2
وأقبل من الغد على ورقة بن نوفل، فلم يلقه الشيخ هشا بشا كما تعود أن يلقاه، وإنما ابتسم له ابتسامة فيها شيء من كآبة. على أن الشيخ لم يكن فارغ البال ولا مطمئن النفس، وإنما كان معنيا بأمر عظيم يضمره ولا يظهره.
فلما رأى الفتى منه هذا الفتور أقبل عليه مداعبا كأنما يستخفه إلى شيء من النشاط، فجعل يتحدث إليه عن ليلته التي أنفقها لاهيا بخمر نسطاس وغناء جواريه.
ولكن الشيخ لم يخف ولم ينشط، وإنما جعل يسمع من الفتى أحاديثه الطويلة التي لا تنقضي، ويجيبه بين حين وحين برأسه يهزه أو طرفه يومئ به أو لسانه يديره في فمه بالكلمات القصار. فلما رأى الفتى منه ذلك سيء به وضاق به ذرعا وقال في شيء من الحدة: «ويحك أيها الشيخ! إنك لشديد الكآبة منذ اليوم، وما سعيت إليك أبتغي كآبة أو حزنا، وما أقبلت عليك لتنغض إلي رأسك أو تومئ إلي بطرفك أو تلوي لي لسانك بهذه الألفاظ التي لا تغني، إنما جئت ألتمس عندك شيئا غير هذا.»
قال الشيخ وقد أخذ ابتسامه يتسع قليلا: «تلتمس عندي ماذا يابن أخي؟» قال الفتى: «ألتمس عندك هذه القوة التي أستقبل بها سخف قريش وجه النهار وآخره، كما ألتمس عند نسطاس هذه اللذة التي أغسل بها هذا السخف عن نفسي حين يقبل الليل.»
قال الشيخ متضاحكا في فتور: «فقد غسلت نفسك من سخف قريش ولكنك دنستها برجس نسطاس، ثم أقبلت الآن تريد أن تغسلها من هذا الرجس وتمحو منها آثار اللذة الآثمة، آثار الخمر وما يتبعها مما لا يجمل بالرجل الكريم! فما أعرف أن عند نسطاس لمثلك خيرا، وإنما هي الفتنة التي تفل الحد وتفسد الطبع وتذهب المروءة وترد فتيان قريش إلى مثل ما عليه فتيان الروم من الضعف والوهن والفتور. لقد رأيتهم يا ابن أخي فما وجدت عندهم خيرا، وإنما هو الفساد قد أخذهم من كل وجه وانسل إلى نفوسهم من كل سبيل، فأصبحوا لا يقدرون على شيء وإن خيلت إليهم كبرياؤهم أنهم يستطيعون أن يبلغوا كل شيء.» ثم سكت قليلا وأطرق مليا، ثم رفع رأسه وقال في صوت هادئ متزن: «ما أبغض يا عمرو شيئا كما أبغض الحانات التي يقيمها الروم في أعطاف مكة والتي يغري فتيان قريش بما فيها من هذه اللذات الآثمة التي تقتل الرجولة.»
وكان عمرو بن هشام يسمع لحديث الشيخ وعلى ثغره ابتسامة ضئيلة غامضة، وفي وجهه شيء من السخرية لا يكاد يبين، وربما حرك رأسه إلى يمين أو إلى شمال ليخفي على الشيخ سحابة من عبوس كانت تغشي جبهته بين حين وحين. فلما فرغ الشيخ من حديثه وعاد إلى إطراقه فأمعن فيه وجعل ينكت الأرض بعصاه، قام الفتى متثاقلا يريد أن ينصرف. فنظر الشيخ إليه نظرة قصيرة كأنما كان يريد أن يمسكه، ولكنه لم ينشط حتى لذلك فغض بصره وعاد إلى إطراقه. واستدار الفتى نحو الباب، ولكنه عاد فجأة فاستقبل الشيخ وقال في شيء من العنف: «لن أنصرف، فلست أحب أن تصحبني منك هذه الصورة التي أنكرها. لقد كنت في نفسي شيئا غير هذا، ولقد كنت أنتظر منك أن تباديني بكل شيء إلا ما باديتني به منذ اليوم.»
قال الشيخ: «فكنت تنتظر مني أن أغريك ببيت نسطاس وما فيه من لذة وإثم، وكنت تقول لنفسك إنما ورقة بن نوفل رجل نصراني قد أتى بلاد الروم وطوف في مدنها وقراها وعاد منها وقد أخذ كل ما وجد من الدين والدنيا، فهو نصراني كنسطاس، يحب كل ما يحب النصارى ويألف كل ما يألفون، والسن وحدها هي التي تقعده عن بيت نسطاس، ولو قد كان له فضل من قوة أو بقية من شباب لشاركني فيما أستمتع به عند نسطاس، فخمره معنقة وجواريه حسان وغلمانه صباح الوجوه، وعنده غناء يفتن القلوب ويسحر الألباب. كلا يا ابن أخي! لقد أتيت بلاد الروم، وطوفت في مدنهم وقراهم، وألممت ببيعهم وحاناتهم، ورأيت ما عندهم من دنيا ودين، ثم عدت وإني لأكثر أمرهم لكاره أشد الكره، وإني من حياتهم لنافر أشد النفور. ولو قد أعجبتني حياة الروم كما تعجبك لما عدت إلى واد غير ذي زرع كهذا الوادي الذي نعيش فيه.»
قال الفتى: «الآن ينطلق لسانك وقد كان معقودا، ولكن لم آت لأسمع منك هذا الحديث ولا لألتمس عندك هذه الموعظة؛ فقد أسدى إلي منها عمي الوليد بن المغيرة أمس ما أستطيع أن أعيش عليه أياما وشهورا.»
قال الشيخ: «فماذا جئت تلتمس عندي إذا؟» قال الفتى: «جئت أتعلم منك، وأرى أنك ستتعلم مني.» قال الشيخ وقد عاد إلى نشاطه وخفته واستأنف ما ألف عنده عمرو بن هشام من هذا الطبع السمح والمزاح الحلو والمرح الذي كان يحببه إلى النفوس. قال الشيخ: «فعلمني يا عمرو فإن الإنسان لا يكبر عن العلم مهما تبلغ به السن، وإن العصا قرعت لذي الحلم.» قال عمرو بن هشام: «لا تهزأ فإني سأعلمك عجبا من العجب! إنك لتجهل من أمر نسطاس كل شيء ولا تعلم منه إلا ما يعرفه المفتونون من شباب قريش، أولئك الذين يصطبحون عنده أو يغتبقون لا يعرفون إلا أن عنده خمرا معتقة وجواري حسانا وغلمانا صباحا وغناء عذبا.» قال ورقة: «فما استكشفت عنده غير ذلك؟» قال: «استكشفت ما كنت أظن أنك لا تجهله. إن هؤلاء الروم الذين يقيمون حاناتهم في أعطاف مكة كما تقول فتنة لشباب قريش وشيوخها لا يهبطون هذا الوادي المجدب رغبة في المال وحده أو حرصا على أن يمتعوا قريشا بهذه اللذات التي يحملونها إلينا، وإنما هم يبتغون أشياء لا تخطر لنا ببال. ولو قد فطن لها الوليد بن المغيرة الذي كان يسدي إلي النصح والموعظة أمس، ولو قد فطن لها عتبة وشيبة ابنا ربيعة وصخر بن حرب وأمية بن خلف لاستقبلوا من أمرهم غير ما يستقبلون، ولنفوا كل رومي عن هذه الأرض، ولاشتطوا على هؤلاء الغرباء من الروم والنبط والفرس أكثر مما يشتطون على العرب.»
Bog aan la aqoon