وأنفق صبيح مع زيد بن عمرو ليلة لم تعرف النوم، وإنما عرفت أحاديث متصلة مختلفة، ذكر فيها كل منهما لصاحبه ما عرف وما أنكر، وما بحث وما استقصى، وما اهتدى إليه من علم، وما هو منتظر من جلية الأمر. فلما أسفر الصبح وتقدمت سادات كلب إلى ضيفهم بما أحب من القرى، وهم زيد بن عمرو أن يرتحل عنهم، رغب إليهم في شيء لم يسمعوه حتى ازداد عجبهم له وإنكارهم إياه. قال زيد بن عمرو: يا معشر بني كلب! إن لي عندكم حاجة ما أظنكم تردونني عنها أو تأبونها علي! فما رأيت منكم إلا خيرا! وما عرفت منكم إلا كرما ونبلا.
قال قائلهم: ما تشاء يا سيد قريش؟
قال: عبدكم هذا الرومي هبوه لي أو بيعوه مني! فإني على صحبته حريص. وما ضاع العرف بين قريش الأباطح وبين حي من أحياء العرب، قريب منها أو بعيد عنها.
قالوا: لقد طلبت يسيرا، وابتغيت سهلا قريبا، وإن كنا لنؤثر هذا العبد الرومي ونحب ما بلونا من أخلاقه، وما عرفنا من سيرته، وأمانته في أموالنا وأسرارنا، فهو لك.
قال زيد بن عمرو: يد محفوظة يا معشر بني كلب. فأما وقد وهبتم لي هذا العبد فأصبح ملك يميني وطوع يدي، فاشهدوا أني أعتقته، وملكته أمر نفسه من فوري. وهو بعد ذلك حر في أن يذهب إلى أي وجه من وجوه الأرض شاء.
قال الكلبيون: لقد وفت ذمتك يا شيخ قريش. ونحن جيران لهذا الرجل وأدلاء له حتى يبلغ مأمنه.
قال صبيح وقد أقبل على زيد بن عمرو يقبله ويبارك عليه وإن دموعه لتنهل على خديه غزارا: وفت ذمتكم يا معشر العرب. والله ما كرهت جواركم، ولا شنأت الإقامة فيكم، ولا رغبت نفسي عن ودكم. ولو خيرت لما عدلت بصحبتكم شيئا، ولكنه أمر يراد. وما أنا بعائد إلى بلاد الروم ولا رغبة لي فيها، ولا أرب لي عند أهلها، وإن كنت قد خلفت فيها من الصديق والخليل ما لا تزال تؤثره نفسي بالحب والحنان، ولكني ماضي مع هذا الشيخ من سادة قريش، مقيم معه في الحرم، وفي جوار بيتهم هذا الكريم، فإن له ولي لشأنا عجبا.
16
وانصرف زيد بن عمرو وصاحبه الرومي حين زالت الشمس يقصدان الحجاز، وليس لهما حديث إلا هذا الفتى القرشي اليتيم، وما أراد الله به من كرامة، وما قدر الله على يده للناس من نجاة، وإن زيدا ليقص على صديقه الرومي بدء حيرته في مكة مع نفر ثلاثة من أصحابه : ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، يقول لصاحبه وإن فمه ليملؤه الضحك، وإن وجهه ليغمره البشر: لقد أراني مع أصحابي ذات يوم نشارك قومنا من قريش في عيد من أعيادنا مسرورين محبورين، تهتز أعطافنا أريحية وكرما، ونريد أن ننتهز فرصة هذا العيد لنذيع في فقرائنا وذوي الحاجة من قومنا ما نستطيع أن نذيع فيهم من الخير والمعروف، فنرى قومنا يطيفون بوثن من أوثانهم يكرمونه ويكبرونه، ويلثمونه بشفاههم، ويمسحونه متهيبين بأيديهم، وينحرون عنده الإبل والشاء، فننظر وننظر، ونهم أن نفعل، ولكننا نرد عما هممنا، ونجدد العزم على أن نشارك قومنا، ولكننا نرد عن ذلك مرة أخرى ردا عنيفا. وإذا بعضنا ينظر إلى بعض، وإذا بعضنا يفهم عن بعض، وإذا نحن نخلص نجيا. وإذا نحن نضحك حتى ما نملك أنفسنا من الضحك، ونحزن حتى ما نملك أنفسنا من الحزن. نضحك حين نرى سادة قريش وأشراف العرب يطيفون بحجر من هذه الأحجار التي تطؤها الأقدام، وتعمل فيها الفئوس، وتسخر في أغراض الناس وحاجاتهم، وهم يكبرونه ويعظمون أمره، ويتقدمون إليه بالعبادة والطاعة. ونحزن حين نرى هذه الأحلام قد استحالت إلى سفه لا يشبهه سفه، وحين نرى ما صار إليه أمر قريش من هذه الجهالة الجهلاء، ومن هذه الضلالة العمياء، وفيهم مع ذلك بيت الله، ومقام أبيهم إبراهيم، وقد ورثوا مع ذلك دينه فأضاعوه ولم يحفظوا منه شيئا.
نعم! ضحكنا حتى كاد يقتلنا الضحك، وحزنا حتى كاد يملكنا الحزن، وانصرفنا إلى رحالنا وقد أزمعنا أن نلتمس لأنفسنا الخير ما وجدنا إلى الخير سبيلا.
Bog aan la aqoon