قال «بحيرى»: فذلك لك. ولكنك رجل من الروم، والأمر بين من في العراق ومن في الشام على ما تعرف من الفساد والنكر. ولست آمن أن تتعرض لبعض الشر أو يلم بك بعض المكروه، فأما أنا فليس علي من ذلك بأس! لأني من أهل العراق أسير سيرتهم، وأتكلم لغتهم، وأنا بعد معروف بكثرة الرحلة والتنقل في أطراف الأرض، مأمون على أمر القوم، لا يتهمونني، ولا يشفقون مني على شيء.
قال الفيلسوف الفتى: فإنك قد أمعنت في أرض الروم ولم تلق كيدا، فدعني أصحبك إلى أرض الفرس، فلعلي أن أجد فيها من الأمن مثل ما وجدت أنت في هذه البلاد. ولا بأس عليك إن كانت الأقدار قد أرصدت لي بعض ما يكره الناس ويخافون؛ فإني لا أكره شيئا ولا أخاف شيئا ولا أحب شيئا كما أحب الخروج من أرض قيصر.
قال «بحيرى»: فهيئ نفسك إذا للرحلة؛ فإن الصبح لن يجدنا في هذا الدير.
قال الراهب الشيخ في صوت حزين: فأما أنا فليس يعنيكما من أمري قليل ولا كثير، أنا الذي فتح لكما أبواب الأمل، وهداكما إلى طريق النجاة هذه التي تبتدئان سلوكها وأرجو أن تبلغا آخرها. ثم ها أنتما هذان تنصرفان عني مسرعين، كلاكما يؤثر نفسه بالخير والعافية، وليس منكما من يفكر فيمن يترك وراءه من الخليل والصديق.
قال الفيلسوف الفتى وهو يقبل صديقه الشيخ: إن شئت فاصحبنا، فما نمنعك من ذلك ومما نردك عنه. ولكنك حين أقبلت على هذا الدير قد تركت وراءك أصدقاء لم تحفل بهم ولم تفكر فيهم. فأنت قد سننت لنا هذه السنة، وفتحت لنا هذه الطريق .
قال الراهب الشيخ: فإني لا أنكر عليكما شيئا، ولا ألومكما في شيء، ولو استطعت لكنت ثالثكما، ولكني مقيم هنا حتى يأتي أمر الله؛ فامضيا راشدين. وإذا لم يقدر لنا اللقاء في هذه الأرض فلا أقل من أن نطمع عندكما في مودة القلب ووفاء الضمير.
وأسفر الصبح فلم يجد هذين الشابين في الدير، وإنما وجد الراهب الشيخ وحيدا مطرقا مغرقا في التفكير، كأنما أرسل نفسه لتشييع صاحبيه، وهو ينتظر أن تعود إليه.
10
ولست أدري بماذا رجعت نفس الشيخ إليه بعد أن انصرفت عن صاحبيه وقد أمعنا في الصحراء. ولكنها لو اطلعت على ضمير «كلكراتيس» ثم حدثت الشيخ بما رأت، لأثارت في قلبه حزنا شديدا؛ فقد أمعن الرفيقان في سفرهما البعيد، مستبشرين أول النهار، قد غمرهما نوره المشرق الذي ملأ الصحراء حتى امتزجا به امتزاجا، وأحس كل واحد منهما كأن نفسه ليست إلا قبضة من هذا النور القوي الخفيف قد شاعت في عقله، وقلبه وجسمه، فإذا هو فرح مرح، يندفع أمامه لا يلوي على شيء. ولولا فضل من وقار لانطلق لسانه بالغناء. وما له لا يفعل وكل شيء من حوله مشرق، مبتهج يتغنى أو يدعو إلى الغناء!
ولكن الضحى يرتفع، وحرارة الشمس تبلغ جسم هذين الرفيقين وتثقل عليهما وتردهما إلى شيء من الأناة والروية، وإذا نفس الفيلسوف الشاب تنقبض قليلا قليلا، ويدنو بعضها من بعض حتى تنحاز إلى مكانها من رأس صاحبها أو من قلبه، من جسمه على كل حال، فهي كائن ممتاز لا يشيع في الفضاء ولا يمتزج بما حوله، وإنما هو في حيزه الذي قسم له. يحس نفسه ويفكر فيها ويعكف عليها، ويستحضر من أمره ما مضى، ويريد أن يستعرض من أمره ما لم يتكشف عنه الغيب بعد.
Bog aan la aqoon