قال الفتى: «سترتحلان لأنكما لا تقدران على الحرب، وليس لكما فيها أرب، وسأبقى أنا لأني أقدر على الحرب، ولأن لي فيها أربا.» قالت أسماء: «لك في الحرب أرب! وما هو؟» قال الفتى: «هو أن أجد فيها من الجد ما يشغلني عن نفسي ويصرفني عن همي. فإن لقيت فيها الموت فسأستريح من حياة لم أجد فيها إلا عناء وحزنا.»
وتحطم صوت الفتى وجرت دموعه على خديه، فنهضت إليه أمه تضمه إليها وتمزج دمعها بدمعه، وثبت الشيخ في مكانه هادئا ينظر إلى الفتى وأمه نظرته تلك الطويلة العابسة الماكرة، ثم انفرجت شفتاه عن هذه الجملة التي قالها وهو ينهض متثاقلا: «لقد آن الأوان يا أسماء!»
2
وانصرف الشيخ وترك الفتى واجما، وأمه تنازع شيئا من حيرة طارئة. ولكن لم يمض إلا قليل حتى ثاب الفتى إلى نفسه، وخلصت الأم من حيرتها، فنظرت إلى ابنها نظرة فيها كثير من الحنان، وفيها كثير من الوجد، وفيها كثير من الغيظ الدفين. ثم أخذت بيد ابنها فأجلسته وجلست إلى جانبه، ثم أحاطت عنقه بذراعها وضمته إليها، ثم قالت: «فأنت إذا تريد أن تحارب يا بني؟» قال الفتى: «نعم!» قالت الأم: «من تريد أن تحارب؟» قال الفتى: «أريد أن أحارب هذه الصابئة التي تغير على أرض قيصر، وتريد أن تجلينا عنها أو أن تتخذنا لها عبيدا وخدما.»
قالت الأم: «فإنك لن تفعل من هذا شيئا يا بني إلا أن تكون ابنا عاقا ينكر أباه.» قال الفتى وقد وجم: «ماذا تقولين؟ وماذا أعرف من أمر أبي؟ وكيف يكون قتالي لهذه الصابئة التي اضطهدت يهود فقتلتهم وعذبتهم وأجلتهم عن ديارهم إنكارا لأبي وجحدا لحقه علي؟»
قالت الأم: «إن الأمر يا بني لأعسر مما تظن! لقد هيأك عمك لتثأر لأبيك وليهود من هؤلاء الذين تسميهم الصابئة. ولقد صابرته وطاولته ومالأته على ما فعل وشاركته فيما أراد، وكنت أستجيب في ذلك لعواطف نفسي وأهوائها، وكنت أستجيب لهذه العصبية التي يجدها أبناء يهود جميعا على هؤلاء الذين قتلوهم وعذبوهم وأجلوهم عن ديارهم كما تقول. وكنت أستجيب لشيء آخر يا بني هو حبي لك وحرصي على تنشيئك وحمايتك من غوائل الدهر، ووفائي لعمك هذا الشيخ الذي منحنا من العطف والبر والحنان ما مكنني من أن أبلغ بك هذه السن وأصير بك إلى هذه الحال. ولقد انصرف عنا الآن يا بني وهو يقدر أني سأهيئك لما هيأك له، وسأعدك لما أعدك للمضي فيه، وسأنبئك بحديث أبيك على نحو يدفعك إلى الثأر له. ولكني يا بني أنظر إليك إلى جانبي ، وأنظر إلى أبيك في قرارة ضميري، أرى وجهك ماثلا في عيني، وأرى وجهه ماثلا في قلبي، أسمع لصوتك العذب يمس أذني مسا حلوا، وأسمع لصوت أبيك العنيف يهز ضميري هزا قويا وأسأل نفسي: أأفي للأحياء أم أفي للموتى؟»
ثم أطرقت أسماء ساعة والفتى ينظر إليها ولا يكاد يفهم عنها. ولكن أسماء رفعت رأسها وكفكفت من دمعها، وقالت في صوت هادئ مطمئن ولكنه مظلم حزين: «أنت بين اثنتين يا بني: فإما أن تحارب مع هؤلاء الذين تسميهم الصابئة، وإما أن تعتزل الحرب وترحل مع المرتحلين. فأما أن تحارب في جيش قيصر فذلك شيء لا سبيل إليه.»
قال الفتى: «ماذا تقولين فإني لم أفهم عنك منذ اليوم؟» قالت أسماء: «أقول ما كرهت يهود أن تقوله، وما كره عمك أن يقوله. أقول شيئا لو قالته يهود لما قتلت ولا عذبت ولا أجليت عن ديارها. إن أباك يا بني لم يكن لنبي العرب عدوا وإنما كان له صديقا وبه حفيا وله وفيا. لقد عاهدت يهود نبي العرب على أن تنصره إن اعتدى عليه المشركون من قومه. فلما آن أوان الوفاء بالعهد وأقبلت جيوش قريش تريد الغارة على المدينة، نفر نبي العرب للحرب ونفر معه من نفر من أصحابه، ودعا أبوك قومه إلى الوفاء بالعهد فتلكئوا وتباطئوا وتثاقلوا، وحاورهم أبوك فتشدد في الحوار وذكرهم وألح في تذكيرهم، ولكنهم تعللوا يا بني، وقالوا: يحارب محمد في يوم السبت، وما ينبغي أن نحارب في يوم السبت.
قال مخيريق - ولم تكد تنطق باسمه حتى احتبس صوتها وانهمرت عبرتها فكفت عن الحديث حينا ثم استأنفته قائلة - قال مخيريق: فإن محمدا لم يختر الحرب ولم يختر يومها ولم يختر موضعها، وإنما اختار ذلك عدوه. لا سبت لكم! وانفروا إلى الوفاء بالعهد، فلم يجد منهم إلا إعراضا وإصرارا على الإعراض. وما أنس يا بني فلن أنسى عودة أبيك من نادي قومه وقد اربد وجهه وتطاير شرر الغيظ من عينيه. وكنا إذا أقبل إلينا تلقيناه مبتهجين بلقائه وتلقانا هو مبتهجا بعودته إلينا . فلما أقبل ذلك اليوم لم تكد أبصارنا ترتفع إليه مفتونة معجبة حتى ارتدت عنه محزونة مشفقة. أنكرناه يا بني بل خفناه. ولم ينظر إلينا هو وكأنه لم يحس أننا كنا نتلقاه، فمضى أمامه لا يلوي على شيء، حتى إذا انتهى إلى حجرته أقبل على التوراة فنظر فيها غير طويل ثم طواها، ثم أمر أحد غلمانه أن يدعو إليه بعض أصحابه من يهود. فلما أقبلوا أقرأهم شيئا في التوراة ثم قال: «أسبتوا إن شئتم من الغد، فأما أنا فلا سبت لي.» ثم قال لهم: «اشهدوا أني نافر إذا كان الغد فواف بعهدي لهذا الرجل؛ فإن أصبت في هذا اليوم فمالي كله لهذا الرجل يقضي فيه بما أراد الله.» ثم دعا كبير غلمانه فأمره أن يهيئ الإبل لرحلة طويلة. فلما تهيأ له ذلك دعا هذا الغلام فأوصى إليه أن يرتحل بي وبك حتى يبلغ هذه المدينة من أرض الشام فيسلمنا إلى عمك، فإن فعل ذلك فهو حر.
ولم يستقر له قرار حتى استقلت بنا الإبل واستبد بنا السفر، وحدا بنا الحداة، وقد أنبئت يا بني أنه قاتل حتى قتل. وقد أنبئت يا بني أن نبي العرب كان يقول إذا تحدث عنه أو سمع الحديث عنه، مخيريق خير يهود. وقد صارت إليه يا بني أموال أبيك، فلم يأخذ لنفسه منها شيئا، وإنما أجراها صدقة على الفقراء من أصحابه. ولم يستقر لنا الطريق يا بني إلى هذه المدينة من أرض الشام، وإنما التوت بنا أشد الالتواء، فلم يقنع العبد بحريته ولم يف لأبيك بوعده، وإنما أطمعته الدنيا، وزين له حب الثراء أمرا عظيما، فهم أن يبيعنا يا بني بيع الرقيق لولا أن أخطأه الحظ، فعرضنا على من لم يشق علي أن أعرفه بنفسي وزوجي. فلما عرفنا أكرم مثوانا، واحتفظ بالعبد رقيقا، وأمننا وصاحبنا حتى أبلغنا هذه الدار. وكنت يا بني صبيا لا تعقل ولا تكاد تستقل. فلما أنبأت عمك بهذه الأنباء لم ألق منه خيرا، ولم يطلب إلي إلا أن أكتمك الحديث، حتى يأتي لك أن تنهض للثأر. ولم يرد عمك أن يقر أباك على ما فعل، بل لم يرد عمك أن يصدق من هذه الأنباء إلا ما أراد هو وما أرادت يهود، فزعم أن أصحاب محمد قتلوا أباك. وما قتلوه يا بني وما عرضوه للقتل، وما طلبوا منه حربا ولا قتالا، ولكن أباك وفى بالعهد يا بني، وقد يكون الوفاء مرا في بعض الأحيان. فانظر ماذا تصنع: أتنصر قوما نصرهم أبوك؟ أم تكف عن حرب قوم نصرهم أبوك؟ فأما أن تخذل من كان لهم أبوك ناصرا، فما أرى أن ذلك شيء تستطيع أن تقدم عليه.»
Bog aan la aqoon