فكيف بالأمر الذي تنوينه
قالت: ما أشد ما ترتاع لما لا يروع! إني لأعرف فيك نسك أبيك. قال: لا روع ولا نسك، ولكن دعيني أنصرف، ولأعودن إليك مع المساء بما ترضين وبما أنا عليه حريص. قالت: أصادق هذا الوعد، أم تحلة تخرج بها مما نحن فيه؟ قال: بل وعد صادق أنا على صدقه أحرص منك.
نهض ونهضت، ومضى متثاقلا، وتبعته وهي تقول: لقد صبرت أياما وأياما، فما يمنعني أن أصبر بعض يوم! اذهب سالما وعد موفورا! فلن أبرح مجلسي هذا حتى تعود!
وما كاد يتجاوز باب الدار حتى مضى في سرعة تشبه العدو، لا يحس وهج الشمس الذي كان يلفح الوجوه، ولا يكاد يرى من حوله شيئا، قد امتلأت نفسه بما رأى، وامتلأت بما سمع، وجاشت في قلبه الآمال العراض. لقد كان يقيس ما كان يعده أبوه من ثراء بعد طول الرحلة وثقل الجهد وكثرة الاحتمال وفراق الأهل، إلى ما رتبت له فاطمة في غير نأي ولا مشقة، ولا اغتراب ولا فرقة، فكان يأخذه شيء يشبه الدوار حين يرى هذا الفتى وقد أنضاه سفر غير قاصد، ثم عاد مجهودا مكدودا ولم يفد إلا دراهم ودنانير؛ وهذا الفتى الذي يسعى في مكة رخي البال موفور النعمة، لم يلق جهدا ولم يتعرض لأذى، وإنما قال كلمة ليس غير، فإذا هو أكثر قريش مالا، وأعظمها ثراء، وأعزها جانبا، إليه حماية قريش حين تأخذ طريقها إلى اليمن.
وأنساه هذا التفكير نفسه حتى مر بدور بني هاشم فلم يلو على أحد ولم يقف عند شيء، لولا أن صوتا ناداه إلى أين يا عبد الله؟ وما هذا المضي إلى غير غاية؟ ولكنه سمع لهذا الصوت فالتفت، فرأى سمراء تسعى قريبة الخطى، كئيبة الوجه، كاسفة البال، فوقف لها حتى دنت منه وهي تقول : لشد ما تسرع في العدو، ولشد ما تذكرني بأخيك! قال: ما أرى أنك تريدين هالة أو فاطمة بنت عمرو؟ قالت: بل إلى فاطمة أريد، فقد مسها منذ حين ما مسني منذ دهر فانصرف عنها أبوك بعض الشيء إلى عرسه الجديدة. ولولا أن لفاطمة فيك وفي إخوتك عزاء عما تجد من هجر عبد المطلب لكان الخطب عليها أثقل ولها أفجع. فأنا أختلف إليها في مثل هذا الوقت من كل يوم لأسليها وأسري عنها، فقد أخذ عبد المطلب لا يروح إلى هالة. وأنت فما أعجلك عن أبيك وعن إخوتك؟ أمشوق أنت إلى آمنة ولما يعتدل النهار؟ قال: إنك لتعلمين ضعف سلطان الشوق علينا آل عبد المطلب، وإن أحدنا ليتحرق شوقا ويتفطر جوى فلا يبلغ منه ذلك أن يتحول عن مجلسه أو ينصرف عن وجه قصد إليه. ولكن عبد المطلب قد لقيني منذ اليوم بحديث أعجلني عنه وعن إخوتي، ودفعني إلى أن أسرع إلى الرواح. إنه يريد أن أفصل مع القافلة إلى الشام، فلا بد من أن أتهيأ لذلك وأهيئ له آمنة، وإني لأخشى أن يكون موقع ذلك منها شديدا. قالت: لا بأس عليك، إن تكن فتى من قريش فآمنة فتاة من قريش، وما أظنها إلا هيأت نفسها لحياتنا جميعا، وأخذت نفسها بالصبر على فراق البعل أكثر العام. اذهب مصاحبا، فلن ترى من آمنة إلا ما يحب أبوك وما ستحب أنت بعد حين وإن كرهته الآن. وكانا قد بلغا بيت فاطمة، فدخلت هي، ومضى الفتى أمامه لم يعرج على أمه ليحييها أو ليقدم إليها بعض العزاء. فلما انتهى إلى آمنة في بيتها قامت إليه طلقة الوجه مشرقة الجبين، وتلقته مبتهجة بلقائه، ولم تسأله عما أعجله عن قومه. وهل كانت تشك في ذلك أو ترتاب! إنما هو الحب الذي كان يخرجه من البيت وقد خلت دور بني هاشم من الكهول والشباب، ويرده إلى البيت ولما ينهض كهول بني هاشم وشبابهم من أنديتهم ومجالسهم. ولكن آمنة رأت على وجه زوجها شيئا غير ما كانت قد تعودت أن تراه: رأت حيرة لا تكاد تظهر، وهما لا يكاد يبين. فهمت أن تسأله، ولكنه سبقها إلى الجواب فقال: عزيز علي يا ابنة وهب أن ألقاك بغير ما تعودت أن ألقاك به من البشاشة والبشر، ولكن حياة قريش لا تعرف البشاشة الدائمة ولا البشر المتصل. قالت: فأنت مرتحل إذا مع القافلة؟ كذلك يريد أبوك، وكذلك يريد إخوتك، وكذلك يريد مكانك من قريش.
ثم كفكفت عبرة كانت تريد أن تنهمر، وردت إلى صوتها ما كان قد فارقه من الثبات والهدوء، وقالت وهي تبتسم في كثير من التجلد والصبر: وهل عزت قريش وأثرت إلا بالرحيل! إنما عز قريش وثراؤها ثمرة لجهد الرجال وصبر النساء: أولئك يشقون بالرحلة المتصلة، وهؤلاء يشقين بالصبر الطويل. وماذا أعددت لهذه الرحلة؟ قال: سنتحدث في ذلك بعد حين، ولكني أريد أن تستقبلي هذا الفراق بصبر لا يشوبه التصبر، وجلد لا يشوبه التجلد، وقلب لا يفسد عليه الحزن أمره. انتظري عودتي فلعلي أعود موفورا موسرا، ولعل ذلك أن يهيئ لنا حياة أيسر وعيشا أدنى إلى اللين مما نحن فيه، فلو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى جيدك عاطلا لا تزينه هذه العقود التي تزين أجياد أترابك من نساء قريش، ولو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى أنك لا تستمتعين من طيبات الحياة بمثل ما يستمتع به غيرك من نساء بني هاشم! قالت: وما ذاك، وأين يكون الحلى وأين يكون النعيم من هذه الساعات الحلوة التي نقضيها إذا كانت القائلة أو إذا جن الليل! وأخذ الحديث يصفو ويعذب ويرق ويلين بين الزوجين، حتى أنسي عبد الله أمر الرحلة، وأنسى حديث فاطمة وما وعدته وما صورت له من أماني وآمال، ولم يذكر عبد الله إلا هذا الوجه الجميل، وهذه النفس السمحة، وهذا الخلق الرضي، وهذا الحديث العذب يقع من قلبه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. هنالك عاد إلى وجه الفتى إشراقه وبهجته، وعاد إلى قلب الفتى غرامه وحبه. وهنالك انتصر الشباب على الحزن والسرور معا. ثم أقبل الأصيل فأسبغ على مكة وما حولها رداء خفيفا من الحزن. وخرج الفتى من عند آمنة راضيا ناعم البال، ولكن صوتا بعيدا يبلغ قلبه فيمسه مسا خفيفا. خرج الفتى ليسعى في تهيئة رحلته، ولكن هذا الصوت البعيد أخذ يدنو من قلبه قليلا قليلا:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
ومع أن الفتى قد ولى وجهه شطر بني زهرة ومضى في طريقه إليهم، فقد شغله هذا الصوت عن بني زهرة وعن عروضهم وتجارتهم، وشغله عن القافلة ورحلتها من غد، وشغله عن نصح أبيه وتشجيع إخوته، وشغله عن كل شيء. ولم لا! لقد كان يدنو منه شيئا فشيئا، وكان كلما دنا منه ارتفع واتسع وأخذ عليه كل سبيل، حتى لكأنه كان يسمعه من كل ناحية، وينظر فإذا هو في طريقه لا إلى دور بني زهرة، بل إلى دار فاطمة بنت مر. وينظر الفتى فإذا هو أمام الدار، وإذا هو يدخل من الباب، وإذا هو يرى الجارية السوداء تلقاه باسمة وتحييه قائلة: أسرع يا زين قريش، فقد أبطأت وطال انتظار مولاتي لك وينظر الفتى فإذا هو في ذلك المجلس الذي ترك فاطمة فيه آخر الضحى، وإذا فاطمة قد قامت له وأقبلت عليه، ولكنه لم يفطن لشيء ما كان ليفوته لو أن أمره كله قد كان إليه حقا. لم يفطن لهذا الفتور السريع الذي ظهر على فاطمة حين وقع بصرها عليه. على أنه لم يلبث غير قليل حتى أحس هذا الفتور وأنكره؛ فقد تلتقه الفتاة فرحة بلقائه أول الأمر، ولكنها لم تكد تثبت بصرها فيه حتى هدأ هذا الفرح، ودعته في رفق إلى أن يجلس. وما كاد يستقر في مكانه حتى أقبل عليها جذلان مسرورا وهو يقول: رأيت أني لم أكذبك ولم أخلفك، وإنما أقبلت مع المساء! لئن كانت الدار قد خلت لنا في الضحى لهي الآن أدنى إلى الخلو. ولئن كان الرقيب قد نأى عنا في الضحى لهو الآن أمعن في النأي. ولئن كان النعيم قد عن لنا في الضحى لهو الآن أدنى منالا. قالت وقد أطالت النظر إليه والتحديق: ليتك لم تعد، وليتك إذ وعدت أخلفت موعدك! فحدثني ماذا صنعت منذ فارقتني؛ فإني لا أرى في وجهك ما كنت أراه في الضحى من الإشراق، ولا أرى في جبينك ما كنت أراه في الضحى من الضوء، ولا أسمع في صوتك ما كنت أسمع في الضحى من هذه النغمات الحلوة التي كان يملؤها الحنان! إنما أنت الآن فتى من فتيان قريش يبتغي لذة ومالا. إن في أحداث الزمان لعجبا! ما أسرع ما يتغير الرجال! قال: وأين ترين هذا التغير؟ وماذا تنكرين مني؟ لقد كنت بك مشغوفا في الضحى، وكنت أدافع هذا الشغف، ولقد كنت مقبلا عليك في الضحى، وكنت أخفي هذا الإقبال. فالآن وقد أرسلت نفسي على سجيتها، وتركت قلبي يعرب عما يجد، ويصور ما يحس تلقينني هذا اللقاء؟! هلم! لقد خلت لنا الدار، ونأى عنا الرقيب وأمكنت لنا الفرصة.
قالت: لقد كنت تفكر في الضحى أو تريد التفكير، وكنت تروى في الضحى أو تريد التروية، فالآن دعني أفكر، وهب لي سعة من وقت؛ فإني لا أري ما الذي يصرفني عنك ويخيفني منك. ولو أنصفت نفسك وأنصفتني لانصرفت عني الآن ومضيت فيما كنت فيه من تهيئة رحلتك إلى الشام!
Bog aan la aqoon