصرت طيبة واستولي عليها ودمرت أو كادت. من الجدير بالتنويه أن الإسكندر أعفى منزل بندار (آريانوس، الكتاب الأول، 9، 10) بينما محا الكيان المادي الذي كان يشكل ذات يوم الدولة-المدينة الرائدة في يونان العصر الكلاسيكي. كانت الثقافة الإغريقية ثمينة وينبغي الحفاظ عليها، وأما الدولة المستقلة فكانت جموحا ومن ثم يمكن الاستغناء عنها. صار دور الملك المقدوني في العالم الإغريقي آنذاك يقتضي أيضا لباقة إدارية على اعتبار أن فيليب الثاني كان يشغل منصب التاجوس التيسالي وعضوية المجلس الأمفكتيوني الدلفي والقائد الأعلى للحلف الكورنثي؛ وولي ابنه هذه المناصب بالإضافة إلى الحقوق التي توجبها المعاهدات التي أبرمها فيليب. كان استمرار الحلف يقتضي التزاما - وهو أيضا من إرث فيليب - بخوض الحرب ضد الفرس.
بعد زيارة معبد دلفي وعرافته، عاد الإسكندر إلى بيلا ليعد العدة لذلك الالتزام؛ فأضيفت إلى تدريب جيشه، وتنظيم مؤنه وإمداداته، وتجهيز سفنه للعبور إلى الأناضول، وتعيين وصي على العرش يسيطر على المملكة بكامل نطاقها؛ مسيرة أخرى شمالا صوب الدانوب في غزوة ستكون ممارسة مفيدة للجنود واختبارا للعتاد الحربي، ويرجى أن يخفف النصر فيها مهمة الوصي على العرش. وقد تحققت هذه الأهداف كلها.
كان في تحقيق مزيد من استتباب الأوضاع مع الأعداء التقليديين حافز آخر للاضطلاع بمهمة الحلف الكورنثي. كان إدراك أهمية وجود جيش دائم لوجود المملكة المقدونية ذاته يستلزم إدراك ضرورة توظيف الجيش في دوره الطبيعي. ولو لم تكن المملكة الموسعة تتطلب اهتماما دائما، لكان بإمكان الجيش ممارسة مهاراته في بقاع بعيدة. الأمر الثاني أن استخدام وحدات عسكرية خاصة من الأراضي التي ضمت حديثا لن يوسع نطاق الجيش المقدوني فحسب، بل سيحرم أيضا أقاليم المملكة التي تحتمل ثورتها من بعض ما في أيديها من وسائل الثورة ضد السيطرة المقدونية؛ فالخيالة التيسالية التي قاتلت باقتدار تحت قيادة الإسكندر ضد الفرس (آريانوس، الكتاب الثالث، 15، 3)، لم يكن بوسعها معاونة انتفاضة تيسالية ضد الوصي على العرش. وبزحف الإسكندر وجيشه ضد الفرس أبعد الجنود الإغريق السبعة آلاف التابعون للحلف الكورنثي عن مصادر النزاع المحتمل في جنوب اليونان. ولم يكن بوسع الرماة الأغريانيين وغيرهم من القوات القبلية تقديم العون لزعمائهم الذين كانوا ذات يوم مستقلين.
شكل 7-2: ممر بترا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
في ضوء هذا الإرث، وخلافته السلسة نسبيا، ونجاحاته الأولية في التعامل مع الانتفاضات التي قامت في أقاليم المملكة، يجوز لنا أن نعزو إلى الملك ذي الاثنين والعشرين ربيعا إحساسا بالثقة بينما كان يعد العدة لمواصلة هجوم أبيه على بلاد فارس. وازدادت ثقته قوة بفضل معرفته بالأحداث الأخيرة في فارس؛ إذ شهدت سنة 338 مقتل الملك الأخميني أرتحششتا الثالث على يد مستشار «ثقة» يدعى باغواس، الذي أقام ابن الملك القتيل على العرش باسم أرتحششتا الرابع، ومضى في طريقه ليقضي على أبناء الأسرة المالكة الآخرين. وبعد ذلك بسنتين قتل أرتحششتا الدمية هو وأولاده على يد المستشار ذاته، فورث العرش أحد أبناء عمومة أرتحششتا الثالث، مرة أخرى بمساعدة باغواس وبفضل قلة المرشحين الآخرين لوراثة العرش. نوهنا في الفصل الخامس إلى أن مناسبات الخلافة على العرش كانت تتمخض دوما عن انتفاضات في بقاع الإمبراطورية المترامية الأطراف، ولا بد أن هذه السنوات الثلاث بما شهدته من عمليات تطهير وعدم استقرار السيطرة المركزية، كان من شأنها أن تتيح فرصة ممتازة للثورة أو لنجاح جيش غاز في مهمته.
كانت المعلومات المباشرة عن طبيعة الفرس متاحة للإسكندر بصور عديدة. تضمنت المصادر الإغريقية سرودا مكتوبة؛ إذ كان هيرودوت قد قضى شبابه في مدينة- دولة هاليكارناسوس الإغريقية في آسيا الصغرى، وزار فيما بعد بعض بقاع الإمبراطورية الفارسية على الأقل في إطار الاستقصاءات اللازمة لمصنفه «الحروب الفارسية». وضمن زينوفون أنباسته المغامرات والإخفاقات التي حدثت منه هو شخصيا ومن المرتزقة الإغريق الآخرين الذين استعين بهم لإطاحة الشاه أرتحششتا الثاني وإقامة أخيه قورش الذي يصغره مكانه. ووضع طبيب الأخمينيين الإغريقي 23 كتابا عن التاريخ الفارسي ضاعت كلها الآن، ولم يتبق منها غير شذرات، وأما خويريلوس الساموسي فعدد الجماعات القبلية التي عبرت الهلسبونت مع المهاجرين الفرس. وكانت في الكلام المتداول معلومات أخرى؛ إذ هرب أرتبازوس مرزبان المنطقة التي كانت قديما المركز الآشوري خوفا من حاكمه الأخميني في أعقاب انتفاضة فاشلة، وعاش بصحبة أسرته 10 سنوات في بيلا. وجدير بالتنويه أن داريوس الثالث أسند قيادتين بحريتين مهمتين إلى أخوين إغريقيين بينهما وبين أرتبازوس صهر . وكان أرسطو معلم الإسكندر قد قضى بضع سنين في مملكة أتارنيوس الصغيرة في شبه جزيرة ترواس. وكان يشتبه في تواطؤ «الملك الفيلسوف» هيرمياس مع أعداء فارس (اقترحنا أن فيليب المقدوني ربما يكون المقصود)، وأعدم بأوامر من أرتحششتا الثالث . كان الرسل أيضا يتنقلون بين بيلا والعواصم الفارسية، لكن استطلاع الكشافة كان من مصادر المعلومات الأخرى المهمة، وكانت الكشافة عنصرا أساسيا من عناصر الجيش المقدوني منذ زمن فيليب إن لم يكن قبله. أخيرا توجد أوجه تشابه عديدة بين المملكتين، فكلتاهما كانت دولة ملكية مركزية الإدارة، وكلتاهما كانت ضخمة من حيث الرقعة الجغرافية وعدد السكان مقارنة بالدول-المدن الإغريقية، وكلتاهما كانت تحتوي على ثقافات متعددة جمعها الفتح في البداية وحافظ على تماسكها - بإحكام أو بغير إحكام - جيش قوي. تمخضت هذه السمات المتشابهة عن الكثير من المشكلات المتطابقة التي واجهت ملوك كلتا الدولتين، وسنعود إلى أوجه الشبه في تمحيص طبيعة جهود الإسكندر لدمج المملكتين في إمبراطورية واحدة. (3) الحملة
لا خلاف على عبقرية الإسكندر القيادية. يستهل القائد جيه إف سي فولر ملخص دراسته التي تحمل عنوان «قيادة الإسكندر الأكبر العسكرية» بمبحث عنوانه «كعبقري». ولن ننكر هذه العبقرية وإن كنا سنجادل بأنها كانت متوقعة من نواح كثيرة. كان تحت يد الإسكندر إرث ما صنع أبوه، وهو جيش دائم مخلص مشحوذ القدرات، وأركان جيش من الضباط المخضرمين الرفيعي المستوى. كان استقطاب المعاونين المستقبليين من خلال تدريب شباب الطبقة الأرستقراطية في بيلا قد أثمر بالفعل رجالا في مثل سن الإسكندر، يمكنهم في النهاية أن يحلوا محل من هم أكبر منهم سنا. ومع أن الجيش وقواده كانوا ينتمون إلى خلفيات وتكتيكات عسكرية متنوعة، كانت الوحدات تعمل كوحدة واحدة. وعلى الرغم من اشتمال جيش الإسكندر على مرتزقة، فإنهم لم يشكلوا إلا سبعه (أو ثمنه على حسب عدده الإجمالي). كانت الغالبية العظمى مرتبطة بالإسكندر كملك وكقائد للحلف الكورنثي، ومن خلال التحالفات بموجب المعاهدات المبرمة. علاوة على ذلك، كان فيليب قد توسع في إنتاج العتاد العسكري ليشمل آلات الحصار والمجانق القادرة على قذف حجارة يصل وزنها إلى 50 رطلا (أكثر من 22 كيلوجراما).
شكل 7-3: معركة جرانيكوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، 1887، 1، الصفحة 13.
ساهم التعليم الذي تلقاه المقدونيون، بمن فيهم الإسكندر، على أرض مقدونيا، في عبقرية الإسكندر. دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر غالبا عند أنهار؛ ففي اللقاء الأول عند نهر جرانيكوس في شمال غرب الأناضول، قاد الإسكندر، ممتطيا صهوة جواده الأيقوني بوسيفالوس، جيشه عبر النهر للكر على الجيش الفارسي الذي اصطف على الضفة الأخرى. واندلعت شرارة معركة إيسوس والجيشان على ضفتي نهر بيناروس، فانقض المقدونيون من جديد بقيادة الإسكندر على عدوهم عبر النهر. ومع أن جاوجاميلا افتقرت إلى عنصر النهر، فإن الجيش اضطر إلى عبور نهر دجلة بتياره السريع (آريانوس، الكتاب الثالث، 7، 5). واقتضت الهزيمة التي ألحقها المقدونيون بالجيش الهندي بقيادة بوروس معرفة دقيقة بنهر هايداسبيس المترع بمياه الأمطار الموسمية. ثم سار المقدونيون بعد هذا النجاح الأولي جنوبا بمحاذاة نهر السند حتى مصبه في بحر العرب في قوارب أمر الإسكندر ببنائها. يروي آريانوس أن الإسكندر نفسه استكشف مصبي نهر السند أولا، ثم قضى بصحبة قسم من خيالته ثلاثة أيام في استكشاف الساحل قبل الرحلة البحرية التي أقلت قسما من المقدونيين من الهند إلى رأس الخليج الفارسي. كان ما اكتسبه من معرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجا ثانويا ثمينا لإرثه المقدوني.
شكل 7-4: معركة إيسوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، 1887، 3، الصفحة 25.
أحسنت مقدونيا أيضا تعليمه كيف يتعامل مع الجبال، مما كان ضروريا لشن حملة مظفرة في آسيا الوسطى؛ ففي قلعة سوقديانا في باخترا اكتشف الإسكندر أنها شديدة الانحدار من كل جوانبها ومغطاة بالجليد، وأن المدافعين عنها يمتلكون من المؤن ما يكفيهم لحصار طويل، ومع ذلك عقد العزم على مهاجمتها؛ فصاح عدوه قائلا إن عليه العثور على بعض الجنود المجنحين إن كان يرجو الفوز، وقد وجد 300 رجل من هؤلاء، دقوا أوتادا حديدية في الجليد، واستعانوا بها في تسلق المنحدر ليلا، ويقال إن 30 فقط منهم لقوا حتفهم. وعندما رأى محتلو المرتفعات هؤلاء الجنود المجنحين عند الفجر استسلموا (آريانوس، الكتاب الرابع، 18، 5-19، 4). وفيما بعد نجح المقدونيون بقيادته في الاستيلاء على صخرة أرونوس، وهي موقع استطاع ذات يوم الصمود في وجه هرقل الجبار (آريانوس، الكتاب الرابع، 30، 1-4).
شكل 7-5: نهر السند عند ملتقى نهري السند وغلغت. وتظهر في الصورة نهاية جبال الهيمالايا شرقا وجبال قرة قورم شمالا. صورة بعدسة البرفسور دانيال وا وبإذن منه.
بالإضافة إلى المهارات التي طورتها الخدمة في مقدونيا، كان الجنود المقدونيون قد اكتسبوا مهارة كبيرة في الحصار؛ فعندما أشارت حسابات المهندسين إلى أن تحصينات غزة أعلى من أن تجدي معها آلات الحصار نفعا، لم يوافقهم الإسكندر الرأي، واستولي على غزة بمساعدة تلك الآلات (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 2). كان الجنود العاديون أيضا متمرسين على الحصار؛ إذ بدأ المقدونيون في مدينة سانغالا في الهند يقوضون السور حتى قبل قصف أي جزء منه بالآلات (آريانوس، الكتاب الخامس، 24، 4).
كان الزعماء المقدونيون يثمنون قيمة من نادوا بهم ملوكا. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدربون لصد الإليريين والتراقيين والإغريق والغارات الأخرى - والمأمول التغلب عليهم - مفتاح سلامة أراضي المملكة. نشئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروف صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وكصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والحاكم الحكيم سيقدر قيمة هؤلاء الجنود. وعندما سعى الإسكندر إلى مواصلة الزحف شرقا في الهند، وصف رجاله المقدونيون اشتياقهم المنهك إلى الأهل والوطن (آريانوس، الكتاب السادس، 27، 2-9). كان الإسكندر يعتقد أنهم سيغيرون عقلهم الجماعي، لكن لما لم يحدث هذا، أعلن في الجيش بوضوح قراره العودة.
كان موقع مقدونيا المتوسط، بقربها من الآخرين وبما تحتوي عليه من عناصر جذب للآخرين، يقدم المزيد من الأفكار الثاقبة للحملة الفارسية. كان اعتزال الآخرين مستحيلا، ومن ثم فالتعرف على الأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. سبق أن بينا أن الإسكندر شاهد توسع رقعة مقدون وتفاعلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخس أن حديثا دار بين الإسكندر الصبي الصغير ورسل الملك الفارسي في غياب الملك فيليب، ويفترض أن أسئلته عنيت بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحولت إلى خلية للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وكذا امتد عالمه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.
لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص كان يلزمه التعامل مع ثقافات أخرى، بل ربما أيضا يلزمه ذلك بطرق تفهمها تلك الثقافات. كان فيليب قد عرف طبيعة المؤسسات الإغريقية وقيمتها مع اتساع سيطرته جنوبا في عمق اليونان؛ إذ لم يل بعض المناصب الإغريقية الرسمية فحسب، بل أنشأ أيضا تنظيمات جديدة على الطراز الإغريقي. ورث الإسكندر هذه المناصب والتنظيمات، ومع نجاحه في الإمبراطورية الفارسية، أقحم نفسه في الهيكل الفارسي أيضا. تتجلى مؤشرات استيعاب الإسكندر هذه المعرفة في حفاظه على المؤسسات القائمة، بمعنى المرزبانات والمرازبة والآلية الضخمة المستخدمة في الخزانة والتسجيل في بابل. وأسند أيضا إلى الأهالي مناصب السلطة في الأقاليم المفتوحة حديثا، ونذكر مثلا أن صداقته مع أرتبازوس، الذي سبق أن لجأ إلى بيلا، أبقت على أرتبازوس وأبنائه في مناصب رفيعة في نظام الحكم الجديد في الإمبراطورية الفارسية (آريانوس، الكتاب الثالث، 23، 7). وبهذا يكون الإسكندر سار على خطى فيليب؛ إذ احتفظت الدول-المدن الإغريقية بطريقتها في الحياة، وإن كانت تحت إشراف مقدونيا، وواصلت العائلة الإبيروسية المالكة حكم المملكة تحت الإشراف ذاته. وربما توقع الفرس الموالون للإسكندر حظوظا مماثلة.
من ناحية أخرى، كانت المبالغة في البعد عن «طريقة الحياة المقدونية» تنطوي على خطورة، على نحو ما تبين حالة مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ إذ عندما اتهم الرجل الذي أنقذ حياة الإسكندر في معركة جرانيكوس ملكه بادعاء فضل أكثر مما ينبغي لنفسه فيما حقق من انتصارات، مات على يده. وفيما بعد أجبر الإسكندر على تغيير خطته للسير شرقا في الهند، عندما رفض رجاله المقدونيون المواصلة. ويجدر بنا أن نتذكر أنه بينما تم تسريح الفرقة الإغريقية في جيش الإسكندر في إكباتان سنة 330، لم يتلق الجنود المقدونيون عرضا مماثلا.
من جديد نقول إن ميراث الإسكندر لا يفسر نجاحه بالكلية؛ فلا شيء في التدريب الذي تلقاه هيأه للتعامل مع الفيلة، وكان الهيكل الإداري في بيلا بسيطا مقارنة بما هو موجود في بابل، ولم يكن في مقدونيا طريق يضاهي الطريق الملكي الفارسي في طوله وملاءمته للسفر السريع. كان تكييف أدواته بقوة وسرعة ضروريا، وكان نجاحه في ذلك مؤشرا على قدراته التي تثير الإعجاب.
فهل يمكننا الاطلاع على عقل الإسكندر بينما كان يتكيف مع ظروف الإمبراطورية المترامية الأطراف أثناء الحملة التي دامت 10 سنوات؟ وهل استبدل بملكه مقدونيا منصب شاه فارس؟ تدل الشواهد على أنه لم يفعل. لا شك أنه أضاف وحدات عسكرية فارسية إلى جيشه تضم مرتزقة هنودا (آريانوس، الكتاب الرابع، 27، 3)، و20 ألف جندي فارسي وتضم كذلك كيشيين وطربوريين (آريانوس، الكتاب السابع، 23، 1)، وفرسانا من أبناء الفرس المهمين (آريانوس، الكتاب السابع، 6، 4-5)، و30 ألف شاب فارسي. كان ضم فيلق أجنبي إلى الجيش ممارسة اعتيادية عند كل من فيليب والإسكندر تحضيرا للحملة. علاوة على ذلك، درب المجندون الجدد على الطريقة العسكرية المقدونية ربما باتباع طريقة مماثلة لتدريب أبناء الأسر الأرستقراطية المقدونية في بيلا (آريانوس، الكتاب السابع، 23، 6، 1 والكتاب السابع، 23، 3-4). ولم ينتقص احتفاظ الإسكندر بالمسئولين الفرس من دور معاونيه ذاتهم؛ إذ ظل المعاونون المخلصون، الذين ربطتهم بالإسكندر علاقات تعود إلى أيام الطفولة، يرتقون إلى مناصب أعظم أهمية. وفي شوشان سنة 324، ازدادت صلة هؤلاء الصحابة بملكهم الأرغي قوة، بالوسيلة التي وظفها أمينتاس الثالث وفيليب الثاني، وأعني الزواج؛ فبزواج الإسكندر وهفايستيون بشقيقتين، سيكون أولادهما أولاد خالة (آريانوس، الكتاب السابع، 4، 5). لكن يجب التأكيد على كلمة «مخلص»؛ إذ سيخضع المعاونون الخائنون مهما كانت أصولهم للعقاب، وغالبا بالإعدام. كان الإسكندر، كملك مقدوني، على دراية تامة بوضعه المحفوف بالمخاطر قبل زمن طويل من جلوسه على عرش الأخمينيين، الذين كان ينتابهم الخوف ذاته من الخونة والمنافسين.
ينبغي أن ننظر إلى زيجات الإسكندر في ضوء اعتناقه المحتمل للثقافة الفارسية؛ ففي شوشان اتخذ إحدى بنات داريوس الثالث زوجة ، ومثلها إحدى بنات الملك السابق أرتحششتا الرابع، وكان قد سبق له الزواج برخسانة، ابنة وخش آراد زعيم باخترا. وتجددت في آسيا صداقة دائمة مع بارسين بنت أرتبازوس التي كانت تماثل الإسكندر سنا، وقضت نحو عشر سنوات في بيلا مع أبيها المرزبان وسائر أسرتها. وتروي بعض المصادر أن الإسكندر وبارسين أنجبا ابنا سمي هرقل. ولم تربط الإسكندر علائق زواج بمقدونيا، لكن استحضار زوجات فيليب يضع دور الزواج الأرغي في نصابه الصحيح؛ إذ لم تكن من بين زيجات فيليب السبع إلا زيجة واحدة بامرأة مقدونية عقدت سنة 337، وكانت الست الأخريات ضمانات لتحالفات، حتى إن تمخض بعضها عن غرام حقيقي. ولو عاش الإسكندر حتى بلغ 45 سنة - وهو عمر فيليب سنة 337 - فالغالب أنه كان سيتزوج مرات أخرى عديدة، بل ربما كان من شأنه أن يتزوج بامرأة من الأسر المقدونية النبيلة.
لا شك أن الفاتح الشاب كان سيفخر أعظم الفخر بإنجازه؛ فهل أصابته الأوهام حتى صار يعتقد أنه أكثر من إنسان؟ ولماذا سيرسل في نهاية حملته إلى الإغريق يأمرهم بعبادته كإله كما تروي بعض المصادر؟ ربما يكون هذا نتيجة ولايته منصب شاه فارس. ومن ناحية أخرى، كان وجود ارتباط وثيق بالأبطال، بل بالآلهة العظام أيضا، شيئا متعارفا عليه لدى الملوك المقدونيين قبل الإسكندر. ولتتأمل قضاء وقت ثمين لقطع 370 ميلا (600 كيلومتر) في الصحراء إلى عرافة آمون في غربي مصر لكي «يعرف معلومات أدق عن نفسه» (آريانوس، الكتاب الثالث، 3، 2). لقد علم الإسكندر منذ الطفولة تثمين نسبه، الذي يتصل بالعديد من الأبطال (هرقل وبيرسيوس وآخيل)، بل يتصل فوق ذلك بإله الأوليمب زيوس. كان قد برهن بأفعاله على صلة نسبه بالأبطال، وكشف بأضحياته المنتظمة عن اعتماده على رضا زيوس. في وقت مبكر يعود إلى القرن الخامس، كان هيرودوت يعرف أن عرافة آمون من عرافات زيوس أيضا (الكتاب الثاني، 55). وقلنا إن وجهات نظر الأقدمين تستحق الاحترام، حتى إن بدت غريبة في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد. أفلن يؤدي ملك مقدوني الأعمال المتعارف عليها سعيا لكسب رضا أبي الرجال والآلهة حتى في مصر؟ وبعد أن تم له الاستيلاء على مصر دون قتال، سارع إلى قيادة رجاله عائدا إلى أرض لم يكن الاستيلاء عليها سهلا في الغالب. لم يكن قد أعيد ضم مصر إلى الإمبراطورية الفارسية إلا منذ 10 سنوات، بعد نحو 60 سنة من الاستقلال، وأما أقاليم الشام فكانت مشهدا لانتفاضات متقطعة. كان العمل على نيل رضا زيوس-آمون ضروريا. فما العرافة المصرية الأخرى التي ارتبطت بزيوس على هذا النحو؟ ظل زيوس يد عون للإسكندر طوال الطريق إلى الهند، ثم طرق العودة إلى بابل. وكشف فيليب والإسكندر بنجاحهما المتزايد عن انتمائهما إلى سلف عظيم، وبطريقة لافتة للأنظار، فنحن نتذكر أن فيليب أمر بحمل تمثاله بصحبة تماثيل الأوليمبيين الاثني عشر. (4) إمبراطورية الإسكندر
غالبا ما تستخدم أنظمة تقسيم العصور التاريخية عصر الإسكندر كبداية عصر جديد؛ إذ بداية من سنة 336 أو ربما سنة 323، يفسح العصر الهيليني الكلاسيكي المجال للحقبة الهلنستية. يبقى الإغريق، والثقافة واللغة الإغريقيتان، بل الدول-المدن الإغريقية أيضا، لكن يحتويها شيء أكبر وليس هيلينيا بالكلية. ولتأكيد صحة هذا النظام، دعونا ننظر في طبيعة الإمبراطورية التي أنشأها الإسكندر وبدأ تنظيمها. إلى أي مدى انحرف الإسكندر عن تراثه المقدوني؟
من البديهي أن دمج المملكتين المقدونية والفارسية تمخض عن دولة جديدة، وهو شيء سعى الفرس إلى تحقيقه في عهد الملكين داريوس الأول وأحشويرش الأول في أوائل القرن الخامس لكنهم أخفقوا. لم يغير الإسكندر إلا قليلا من الهياكل القائمة في أي من المملكتين، ووظف أدوات كلتيهما. وبصفته قائد الجيش المقدوني كان ملتزما تمام الالتزام بالاعتماد على الجيش الذي أثبت نجاحه العظيم، وأضاف الإسكندر إلى القوة المتقدمة المؤلفة من نحو 10 آلاف جندي مشاة و1000 فارس؛ 30 ألفا آخرين من المشاة و5 آلاف من الخيالة. كان أغلب هؤلاء الجنود مقدونيين أو رعايا مقدونيين أو إغريق، من أعضاء الحلف الكورنثي ومن المرتزقة على السواء. ومع اتساع السيطرة على الأراضي التي كانت ذات يوم فارسية، ضم إلى جيشه جنودا من بلاد فارس. بمعنى آخر، تواصلت ممارسة تعزيز أمن الأراضي الواقعة تحت الحكم المقدوني باستخدام جيش دائم مؤلف من رجال ينتمون إلى جميع الأقاليم، وكان تدريبهم على الطراز العسكري المقدوني.
كان الإسكندر ملزما، بولايته ملك مقدونيا، بمباشرة الأعمال العدائية ضد شاه فارس بسبب إعلان فيليب عن حملته أمام الحلف الكورنثي، والتاريخ الحافل بالخوف من التوسع الفارسي غربا الذي يجمع المقدونيين والإغريق، والحاجة إلى توفير فرصة عمل للأداة الحيوية التي يعتمد عليها الوجود المقدوني. لكن هل كان الإسكندر مضطرا إلى الزحف فيما وراء حدود آسيا الصغرى إلى أراض لا يوجد بها إلا قليل من الإغريق كي يحررهم من الهيمنة الفارسية؟ يوجد دافعان يبدوان مرجحين؛ أولا: يكشف لنا التوسع المقدوني بداية من القرن الخامس فصاعدا، وخصوصا أثناء حكم فيليب الثاني، عن صورة دفينة؛ إذ تمخض تلاحم مقدونيا الدنيا والعليا عن تهديدات من شعوب أبعد، كالإليريين والإغريق مثلا، وأثار النشاط المقدوني في البحر الأسود عداء فارس الأناضولية. وأما الدافع الثاني، فكان يقينا وجود فرص سانحة كما في مصر مثلا، التي كانت تحن إلى استعادة استقلالها عن السيطرة الفارسية.
استخدم الإسكندر وسائل أخرى لتوحيد الأراضي الشاسعة بالإضافة إلى القوة العسكرية، فأنشأ حاميات في الأقاليم التي لم تستتب فيها الأوضاع بالكلية وكانت حيوية للاتصالات، وفي القلاع المحصنة من قبل أو التي حصنت حديثا، وفي المستوطنات الكبرى. كان بعض هذه الحاميات مؤقتا، وكان بعضها الآخر دائما؛ وهو في هذا لم ينحرف إلا قليلا عن ممارسة الملوك الأرغيين السابقين. كان الإسكندر متحمسا لإنشاء مستوطنات جديدة تكون أكثر من مجرد حاميات عسكرية، وتنسب إليه سبعون منشأة من هذا القبيل، لكن لا يعرف منها على وجه اليقين إلا خمسة وعشرون أو نحو ذلك. كان بعضها قد أعيد تأسيسه، وبعضها الآخر جديدا، وبعضها الثالث مقار سكن ملكية حولت إلى مدن. غرس الاعتراف بقيمة المنشآت الملكية في الوريث المحتمل للعرش في مرحلة مبكرة من حياته؛ ففي سنة 340 على سبيل المثال، قاد الإسكندر جيشا إلى الشمال للتعامل مع تمرد قبيلة مايدي، ولدى استيلائه على مركز المتمردين، أعاد تأسيسه باسم ألكساندروبوليس، سيرا على خطى فيليب الذي سمى عدة مواقع باسم «فيليبوبوليس» وموقعا واحدا باسم «فيليبوي»؛ تيمنا به.
في هذه الممارسة دلالة على نظام الإدارة المقدوني؛ إذ تحتاج الملكيات إلى مراكز إدارية واقتصادية، وإن كانت لا تتقبل بسهولة دولا مستقلة ذاتيا داخل أراضيها؛ فقد اتخذ قرار بتأسيس مركز آمن للسيطرة المقدونية في أواخر القرن الخامس، وأكدنا على النشاط الذي ازداد غالبا كثافة في بيلا بين عامي 359 و336. تشبه الإسكندرية في مصر بيلا في موقعها المحمي على نهر بعيد عن ساحل البحر، وطبيعتها المخططة، واقتران المسكن الملكي بالجهاز الإداري.
لم يكن فيليب والإسكندر مضطرين إلى محو كل المستوطنات السابقة؛ فكانت كورنثة تحتل موقعا استراتيجيا، وكانت مركزا مهما للإنتاج والتجارة، وهي ملامح تؤيد استمراريتها، لكن كمكان اجتماع لأعضاء حلف الملك. كانت دواوين المحاسبة المتطورة الموجودة في بابل ضرورية لإدارة الإمبراطورية، سواء أكانت تحت ملك أخميني أم ملك أرغي.
صار الإسكندر شاه فارس وبازيليوس المقدونيين (وغيرهم)، وأضاف أيضا مناصب رسمية جديدة إلى جعبة مناصبه بوراثته ملك الفراعنة في مصر وإقامته تحالفات مع البعض، وبصيرورته ابنا بالتبني لواحدة من الحكام، وبزواجه ببنات عائلات مهمة في الأراضي المفتوحة حديثا. لا يوجد ملك أرغي من قبل تولى منصب شاه فارس، لكن كان فيليب قد برهن جيدا على قيمة تكديس مجموعة من المناصب الرسمية في شخصه.
هل يمكن القول إذن بوجود صلة مماثلة بين ثقافة العصر «الجديد» وتقليد مقدوني قديم؟ وهل تتلاشى العناصر المميزة لمقدونيا القديمة مع استخدام اللغة والثقافة الإغريقيتين كخيط ناظم يتيح قدرا ما من الوحدة، في البيئة الشديدة التنوع التي اتسمت بها إمبراطورية الإسكندر؟ لا يمكن إنكار أن نجاح الإسكندر كان الأساس لتطورات أعقبت وفاته المبكرة؛ فالصراع على خلافته أعطانا ممالك العصر الهلنستي، لا إمبراطورية مقدونية ولا فارسية جديدة. لكن تفاعل العناصر الإغريقية والمقدونية لم يكن جديدا، واستنتجنا من تأملنا التفاعل الأسبق بين اليونان ومقدونيا أن تبني اللغة والديانة والعادات والمؤسسات الإغريقية كان مستقرا تماما قبل حكم الإسكندر. والواقع أن في اعتماد أبيه على المعاونين الإغريق شهادة إثبات، وهو اعتماد لم يقتصر على البشر بل امتد إلى الآلهة أيضا. تلقى الإسكندر تعليمه على يد أرسطو، ونال دعم زيوس أيضا. ولا شك أن هيلينية مقدونيا تشابكت مع العادات والمعتقدات المقدونية القديمة، وهكذا كان الخيط الثقافي الناظم لإمبراطورية الإسكندر الجديدة هو الهيلينية على الطراز المقدوني، بل ازداد أيضا تقارب الثقافتين ببلوغ الممالك التي خلفت الإسكندر في مصر وآسيا ومقدونيا ذاتها السنوات الأولى من أعمارها. ويفترض هذا التقارب ضمنا وجود فترة تفاعل أطول من عمر الإسكندر الثالث الذي عاش 32 سنة.
الخريطة 5: إمبراطورية الإسكندر.
لا يوجد في وصف الأثر الذي أحدثته أحوال العالم الذي شهد مولد الإسكندر وشكل حياته؛ ما يرمي إلى التقليل من قدرته وإنجازاته؛ فالتفاعل بين المجتمع وأفراده الآحاد متبادل، ومن ثم فإن قواعد الثقافة وهياكلها ترسم الحدود، وأما ردود الأفعال الفردية تجاه الأوضاع القائمة فيمكنها إحداث تغييرات كبيرة، ولبعض الناس تأثير أكبر على عوالمهم من بعضهم الآخر. وينتمي الإسكندر إلى الصنف الأول.
إن تقدير طبيعة عوالم الإسكندر المتعددة يحسن فهمنا هذا الشاب النشيط الذي لم يتسن لأحد سبر أفكاره وانفعالاته؛ فقد اجتمعت تأثيرات البيئة المادية المقدونية، ومنزلته كأحد أفراد السلالة الأرغية الحاكمة، وتدريبه ليكون وريثا محتملا لفيليب الثاني، لتنتج شابا مدفوعا ليبذ الجميع. كان لزاما أن يكون جسمه في تمام لياقته، وقد درب عقله على جميع مهام القيادة من أجل استجابة حكيمة وسريعة. وكان في أسلافه، ومن بينهم هرقل وآخيل بل زيوس أيضا، تطمين على أنه سينجح، ومن الجائز تماما أن إنجازه هو شخصيا أعمالا بطولية تضاهي أعمال أسلافه في عظمتها أو تفوقها، اعتمد على إيمانه بأنه ذو منزلة خاصة. كانت المهام التي تنتظره لدى مقتل أبيه محددة، فلا بد من أن يعلم الأعداء التقليديون على الفور أن الملك الجديد ينتوي الحفاظ على الملك الذي ورثه، لكن عليه أيضا الاضطلاع بمسئولية الحرب ضد الفرس. وقد ورث بالإضافة إلى هذه المهام الأدوات اللازمة، من جيش ممتاز ومعرفة بحالة العدو الراهنة.
مع تغلغل المقدونيين تغلغلا أعمق في الأراضي الفارسية، اكتشف الإسكندر سمات مشتركة عديدة بين مقدون وفارس، وبهذا أمكن أن تصير الدولتان مملكة واحدة تحت حاكم واحد. كانت كلتا الدولتين تنيط السلطة بالملك، ومع أن جهاز مقدون الإداري لم يكن يضاهي جهاز فارس، كان تقسيم المسئولية في ازدياد في مقدونيا؛ فقد أبرم الملوك الأرغيون قبل ذلك معاهدات وتحالفات بأسمائهم، وولي فيليب مناصب رسمية في الأقاليم التي ضمت إلى السيطرة المقدونية، وعكف الإسكندر على توسيع الممارسة المقدونية الراسخة. لم يوافق الجميع على المزج، ولم يكن يتهاون مع المعارضين. كان القضاء على التهديدات المتصورة سمة أصيلة من سمات أي ملك مقدوني، ونفعه هذا الإرث كثيرا فأمكنه الزحف أكثر فأكثر داخل الإمبراطورية الفارسية، ولو استطاع إقناع رجاله المقدونيين لزحف فيما وراء حدودها الشرقية.
تصف المصادر مختلف الخطط التي صاغها الإسكندر بعد عودته إلى بابل سنة 324، لكن موته في السنة التالية وضع حدا لأي نوايا في نفسه، فلدى موته انتهت القيادة المؤكدة بالمراوغة على السلطة بين ورثته. ومع ذلك يمكن استبانة الشكل العام لخططه المستقبلية؛ فبما أن القدرة العسكرية المقدونية كانت أداة إنشاء المملكة وتوسيعها، فقد ظل الجيش الأداة الأساسية، وسيحتفظ بشكله المقدوني حتى مع إلحاق غير مقدونيين بصفوفه. كانت وحدات من الجيش تتمركز في الحاميات، وأما لب الجيش فكان في حالة حركة، عاملا على تعزيز تلاحم المملكة وتوسيع حدودها، وكان يقود هذا الجيش الملك نفسه أو يقوده صاحب أهل ثقة عندما تقتضي الضرورة تقسيمه. كان الإسكندر، الذي نادت به جمعية الجيش ملكا، قد أدرك ضرورة أن يكون واحدا من أفراد الجيش، فقاده قيادة مباشرة، وعرف أسماء رفاقه، وعقد المجالس مع كبار معاونيه، وعاقر الخمر واصطاد معهم بانتظام، ومارس الطقوس الدينية. لا شك أن أهورا مزدا ما كان ليحل محل زيوس والآلهة الكبار الآخرين. كان يدرك - وكانوا هم أيضا يدركون - تفوق الإسكندر بكل هذه المناصب، وهو ما يتضح من فهمه التكتيكات والاستراتيجية، فضلا عن تألقه في القتال.
بالإضافة إلى القاعدة العسكرية أبقى الإسكندر على المراكز القائمة، وأنشأ منشآت جديدة كما فعل في السنوات الأولى من حكمه، ولبت هذه المنشآت الحاجات الإدارية التي كانت تلبيها بيلا في مقدون، وساهمت بها بابل وشوشان وإكباتان في الإمبراطورية الفارسية، وأمكنها فوق ذلك تعزيز المزيج الثقافي المتنوع للمملكة الجديدة، وكانت هذه أيضا من وظائف مراكز الدولة في كل من مقدون وفارس قبل ضم المملكتين.
خلاصة القول أن الإسكندر الثالث المقدوني يمكن فهمه فهما أتم كرجل صاحب دوافع قوية طوال حياته بأكملها. كانت حياته معرضة للخطر منذ ميلاده كواحد من أبناء الفرع الحاكم من السلالة الأرغية، والواقع أنه كانت تحيق بالصبي تهديدات من داخل هذا الفرع ذاته، منبعها أبناء عمومته وإخوته غير الأشقاء من زوجات أبيه الكثيرات. كابن صحيح عاقل، دفعه أبوه الملك إلى تنمية المهارات المطلوبة من ملك مستقبلي؛ أما أمه، غير المقدونية، فصقلت مهاراته بطرق أخرى، ومنها مثلا اختيارها قريبها ليونيداس ليكون معلمه في سنوات عمره المبكرة. لقد عرف من كلا أبويه أن نسبه يبشر بأن بإمكانه الطموح إلى إنجازات آخيل وهرقل وديونيسيوس وزيوس.
كانت الدراية بطبيعة مقدونيا والمناطق المجاورة ضرورية للدفاع عن حدودها، وكانت تلك الطبيعة قاسية، وتستدعي لياقة بدنية رفيعة لتسلق الجبال وخوض الأنهار والدفاع عن الممرات الضيقة. كان تنافسه مع الشباب الآخرين في التدريب في بيلا دافعا إضافيا للتفوق عليهم إذا كان يحدوه أي أمل في الفوز باحترامهم كملك. ولأن غلمان الملك كانوا من أصل أرستقراطي، فلا بد من أن آباءهم كانوا مهرة في ركوب الخيل، وهكذا فكان لا بد للإسكندر أيضا من أن يتفوق عليهم في ركوب الخيل.
مع النجاح في توسيع المملكة جاءت الحاجات الإدارية، وهذا صنف آخر من أصناف التعليم الذي تلقاه الإسكندر؛ فمن حياته في بيلا تعرف على الوحدات الإدارية العديدة، ومن فيليب اكتسب معرفته بالمعاهدات التي يبرمها الملك، والمناصب الرسمية المتعددة التي اكتسبها بفتح دول أخرى. ويوجد بعد آخر أضافه معلمه المتأخر أرسطو، الذي تناول حتما جوانب الحكم النظرية في كتابه «عن الملكية»، مع أنه ضاع كما سبق أن نوهنا.
وهكذا خضع الإسكندر لاختبارات مستمرة طوال فترة صباه، وعندما بلغ أول مبالغ الرجال، اتخذت تلك الاختبارات صورة مناصب رسمية، كوصايته على العرش وقيادته جناح الجيش، وأكسبه إظهاره أداء جيدا فيها احترام معاوني الملك الذين يكبرونه بمثلي عمره. أيداني هذا الصبي فيليب في مهارته؟ أيسعى هذا الصبي للتفوق على فيليب؟ لا شك أن غلبة احتمال قدرته على القيادة، بأساليب تضارع أساليب أبيه إن لم تفقها، على ظن رجال أبيه؛ دفعتهم إلى تأييد مناداة الجيش به ملكا، وهي مناداة جاءت من كثيرين ممن لديهم خبرة بقدرات الإسكندر من واقع تدريبهم المشترك.
هل سمحت الفترة الأولى من حياته، وتناهز ثلثيها، بوقت كبير للعلاقات الخاصة الهادئة، كالزواج بامرأة من محض اختياره؟ كلا، كان الزواج عند الأرغيين آنذاك أداة دبلوماسية في المقام الأول، وكان فيليب - حتى موته - العنصر الفاعل في مثل هذه الزيجات. ولم تكن السنتان الأوليان من حكمه بحاجة إلى تحالفات زواج جديدة؛ إذ كانت تراقيا واليونان وإليريا وإبيروس مرتبطة بالفعل بشبكة معاهدات معززة بالزواج. كذلك يوجد ما يبرر ظننا أن مناخ البيت في بيلا لم يكن شديد الود. ومن ناحية أخرى، كان بمقدور الإسكندر أن يكن حبا عظيما، وخصوصا للصحابة الذين خاطروا بحياتهم من أجله، والذين اتبعوا أوامره، واتبعوها باقتدار تام. وتشبه علاقته ببارسين الإغريقية/الفارسية (في البداية كصديقة في بيلا، وفيما بعد كمحظية في فارس) نوعا ما علاقاته بأصدقائه الذكور. لكن هل استشعر الأمان المطلق حتى باتخاذه هؤلاء الصحابة؟
كان هذا الدافع الأساسي الذي لا يلين أصل نجاحه، وسيكون هذا واضحا في حضوره البدني. لا يسعنا معرفة ما إذا كانت عيناه زرقاوين زرقة صارخة، لكن يسعنا اعتقاد أن نظرته كانت تستحوذ على انتباه كل من ينظر إلى تلكما العينين. ولا نعرف ما إذا كان قصير القامة أو عريض المنكبين، لكن المؤكد أنه كان لائقا لأي مهمة بدنية. كان الإسكندر ذا حظ عظيم في ظروفه، وقد استخدم نتاج تلك الظروف بعبقرية.
المراجع
يسير ثبت المراجع على خطى النهج غير الاعتيادي في تناول الموضوع، فبدلا من تقديم سرد لحياة الإسكندر مصحوبا بتأمل لأهم الأسئلة المرتبطة به، تسعى هذه الدراسة إلى فتح «نوافذ» أخرى للتعرف على هذا الشخص؛ ومن ثم لا توجد إسنادات كثيرة إلى أعمال أكاديمية تتناول جوانب سيرة الإسكندر. ومن المصادر الحديثة المفيدة لهذه المعلومات كتاب «الإسكندر الأكبر» (2004) - المذكور أدناه - لمؤلفه بول كارتليدج. وتوجد صعوبة أخرى هي عدم وجود حواش سفلية نذكر فيها المصادر المستغلقة، وهكذا نورد بعضها - مما نستبعد جذبه اهتمام قراء كثيرين - في القائمة التالية. (1) المصادر
De Selincourt, A. (tr.) 1929-1933 and 1972 rev. ed., intro. and notes J. R. Hamilton.
Arrian’s Campaign of Alexander.
London: Penguin.
Accessible, readable translation with useful notes, basic bibliography, and four maps.
Heckel, W. and Yardley, J. C. (eds.) 2004.
Alexander the Great: Historical Sources in Translation.
Oxford: Blackwell.
Following a description of sources, lost as well as extant, excerpts from the sources are organized by specific categories such as the Macedonian background, the army and war, Alexander and the Macedonians.
The Lost Histories of Alexander the Great.
New York: American
Description of the known, now lost, accounts of Alexander, from those of official historians through reminiscences, antiquarians, and purported works such as Alexander’s last plans.
Robinson, C. A. Jr. 1932.
The Ephemerides of Alexander’s Expedition.
Robinson, C. A. Jr. 1953.
The History of Alexander the Great I: A Translation of the Extant Fragments.
University.
Reconstruction of the day-book accounts of Alexander’s campaign thought to have been kept but whose genuineness is doubted by many.
Stoneman, R. 1994.
Legends of Alexander the Great.
London: Dent.
Collection of legendary reports, such as a conversation between Alexander and Brahman leaders and a letter to Aristotle on India, that we wish were genuine.
Tarn, W. W. 1948.
Alexander the Great II: Sources and Studies.
Cambridge: Cambridge University Press.
Examination of sources with appendices on major issues such as the author’s view that Alexander was motivated by a belief in the brotherhood of mankind. (2) الإسكندر
Bosworth, A. B. and E. J. Baynham (eds.) 2000.
Alexander the Great in Fact and Fiction.
Oxford and New York: Oxford University Press.
Articles resulting from a 1997 symposium with the aim of identifying distortion and myth-making in accounts of Alexander.
Cartledge, P. 2004.
Alexander the Great: The Hunt for a New Past.
NewYork: Vintage.
Readable account resulting from the author’s goal of doing justice to the achievement of its subject, including some probing into Alexander’s psyche, while appreciating the limited evidence. Also valuable for its excellent aids: dramatis personae; glossary; sturdy, annotated bibliography.
Fuller, J. F. C., 1960.
The Generalship of Alexander the Great.
New Brunswick, NJ: Rutgers University Press.
An account of Alexander’s generalship by a modern commander.
Green, P. 1991.
Alexander of Macedon 356-323 B. C.: A Historical Biography.
Berkeley, Los Angeles, and Oxford: University of California
Reprint of the 1970 study that has rightly retained readership for its completeness, beginning with Philip and ending with reflection on the mythification that set in after Alexander’s death. Readers will appreciate the full references and bibliography as well as the engaging style that marks all of Green’s writing.
Mossé, C. 2004.
Alexander: Destiny and Myth (tr. by J. Lloyd of
Alesandre: La destinée d’un myth.
Rivages, 2001). Edinburgh: Edinburgh University
The original title more aptly defines the goal of the author in tracking the evolution of legends of Alexander, including the mythic elements. Following an account of Alexander’s campaign, discussion turns to specific aspects of the man and his legacy.
Napoleon’s estimation. LVII. A Manuscript found in the
collected during the last two years of his Residence at St. Helena tr. from the French. [London: Alexander Black, 1820.]
Tarn,W. W. 1948.
Alexander the Great II: Sources and Studies.
Cambridge: Cambridge University Press.
Wright, F. A. 1934.
Alexander the Great.
London: Routledge. (3) مقدونيا
Andronikos, M. 1984 and 2004.
Vergina: The Royal Tombs and the Ancient City.
Athens: Ekdotike Athenon SA.
Account by the archaeologist who discovered the remarkable tombs at Vergina in 1977. Chapters treat the Vergina antiquities, the royal tombs in particular, and questions concerning dating and identity of the dead. Initial identification placed Philip II in one of the tombs. The matter continues to be debated. Illustrations are numerous and magnificent.
Borza, E. N. 1982. The Natural Resources of Early Macedonia. In W. L. Adams and E. N. Borza (eds.),
Heritage.
Lanham and New York: University Press of America, 1-20.
Useful summary of the physical nature of Macedonia by a scholar who has a wide range of publications on ancient Macedonia to his credit.
Borza, E. N. 1990.
In the Shadow of Olympus: The Emergence of Macedon.
Impressive account of Macedonian developments from their misty beginnings through the achievements of Philip II. The author tackles all of the thorny issues of this subject including the identities of the dead in the Vergina tombs. Bibliographic notes as well as more standard bibliographic references are very helpful.
Chroust, A.-H. 1972. Aristotle and the Foreign Policy of Macedonia.
Review of Politics
34.3, 367-94.
The author has devoted much of his career in scholarship to Aristotle. Included in his interests are the “historical Aristotle,” a focus that involves the philosopher’s links with Macedon and particular Macedonians.
Corvisier, J.-N. 1991.
Aux Origines du Miracle Grec.
France.
An excellent resource for developments in northern Greece-Thessaly, Macedon, and Epiros-tracing the process of settlement, organization and use of space, and population size and dispersal.
Drougou, S. and C. Saatsoglou-Paliadeli 1999.
Vergina: Wandering through the Archaeological Site.
Athens: Ministry of Culture.
Compact but beautifully illustrated guide to the site with succinct commentary on the excavation and its findings.
Edson, C. 1970. Early Macedonia.
Archaia Makedonia
1, 17-44.
Even before such finds as those at Vergina, Charles Edson penetrated the nature of its early culture in this revealing account.
Errington, R. M. 1990.
A History of Macedonia (tr. by C. Errington of
Geschichte Makedoniens . Munich: Beck, 1986). Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Hammond, N. G. L. 1972.
A History of Macedonia I: Historical Geography and Prehistory.
Oxford: Clarendon Press.
Dropped behind the lines of the German occupiers of Greece to aid the resistance, Nicholas Hammond became intimately familiar with the land. Macedonia was a major object of his attention through a long and distinguished career. Volume I of three describes the historical geography of Macedonia and its prehistory, carrying the story to 550 BC.
Hammond, N. G. L. 1991.
The Miracle that was Macedonia.
London and New York: Sidgwick and Jackson and St Martin’s Press.
Far more compact account of ancient Macedonian history intended for a wider readership than the previous or subsequent books.
Hammond, N. G. L. and G. T. Griffith 1979.
A History of Macedonia II: 550-336 BC.
Oxford: Clarendon Press.
In volume II in the series, the authors describe the development of the state and its difficulties in surviving.
Siganidou, M. and M. Lilimpaki-Akamati. 2003.
Athens: Ministry of Culture.
Another publication by the Greek Ministry of Culture in format and quality akin to that on Vergina, cited above.
Touratsoglou, I. 2004.
Macedonia: History, Monuments, Museums.
Athens: Ekdotike Athenon SA.
Because the archaeological finds in Macedonia are recent, it is not easy to find useful compendia. This is an excellently full source. (4) الأرغيون
Borza, E. N. 1982. Athenians, Macedonians, and the Origins of the Macedonian Royal House.
Hesperia
Supplement 19, 7-13.
Makes a case against the tradition that argued a Greek origin for the Argead rulers of Macedon. Acceptance of such a tradition, however, may have been useful for the Macedonian kings.
Greenwalt, W. S. 2003. Archelaus the Philhellene.
Ancient World
34.2, 131-53.
Focusing on the interest of Archelaos II in Greek culture, the author argues that it served as a tool for extensive change in Macedonian society, politics, and economic organization.
Hatzopoulos, M. B. 1986. Succession and Regency in Classical Macedonia.
Archaia Makedonia
4, 279-92.
That priority of succession was given to the ruling king’s first-born son is the argument of this important scholar of Macedonia. (5) فيليب
Hammond, N. 1995. Philip’s Innovations in Macedonian Economy.
Symbolae
Osloenses
70, 22-9.
Concise overview of Philip’s role in the economic development of Macedonia.
Hatzopoulos, M. B and L. D. Loukopoulos (eds.) 1992.
Athens: Ekdotike Athenon SA.
Collection of articles by major scholars on various aspects of Philip II. Included are the Charles Edson essay “Early Macedonia,” cited above under “Macedonia,” another by H. Dell, cited below under “Military momentum,” two contributions by G. Cawkwell on Philip’s relations with the Greeks, plus nine other essays. The volume is nicely illustrated, and includes useful but not overly extensive notes and bibliography.
Momigliano, A. 1934.
Filippo il Macedone.
Florence: Felice le Monnier.
Contribution of one of the major scholars of the ancient world to our understanding of the role of Philip of Macedon. Beginning with an account of Macedonia from the time of Alexander I (to whom he credits the creation of the
pez-hetairoi)
to Philip II, the author then concentrates on Philip’s reign within the larger context of the period, and concludes with an examination of the new form of panhellenism that Philip’s success established for the Greeks.
Corinthian League of Philip of Macedon.
Historia
34, 153-74.
Makes a case for Philip’s use of traditional Greek treaties and diplomacy to create in the League of Corinth an organization that would be acceptable to the Greeks, while allowing him to become its hegemon as well as the leader of the campaign against
Roebuck, C. A. 1948. The Settlements of Philip II in 338 BC.
Classical
43, 73-92.
Careful study of the settlements orchestrated by Philip following the Macedonian victory at Chaironeia that provided the basis for the creation of the League of Corinth.
Ryder, T. T. B. 1965. Eclipse of the Leading Powers and the Rise of Macedon. In Ryder,
Koine Eirene.
Oxford: Oxford University Press for the University of Hull, 87-101.
Description of Philip’s successes within the fluid alliance structure of the fourth century.
Worthington, I. 2003. Alexander, Philip, and the Macedonian Background. In J. Roisman (ed.),
Brill’s Companion to Alexander the Great.
Leiden and Boston: Brill, 69-98.
appropriate to Philip in light of his accomplishments as Macedonian king, commander of the army, and statesman in his wider dealings with other fourth-century states. (6) أوليمبياس
Carney, E. 1987. Olympias.
Ancient Society
18, 35-62.
Carney, E. 2000.
Women and Monarchy in Macedonia.
Norman, OK: University of Oklahoma
Carney, E., forthcoming.
Olympias: Mother of Alexander the Great.
London and New York: Routledge.
Elizabeth Carney is the main source for serious study of the role of women, particularly royal women, in Macedonian history. Not only do individual figures gain personalities but the change in women’s status over time is carefully demonstrated.
Heckel,W. 1981. Philip and Olympias 337/36. In G. S. Shrimpton and D. J. McCargar (eds.),
Classical Contributions: Studies in Honour of M. F. McGregor.
Locust Valley, NY: J. J. Augustin, 51-7.
Examination of the relationship between Philip and Olympias as a result of the quarrel between Philip and Alexander, which led to Alexander and Olympias leaving Macedonia from 337 to the following year. (7) اليونان ومقدونيا (7-1) الإثنية
Adams,W. L. 1996. Historical Perceptions of Greco-Macedonian Ethnicity in the Hellenistic Age.
Balkan Studies
37, 205-22.
While the focus of the discussion is post-Alexander, the author perceives, rightly I believe, the importance of hellenization in the fourth century. I would argue that the “blurring of lines” was occurring even earlier.
Badian, E. 1982. Greeks and Macedonians. In B. Barr-Sharrar and E. N. Borza (eds.),
Macedonia and Greece in Late Classical and Early Hellenistic Times.
Washington, DC: National Gallery of Art, 33-51.
insightfully on Macedonian matters. In this essay he argues that Macedonians were not thought by others to be Greek, nor did they consider themselves to be Greek. A claim to Greek origins may have originated in the fifth or early fourth century, “a sorry time” for Macedonia.
Borza, E. N. 1996. Greeks and Macedonians in the Age of Alexander: The Source Traditions. In R.W.Wallace and E. M. Harris (eds.),
Transitions to Empire: Essays in Greco-Roman History, 360-146 B. C., in Honor of E. Badian.
Norman, OK and London: University of Oklahoma Press, 122-39.
Borza, E. N. 1999. Origins, Ethnicity, and Institutions. In
Before Alexander:
Constructing Early Macedonia.
Claremont, CA: Regina Books.
In this and numerous other publications, Professor Borza solidly defends the view that Greek and Macedonian ethnicities differ from one another in most respects: language, cultural practices, material culture, societal organization, economic way of life.
Fotiadis, M. 2001. Imagining Macedonia in Prehistory, ca. 1900-1930.
Journal of Mediterranean Archaeology
14.2, 115-35.
In an unusual, but valuable, approach to the issues of Macedonian identity, the author maintains that the view of Macedonians as the antithesis of the Greeks emerged when research in the region expanded during the early twentieth century. While Greeks might have passed through Macedonia, they continued south and produced a different way of life.
Hall, J. 2001. Contested Ethnicities: Perceptions of Macedon within Evolving Definitions of Greek Identity. In I. Malkin (ed.),
Ancient Perceptions of Greek Ethnicity.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 159-86.
Useful picture of the ambiguities between ethnicity and the heroic claims of peoples in northern Greece upon the expanding colonization from southern Greece.
Hammond, N. G. L. and G. T. Griffith 1979.
A History of Macedonia II: 550-336 BC.
Oxford: Clarendon Press.
Chapter 3, part 5, discusses the influence of Greek culture, and part 6 treats the institutions of the Macedonians and their neighbors.
Archaia Makedonia
2, 397-407.
Evidence for Greek linguistic elements in Macedonia. (7-2) نظرة الإغريق للمقدونيين
Connor,W. R. 1966.
Greek Orations.
Ann Arbor: University of Michigan
Handy English translation of important orations.
Jacoby, F. 1923-58.
Die Fragmente der Griechischen Historiker.
Berlin: Weidman.
Saunders, A. N. (tr.) 1975.
Demosthenes and Aeschines.
Harmondsworth:
Translations of the differing perspectives exemplified by Demosthenes, the bitter foe of Philip, and Aischines, who found traits to admire. (7-3) النظرة المشتركة بين الإغريق والمقدونيين لبلاد فارس
Bloedow, E. 2003. Why did Philip and Alexander Launch a War against the Persian Empire?
L’Antiquité Classique
LXXII, 261-74.
I was elated and relieved to read this essay by a valued colleague and friend who argues the genuineness of common grounds for the campaign against Persia by the League of Corinth under its Macedonian hegemon. (7-4) عام
Buckler, J. 2003.
Aegean Greece in the Fourth Century.
Leiden and Boston: Brill.
Full account beginning with the end of the
II.
Ehrenberg,V. 1960.
The Greek State.
Oxford: Blackwell.
Although published in 1960, this account of the Greek state remains a standard source for the defining features of the polis as well as its structure and functions. A chapter on types of federations is valuable for developments of the fourth century and beyond.
Hansen, M. H. 2005.
The Shotgun Method: The Demography of the Classical Polis.
Columbia, MO: University of Missouri Press.
One of many recent studies of the Greek polis by one of the most productive scholars on the subject, both through his individual publications and through the Copenhagen Polis Centre over which he presides. (8) الزخم العسكري
Dell, H. 1992. Philip and Macedonia’s Northern Neighbors. In M. B. Hatzopoulos and L. D. Loukopoulos (eds.),
Athens: Ekdotike Athenon SA, 90-9.
Deftly and succinctly pictures the nature of the peoples inhabiting the northern extension of the Greek sphere and their interactions with reference to their role in Macedonian history.
Ellis, J. 1976.
Macedonian Imperialism.
London: Thames and Hudson.
This treatment of the rise of Macedonian power, especially during the reign of Philip II, stresses the need for an exceptional military in order, first, to survive as an independent state and, increasingly, to control hostile neighbors. The author also reveals how the existence of such a force would determine future actions on the part of its leaders.
Hanson,V. D. 1999.
Wars of the Ancient Greeks.
Washington DC: Smithsonian
Chapter 3 of this account by a noted military historian discusses the great wars (490-362), and chapter 4 explores the second military revolution (362-336).
Marsden, E. W. 1977. Macedonian Military Machinery and its Designers under Philip and Alexander.
Archaia Makedonia
2, 211-23.
Important essay on an essential ingredient of the success of Philip and Alexander. (9) المعاونون
Edson, C. 1934. The Antigonids, Heracles, and Beroea.
Harvard Studies in
Classical Philology
45, 213-46.
Argues the view that Antigonos came from Beroea, a stance not widely accepted although recent evidence strengthens the case: see A. B. Tataki,
Ancient Beroea: Prosopography and Society.
Melethmata 8. Athens: Research Centre for Greek and Roman Antiquity, National Hellenic Research Foundation.
Heckel, W. 1992.
The Marshals of Alexander’s Empire.
London and New York: Routledge.
subordinates. Part I treats “Old Guard,” “New Men,” “Casualities of the Succession” and “Boyhood Friends.” Part II discusses careers within the military. It updates and serves, for non-German readers, the purpose of H. Berve’s two-volume work
Das Alexanderreich auf prosopographischer Grundlage (Munich: Beck, 1925-1926). (10) فارس
Briant, P. 2002.
From Cyrus to Alexander: A History of the Persian Empire (tr. by P. T. Daniels of
Histoire de l’Empire perse . Paris: Libraire Arthème Fayard, 1996). Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Fullest (1,196 pages), best-documented account available, unlikely to be bettered. The author does not see serious difficulties in the empire even after Alexander had entered Anatolia. Briant has also written two accounts of Alexander: an excellent, very concise study for the French Que sais-je? series,
Alexandre Le Grand (Paris: Presses Universitaires de France, 1974, sixth ed. 2005) and
Alexander the Great: The Heroic Ideal (French edition 1987; English edition, London: Thames and Hudson, 1996).
Cawkwell, G. 2005.
The Greek Wars: The Failure of Persia.
Oxford: Oxford University
Useful summary that discloses several serious flaws in the empire, such as the internal disorder that often accompanied accessions. See esp. chapter 10, “The End of the Achaemenids: Macedonia and
Cook, J. M. 1983.
The Persian Empire.
London: Schocken Books.
Account of Achaemenid Persia from its emergence through its defeat at the hands of the Macedonian army of Alexander; far more concise than Briant (2002).
Starr, C. 1973 and 1977. Greeks and Persians in the Fourth Century: A Study in Cultural Contacts before Alexander. Part I,
Iranica Antiqua
11, 39-99; Part II,
Iranica Antigua
12, 49-115.
Valuable examinations of the cultural relationships of the peoples facing one another across the Aegean Sea during the critical decades of the rise of Macedonia. (10-1) زينوفون
The Persian Expedition (Anabasis)
1972. Tr. Rex Warner, intro. G. Cawkwell. Harmondsworth: Penguin.
Xenophon’s account of the Greek mercenaries’ participation in the contest between Artaxerxes II and his brother Kyros.
The Education of Kyros (Cyropaideia)
2001. Tr. H. G. Dakyns. New York: Knopf.
Description of the education of Kyros the Great that preserves information about Achaemenid culture. (11) موضوعات متفرقة
Braudel, F. 2001.
Memory and the Mediterranean.
New York: Knopf.
Magnificent account of the flow of history in cultures connected by the Mediterranean Sea from prehistory to the Roman creation of its empire, by the man who had been identified as one of the greatest historians of the twentieth century.
Diamond, J. 1997.
Guns, Germs and Steel: The Fates of Human Societies.
New York: Norton.
Bog aan la aqoon