قال الحارث: «ففيم إطلاقك لها، وفيم استماعك لهذا الصوت وشربك عليه؟» قال صفوان: «فإن الرجل الكريم هو الذي يلقى جليل الأمر معترفا به غير منكر له ولا جاحد لأخطاره. وقد حاربنا هذا الرجل ما وسعتنا حربه، وقد ظننا به الظنون، وأرسلنا فيه ألسنتنا وعقولنا، وقلنا فيه ما نعتقد وما لا نعتقد، وكانت الأيام تكذبنا، وكانت الحوادث تكشف لنا عما كنا فيه من الإثم والضلال، فكنا لا نسمع للأيام ولا نؤمن للحوادث، وإنما نمضي فيما كنا نضمر من البغض، وفيما كنا نظهر من العدوان. ولم تكن الحرب بينا وبين هذا الرجل، وإنما كانت بيننا وبين قوة أعظم من هذا الرجل بأسا وأشد منه نفاذا وأبعد منه أثرا في حياة الناس. كنا نغالب القضاء، فقد غلبنا القضاء. وكنا نحارب السماء، فقد قهرتنا السماء. فما الخير في أن نمضي فيما كنا نمضي فيه من صلف قريش وكبريائها، ومن جاهلية قريش وغرورها!»
قال الحارث: «إنك لتحدثني بما ناجتني به نفسي مذ أعوام، وبما كانت تناجيني به نفسي حين لقيتك عائدا إلى دارك بعد أن سمعنا منادي محمد يؤذن في الناس أن من لزم داره فهو آمن، وأن من لزم دار أبي سفيان فهو آمن. وكنت أريد أن أبلغ داري فألزمها حتى أرى لي مخرجا من هذا الحرج، فلما لقيتك دعوتني إلى دارك فأقبلت معك وإن كنت لغائبا عنك أسمع لما كانت نفسي تحدثني به من النجوى.»
قال صفوان: «أما أنا فقد عدت إلى داري مغيظا محنقا لا أملك نفسي من الغيظ، ولكني عدت إلى نفسي معترفا بأن أمر محمد قد ظهر على أمرنا، وبأني قد ظلمت هذه الفتاة كما ظلمت غيرها من الناس.»
قال الحارث: «فما تريد أن تصنع؟» قال صفوان: «ما أدري! ولكني لن أذعن لهذا السلطان الجديد إلا أن أكره على ذلك إكراها.»
قال الحارث: «أما أنا فمخرج نفسي من هذا اليأس وذاهب إلى محمد فقابل منه دعوته ومعلن إليه إيماني بما يريدنا عليه.»
وهما في ذلك وإذا باب صفوان يطرق، وإذا مولاه يدخل مضطربا فينبئ سيده بأن رسول محمد بالباب. قال صفوان وقد ظهرت على وجهه ابتسامة حازمة: «فأدخل رسول محمد»، ثم التفت إلى صاحبه وهو يقول: «هذا أول الشر! ما تظنه يريد منا؟»
ولكن الرسول أدخل فحيا وتلطف في التحية، وتلقاه صفوان لقاء حسنا، ثم يقول الرسول لصفوان: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يستعد لحرب هوازن، وقد جمعت له جمعا عظيما، وقد علم أن عندك سلاحا ودروعا وكثيرا من أداة الحرب؛ فهو يسألك أن تعينه بما عندك.»
قال صفوان في لهجة لم تخل من سخرية: «فهو الغصب إذا!» قال الرسول في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: «كلا يا صفوان! ليس الغصب من أخلاق رسول الله، وهو لم يعلمنا غصبا ولا غدرا ولا تجبرا، وإنك لتعلم قدرته عليك وعلى غيرك من الطلقاء، أفتراه قد مسكم بشر، أو نالكم بأذى! إنه يستعير منك سلاحك ودروعك وما عندك من أداة الحرب، على أن يردها عليك موفورة بعد الظفر إن شاء الله.»
Bog aan la aqoon