وقد ألف الفتى حياته هذه في قيده الثقيل وفي خيمته الخشنة، بل أخذ يألف الذين يدخلون عليه ويحملون إليه طعامه وشرابه بين حين وحين، بل أخذ يفهم عنهم بعض الحركات والإشارات، وأخذت نفسه تعي بعض ما يديرون بينهم من الألفاظ. وأخذوا هم يألفون إشاراته وحركاته، ويجدون شيئا من الأنس إلى محضره، ويشعرونه بذلك بالإشارة واللحظ واللفظ، ويودون لو استطاعوا أن يفهموا عنه أكثر مما يفهمون، وأن يفهم هو عنهم أكثر مما يفهم.
وتتصل الأيام وتتبعها الليالي، والإلف يزداد من حين إلى حين بين الأسير ومواليه. وهؤلاء أطفال الحي وصبيانه يختلفون إلى خيمته فيطيلون فيها المقام، وتتصل بينه وبينهم فنون من اللعب الهادئ والدعابة الحزينة. وما ينقضي شهر حتى يفقد الفتى كل وحشة، وحتى تطيب نفسه بهذه الحياة، وحتى يتسرب إلى قلبه شيء من الحب لهؤلاء الصبية الذين يلزمونه، ولا يكادون يفارقونه إلا حين يفرقهم عنه الليل.
وقد أخذ الفتى يشعر بأن الرضا عن هذه الحياة الجديدة قد أصبح هينا عليه ومألوفا له، لولا هذا القيد الثقيل الذي يقارب بين خطاه، ويحد من حركته، ولولا هذا الحظر الثقيل الذي يضطره إلى خيمته هذه الضيقة الخشنة، ولا يكاد يبيح له الاستمتاع بالفضاء الواسع والهواء الطلق إلا قليلا، ولولا خواطر كانت تلم به فتثير في نفسه آلاما لاذعة بين حين وحين، تذكره بمن ترك وراءه في المدينة من الأهل والصديق، وبما ترك وراءه في الدير من حب ذلك الراهب الشيخ، وبما لا يزال يتمنى في قوة وعنف من الرحلة يوما ما إلى الحجاز، والظفر يوما ما بلقاء ذلك الصبي العربي اليتيم.
ويرتفع الضحى ذات يوم، والفتى غارق في الدعابة واللعب مع هؤلاء الصبية الذين ملئوا عليه خيمته، وإذا ثلاثة نفر من الذين أسروه وحملوه إلى هذا المكان قد أقبلوا، ففرقوا الصبية في بعض العنف، حتى إذا دخلوا إليه أقبلوا عليه فأنهضوه وأخرجوه من خيمته، ومضوا به، حتى إذا بلغوا به مكانا بعيدا عن الحي شيئا سلوا سيوفهم فأروه بريقها، وهزوا رماحهم فأروه اضطرابها، ونثروا كنائنهم فأروه سهامها الرقيقة الحادة. وكانوا إذا سلوا السيوف أشاروا بها إلى رأسه، وإذا هزوا الرماح أداروها إلى صدره، وإذا نثروا الكنائن أنبضوا قسيهم فأبعدوا بها الرمي، ثم أشاروا بأيديهم إلى الجهات الأربع من أمامه ومن ورائه وعن يمينه وعن شماله. وقد فهم الفتى عنهم حق الفهم، وعرف أنهم ينذرونه بالموت إن حاول الهرب، ويرغبونه في الحياة المطلقة من القيود والأغلال إن أذعن لهذا الرق الذي فرض عليه. وما كان الفتى الفيلسوف في حاجة إلى هذا النذير! فقد عاهد نفسه منذ حين على الصبر والإذعان، والرضا بحكم الإسار. ولكنه أظهر لهم بالإشارة واللحظ ما أرادوا من طاعة واستكانة، فردوه إلى خيمته وتركوه فيها لحظة، ثم عادوا إليه فخلصوه من القيد، وخلوا بينه وبين الضوء والهواء، وألبسوه ثياب الرقيق.
14
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقد كانت نفس «كلكراتيس» راغبة في كثير، فأصبحت الآن قانعة بالقليل الذي ردت إليه، بل بأقل من هذا القليل. وأين أيامه هذه التي ينفقها في حي من أحياء كلب بن وبرة من أيامه تلك التي كان ينعم بها في مدينة عظيمة من مدن الروم؟! لقد كان سيدا يأمر في قصره الفخم، وأرضه الواسعة، وغلمانه الذين لم يكن يحسن أن يحصيهم والذين كانوا يمثلون عنده أجناسا مختلفة من الناس. وكان إذا أظله المساء من كل يوم ارتقى إلى قصر الحاكم فنادمه وشاركه في مرحه وفرحه. وكان الذين يعرفونه من أهل المدينة لا يشكون في أن السلطان صائر إليه يوما ما. وكان مع ذلك غير راض عن نفسه، ولا قانع بحظه، ولا مكتف بهذه الحرية التي كان يستمتع بها؛ وإنما كان يرى نفسه ذليلا مهينا أسيرا لسلطان قيصر، وكان يرغب في أن يخرج من هذه الذلة والهوان إلى عزة يتصورها ولا يستطيع أن يجد لها مثلا. فأين تلك الحياة الحافلة بفنون اللذات وألوان النعيم من هذه الحياة الجديدة المتواضعة، أو هي أقل من المتواضعة، والتي يقضيها بين هؤلاء السادة الكرام، لا ساخرا منها، ولا ساخطا عليها، بل قانعا بها كل القناعة، راضيا عنها كل الرضا؟! لقد عرف جسمه المترف غلظ الثياب وخشونتها، والنوم على الأرض الصلبة بالعراء، وعرف الاستيقاظ في السحر، وعرف خدمة الناس بعد أن كان الناس يخدمونه. بل عرف رعي الإبل والشاء والتطويف بألبانها مع الصباح على هؤلاء السادة يسقيهم منها، ولا يشرب إلا إذا ارتووا وأرضوا حاجتهم من الشراب. وعرف ما هو أكثر من ذلك وأشد إمعانا في هوان الأمر وضعة الحال، ولكنه مع ذلك لا ينكر شيئا، ولا يأسى على شيء. ولعل حياته لا تخلو من بعض الغبطة؛ فقد رأى حياة جديدة لم يألفها، وعرف بالمشاهدة أجيالا من الناس لم يكن يحقق من أمرهم شيئا، وإنما كان يقرأ عنهم في الكتب، ويسمع عنهم في أحاديث النهار وأسمار الليل. بل هو قد تعلم لغتهم واستطاع أن يتحدث إليهم، وأن يسمع منهم، وأن يبلو أخلاقهم السمحة، وطباعهم الساذجة، ونفوسهم النقية، وقلوبهم الذكية، فلا يرى من هذا كله إلا ما يسره ويرضيه، وإلا ما يعجبه ويبهره أحيانا. لقد كان سيدا مطاعا يأمر في عدد ضخم من الغلمان والرقيق، ولكنه الآن يذكر سيرته في غلمانه ورقيقه ويوازن بينها وبين سيرة سادته معه وأمرهم فيه، فيرى فرقا عظيما وبونا بعيدا.
كان سيدا كما يفهم الروم هذه الكلمة، مستعليا على غلمانه، لا يراهم يشبهونه من قريب أو بعيد، ولا يكاد يفهم مشاركتهم له في الحياة، ولا يرى أنهم أهل ليحفل بهم أو يفكر فيهم أو يعنى ببعض أمرهم. إنما كان يكل تدبيرهم إلى واحد منهم هو صاحب القصر، وكان يتخذهم أدوات لثروته وجاهه، ولذته ونعيمه، ولم يخطر له قط أنهم خليقون ببعض الرفق، مستأهلون لبعض الرأفة، وإنما كان مؤمنا بأن له عليهم كل الحق، وليس لهم عليه إلا أن يعيشوا، وهم لا يعيشون لأن من حقهم العيش، وإنما يعيشون لأن في حياتهم له منفعة وأربا.
وقد كان يدفعهم الجهد الثقيل المضني إلى بعض الكلال والتقصير، فلم يكن يعنى أو لم يكن ينزل إلى إصلاحهم وتأديبهم؛ لأنهم لم يخلقوا لإصلاح ولا تأديب، ولأن التفكير فيهم إضاعة للوقت، والعناية بهم تبديد للجهد، والفراغ لهم إهدار للكرامة. فكان يسلط بعضهم على بعض، ويجعل بأسهم بينهم شديدا، ويجني من شقائهم سعادة، ومن بؤسهم نعيما، ومن ألمهم لذة، ويجني من موتهم الحياة أحيانا، ولا يرى في ذلك إثما ولا ضيرا، ولا ينكر من ذلك قليلا ولا كثيرا؛ لأن ذلك كله كان يتفق مع فلسفته وثقافته التي كانت تقسم الناس إلى فريقين: فريقا خلقوا للأمر وهم السادة، وفريقا خلقوا للطاعة وهم العبيد.
Bog aan la aqoon