هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء ! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد هلم فاشربوا واسقوا إبلكم واملئوا مزادكم. هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القائمة المحرقة. والقوم يضجون بالرضا والغبطة، وإن للإبل من حولهم لأطيطا ملؤه الرضا والغبطة أيضا. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم، وتشعر بالسرور والحزن! روي الناس، ورويت الإبل، ورويت الأرض. وقالت رسل قريش لعبد المطلب: عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا، وإن الذي أسقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك، هو الذي أسقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.
وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفورا مظفرا! فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: «حبذا شيبة مسافرا! وحبذا شيبة مقيما! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم؛ إنه ليريد كثرة الولد! وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه؟!»
ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمرو بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة، وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.
الفصل الثالث
الفداء
أصبحت سمراء محزونة كاسفة البال، تبدو على وجهها المتجعد وجبينها المقطب كآبة مظلمة، لم تحاول في هذا اليوم أن تخفيها أو تخفف من حدتها كما تعودت أن تفعل منذ أعوام وأعوام. فقد عرفت سمراء ألم الحزن منذ احتفرت زمزم، ومنذ ظهر حرص زوجها على الولد، ورغبته في كثرة العدد، ومنذ خطب فاطمة المخزومية فأحبها وكلف بها، وانصرف إليها عن كل شيء وعن كل إنسان، ومنذ كثر ولد فاطمة من البنين والبنات، واشتد لذلك حب عبد المطلب لها وكلفه بها وانصرافه إليها، وتجافيه عن زوجه الأولى، تلك التي أضاءت له سبيل الشباب، وأعانته على احتمال أثقال الحياة الأولى.
نعم! عرفت سمراء ألم الحزن في هذه الأعوام الطوال من حياتها، ولكنها كانت على بداوتها امرأة لبقة بارعة الجمال، ذكية القلب، تعرف كيف تخفي على زوجها ما يكره، وكيف تلقاه بما يحب.
وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء؛ لأن تستميل إليها زوجها وربما اضطرته إلى أن ينقطع إليها وقتا ما، وينسى زوجه الأخرى إلى حين.
ولكن يوما أقبل يحمل إلى سمراء شرا ليس فوقه شر، وألما ليس بعده ألم؛ أصبح هذا اليوم مظلما، فما أمسى حتى أظلمت له حياة سمراء كلها. ذلك أنه مضى بموت ابنها الوحيد، فأذاقها مرارة الثكل واليتم والترمل جميعا. فقد كان الحارث لها ابنا تجد عنده قرة العين، وأبا تحس منه العطف وحنو الآباء: وكان هو يحس ألمها ويعرف أسراره، ويجد في الطب لهذا الألم؛ فكان يبالغ في رعاية أمه وحمايتها. وكان شديد الحرص على أن يلقاها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعلى أن يطيل المكث معها والتحدث إليها، يشركها في جد أمره ولعبه، يستشيرها ويظهر قبول مشورتها والاستماع لنصحها. فكان يقوم منها في أكثر الأحيان مقام أبيه؛ وكان يعزيها بحبه وبره عما كانت تجد من الوحشة حين يصد عنها زوجها فيطيل الصدود. فلما مات الحارث مات معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلبا مكلوما مظلما. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب واشتد جزعها وطال. ولكن أي شيء يبقى على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته كما ذهبت بنضرة شباب سمراء، وكما ذهبت بحياة ابنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب وأصبحت وقد تقدمت بها السن وامتحنتها حوادث الدهر، امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئا، ولا يسرها شيء، محزونة ولكن في دعة، ملتاعة ولكن في هدوء!
وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها، وما يجدون من انقباضها عنهم، فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس؛ واحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف، وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصا عاديا يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون، ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور. على أنها كانت تجد شيئا من الرضا وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفا عليها وأنسا إليها.
Bog aan la aqoon