وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
ولم يعلم العبد أن النبي قد اضطر إلى أن يكفر عن يمينه، ثم لم يعلم العبد أن النبي قد عاد إلى المدينة محزونا أسفا، فلما سمع نساء بني عبد الأشهل يبكين قتلاهن قال: «ولكن حمزة لا بواكي له!» وسمع ذلك منه الأنصار، فأرسلوا نساءهم يبكين حمزة عند بيت النبي، وخرج نساء النبي فبكين معهن حتى ردهن النبي داعيا لهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء.
لم يعلم العبد من هذا شيئا. وماذا يعنيه من هذا! إنما كان يريد حريته وقد بلغها. وماذا صنع البائس بحريته! لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها! ولم يسد في مكة، وكيف السبيل إلى السيادة فيها!
إنما عاش بين قريش حرا كالعبد، وطليقا كالأسير. نعم! لم يعلم بشيء من هذا.
ولكنه علم ذات يوم أن جيوش المسلمين مقبلة على مكة، ورأى ذات صباح جيوش المسلمين تدخل مكة، واستيقن العبد أنه مقتول إن ظفر به المسلمون، ففر وانطلق في الأرض يلتمس لنفسه مأمنا فلا يجده. هؤلاء المسلمون ينتصرون على العرب يوم حنين، وهذه أرض العرب كلها تذعن للنبي، فأين الملجأ من الله إلا إلى الله! لقد أوى العبد إلى الطائف، وقاوم فيها المسلمين ما قاومهم أهلها. ولكن وفد الطائف يتهيأ للسفر إلى المدينة، وما هي إلا أيام حتى تذعن الطائف لما أذعنت له مكة. والآن يفكر العبد في مهاجرة البلاد العربية كلها. ولكن كيف السبيل إلى الهجرة؟ لقد أخذت عليه سبيل الحبشة، وأخذت عليه سبيل الروم، وانبسط سلطان النبي على الشمال والجنوب. لقد كانت الهجرة ميسورة قبل الآن، فأما الآن فقد تقطعت من دونها الأسباب.
هنالك يلقي بعض الناس في نفس العبد أن النبي لم يقتل قط رجلا جاءه مسلما. وإن النبي لجالس بين أصحابه ذات يوم، وإذا رجل قائم على رأسه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وينظر النبي فيرى العبد فيعرفه. ولكن الله قد عصم دمه بالإسلام. وما قتل النبي قط رجلا جاءه مسلما وإن كان قد قتل عمه حمزة. فيأمر النبي ذلك العبد أن يجلس ويحدثه كيف قتل عمه. وهذا العبد قد جلس، وهو يعيد على النبي بلاءه المنكر، وحديثه يملأ قلب النبي حزنا ولوعة وأسى، والعبد بين يديه، لو أراد لأرضى حزنه ولوعته بمصرعه، ولكن أنى له ذلك وقد اعتصم العبد بالإسلام!
وقد آثر النبي أن يعفو، وآثر أن يصبر. أليس قد عفا عن هند وقد مثلت بعمه ولاكت كبده، وجدعت أنفه وأذنيه! فما له لا يعفو عن عبد مأمور! ولكنه قال للعبد: «غيب وجهك عني.» فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.
وعاش وحشي في المدينة حرا كالعبد، وطليقا كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزا، ويمزق فؤاده تمزيقا، ويؤرقه إذا جن الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.
ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان يصد عن سبيل الله.
وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أحد، ويتهيأ لرميها كما تهيأ يوم أحد، ثم يطلقها كما أطلقها يوم أحد، وإذا هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر الناس!
Bog aan la aqoon