وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا، راضيا مع ذلك، لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له، ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت. ولما ألح في السؤال، قالت: وبم تريد أن أبتهج؟ ولم تريد أن أبتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجال. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك، ثم عاد إلي الأمل أول أمس، ثم ها أنت ذا ترد إلي اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه، بشع المنظر كأنه الغول. ماذا؟! يلم بك الطائف أربع ليال، يهيب بك ويلح عليك، رمزا حينا ومصرحا حينا ومصرا دائما، حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه، وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى بني عبد مناف، فيقال: ألقى بيده ونزل عن غنيمته؛ فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية
1
تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك! لله أنتم يا معشر قريش! إنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية. ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا بطاحكم حاجين ولا معتمرين، ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر، ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم، تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة. وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض، وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق.
هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلي! لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة! إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولما استطاع بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق، وعبثت بنفسك بقية من كبرياء، فأفقرت نفسك، وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء، وأقلي اللوم، فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غبرة الحرص على المال. وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة الحديث عن المال. وما أرضى وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. إن فيكم - أهل البادية - لطباعا غلاظا ونفوسا يملؤها الطمع. أنتم لا تحسبون الدين ولا تقدرون الغيب، ولا تؤمنون إلا بما ترون، ولا تخافون إلا القوة الظاهرة. لقد كنت أحسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء، فإذا أنت اليوم كما كنت يوم انحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر، ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وأدخل الخصب على بني عامر؛ فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما هو مخبوء لأمر يراد. وإني لمن قوم لا يحبون الغضب ولا يستأثرون بما ليس لهم، ولا يمنعون الحقوق. فإن تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقتك فزمي رحالك غدا وألمي بأهلك! فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض غاضبا، وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.
وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله، وحتى اضطربت له مجالس قريش في فناء البيت، فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا، ويريد أن نلقي منه شططا. أقبلوا إليه سراعا يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز وعثر على غنيمة، ليغبننه عليها، وليعطنه منها نصيب رجل من قريش. وانتهوا إليه وهو يكبر ويصيح: هذا طوي إسماعيل! هذه بئر زمزم! هذه سقاية الحاج! لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.
فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به، وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة، وأنبطت لهم هذا الماء يستقون منه، إذا ضنت عليهم الينابيع، فوصلتك رحم! لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال: ما أنتم وذاك! هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلي من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلي سأسقيكم منه إن أردت، ولكني أسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم، فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا: يابن هاشم! إنك لتسرف على نفسك، وتشط على قومك، وتختلق على السماء! إن هذه الأرض ليست لك، وإنما هي لله ثم لقريش، وإن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك. ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان! فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم! خلوا بيني وبين الماء، فوالله لن تبلغوا مني شيئا. إنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم، ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يرد عني كيدكم ويحميني من ظلمكم. إنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد، ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به. وإني أقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد! وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش. وكاد الشر يقع بين القوم، ولكن عبد المطلب قال يا قوم فيم قطع الأرحام، وخفر الذمام، وإراقة الدماء! إني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء. فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش: لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه، فليكف بعضكم عن بعض، ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم، فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام؛ فأجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف، وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة، ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر، ونفد ما كان معهم من ماء، واشتد بهم الظمأ وأحرق أكبادهم الصدى، وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار فيها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد، ليس فيها عين ولا بئر، ولا شجرة ولا عشب، وإنما هي أرض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام. وقد يئس القوم من كل روح، وقنطوا من كل وجهة، فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم: يا قوم؛ إنما هو الموت فأنتم بين اثنتين: إما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهبا لسباع الأرض والجو، لا تواريكم يد في التراب، ولا تأوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه؛ وإما أن يقوم بعضكم على بعض، ويواري بعضكم بعضا، فيكون لكل منكم حفرته، وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع، وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها، كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وأن تقيموا، فأيكم ذهب الصدى بنفسه وأراه أصحابه وبكوا عليه، فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد به الحياة إلى أقصى أجل.
قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته؛ وتثاقل القوم بعض الشيء، يفكرون في أولادهم وآخرتهم، ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال، ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة، ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم، فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.
كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ، ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: «يا معشر قريش، ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت، وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وإن فيكم لبقية من قوة، وإن في إبلكم لقدرة على الحركة وفضلا من النشاط! لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها. هلم فاضربوا في هذه الأرض! فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا.»
ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث، وإذا الآمال تحيا، وإذا النشاط يتجدد، وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم، وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه. وينهض عبد المطلب إلى راحلته، حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت وهمت لتندفع. ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون، فإذا عين غزيرة قد انفجرت تحت خف الراحلة، وإذا هي تفور، وإذا بالماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!
Bog aan la aqoon