1
وقطعة من الغنم، كانت حين أقبل اليتيم إلى هذه الأرض فتاة في ريعان الشباب ومبتدأ الحياة، لم تنس وطنها القديم ولم تألف وطنها الجديد، ولم تسل عن حريتها، ولم تأنس إلى رقها. نفسها معلقة بين لونين من ألوان الحياة: كان أحدهما صفوا كله، وهو لون الحياة العزيزة في بلد عزيز وبين قوم أعزة كرام. وكان الآخر يوشك أن يكون كدرا كله، لا تنظر إلا رأته مظلما حالكا، لا يبسم فيه أمل، ولا ينبعث منه ضوء، وهو لون الحياة الذليلة في بلد نازح وبين قوم غرباء لا تعرفهم ولا تألفهم؛ إنما دفعتها إليهم خطوب الحياة دفعا وألقتها إليهم صروف النوى إلقاء. فهذا شبابها يذبل، وقد كان يريد أن يزهر ويتألق. وهذه آمالها تبتر بترا، وقد كانت تريد أن تمتد وتنبسط.
وهي ترى هذا كله خاشعة خاضعة، مؤمنة مذعنة، لم تختر منه شيئا، ولا تستطيع أن تغير منه شيئا. وهي قد وطنت نفسها أو وطنتها الأحداث على أن تكون أمة طيعة تخدم سادتها في نصح أو في غش، ولكنها تظهر لهم الطاعة والخضوع على كل حال. وهي محزونة النفس كاسفة البال، لا تبتسم إلا متكلفة ولا ترضى إلا متصنعة، ولا تطمئن إلى هؤلاء الذين من حولها ينظرون إليها نظرات مهما يملأها العطف والرفق، فهي نظرات السادة الذين يملكون ويستعلون، ويستطيعون أن يتصرفوا فيها كما يحبون، كما يتصرفون في الأشياء: لهم أن يبيعوها وإن لم تؤثر أن تباع، ولهم أن يهبوها وإن لم تحب أن توهب، ولهم أن ينقلوها من يد إلى يد، ومن مكان إلى مكان، ولعلها أن تكون مؤثرة لهذه اليد التي بسطت عليها، منكرة لهذه اليد التي يراد أن تنقل إليها. ولعلها أن تكون قد ألفت هذا المكان الذي استقرت فيه وكرهت غيره من الأمكنة. ولكنها لا تستطيع أن تريد أو لا تستطيع أن تنفذ ما تريد. وأي قيمة للإرادة إذا عجز صاحبها العجز كله عن أن ينفذها ويجري أحكامها! إنما الإرادة العاجزة أقبح صور الذل، وأشنع ألوان الرق، وأبغض ما يلقى الإنسان في الحياة.
انظر إلى هذه الأمة الناشئة لم تتعود الرق بعد ولم تطمئن إليه، نفسها ثائرة مظلمة، وقلبها جامح مكظوم، وهي مبغضة لكل إنسان، ضيقة بكل شيء. انظر إليها تشهد ما شهد غيرها من النساء في تلك الليلة الفذة، فتضطرب نفسها الناشئة لما رأت، ويبتهج قلبها الحزين لما شهد، ثم لا تكاد ترى هذا الوليد اليتيم حتى يلقي الله حبه في قلبها، وحتى يعطفها الله عليه، وحتى يجعله لها قرة عين، وحتى يصبح وجهه الصغير المضيء ابتسامة في حياتها المظلمة، ويصبح شخصه الضئيل العظيم منقذا لها من هذا اليأس القائم، وعزاء لها عن هذا الشقاء العظيم. وإذا هي تألف الطفل وتكلف به، وإذا هي تحضن الطفل وتحنو عليه، وإذا هي تؤثره من المحبة والبر، ومن المودة والعطف ومن الحنان والرفق، بكل هذه الكنوز التي لا تفنى، والتي تحتويها قلوب النساء، والتي كانت تريد أن تغيض لأن خطوب الحياة قد فرضت عليها الرق والذل فرضا. إن هذا اليتيم لينزل من قلبها الحزين منزل السرور، ومن نفسها الكئيبة منزل الابتهاج. إنها لتجد فيه كل ما فقدت من أمل وكرامة وعزة وحرية. إنها لتريد أن تختص به من دون الناس جميعا. إنها لتريد أن تخصه بنفسها من دون الناس جميعا. إن الله ليحقق لها من هذا كله أكثر ما تريد. إنها لتقف نفسها على الطفل أياما، حتى إذا قبلت الظئر
2
فانتزعته منها ومن أمه انتزاعا ورحلت به إلى البادية، ضاقت هي بالظئر وكرهت هذا الرحيل. ولو قد أتيح لها أن تنفذ ما كانت تريد لاستبقت الظئر معها في مكة، أو لرحلت هي مع الظئر إلى البادية. ولكن متى أتيح لأمة أن تنفذ ما تريد! ولها على ذلك أسوة بهذه الأم الحرة الكريمة التي تسلم ابنها إلى الظئر، لا تستبقيها معها في مكة، ولا ترحل هي مع الظئر إلى البادية.
فلتفارق صفيها دهرا طويلا أو قصيرا، كما تفارق الأم طفلها دهرا طويلا أو قصيرا. ولتصبر على هذا الفراق. وهل خلق الرقيق إلا للصبر والاحتمال!
وينفق الصبي عند الظئر ما شاء الله أن ينفق من وقت، لا يزور أمه ولا حاضنته إلا لماما. وكلتاهما تسعد بهذه الزيارة القصيرة، وكلتاهما تشقى باستئناف الفراق، وكلتاهما تذعن لما لا بد من الإذعان له.
ثم يعود الصبي الناشئ من البادية إلى مكة، فيقيم إقامة ملؤها الرحمة والعطف بين هذه القلوب الكريمة التي تحبه وتحنو عليه: قلب أمه الحرة المحزونة، وقلب حاضنته الأمة الفتاة، وقلب جده الشيخ الوقور. كلهم سعيد بالعطف على هذا الطفل والرعاية له، والطفل ناعم بعطفهم عليه ورعايتهم له.
ثم ترحل أم الطفل به إلى يثرب لتزيره أخواله من بني النجار، فترحل الحاضنة معهما، وينعم الطفل بحنان هذين القلبين الكريمين. حتى إذا بلغ يثرب رأى أرضا لم يكن قد رآها، وقد قدر له مع ذلك أن يقيم فيها حيا وأن يقيم فيها ميتا، وقد سبقه أبوه إلى زيارتها، وقد سبقه أبوه إلى أن يؤثرها له دارا تئويه.
Bog aan la aqoon