Cala Hamish Sira

Taaha Xuseen d. 1392 AH
132

Cala Hamish Sira

على هامش السيرة

Noocyada

وأعرض الشيخ عن ابن أخيه ساعة شغل فيها بكثير من شباب قريش وشيوخهم، وقد أقبلوا يحملون إليه الأموال التي يساهمون بها فيما كانت قريش تهيئ من تجارتها إلى الشام، يحمل بعضهم إليه العين من الذهب والفضة، ويحمل إليه بعضهم العروض المختلفة، وهو يسمع لهم ويرد عليهم، وبين يديه كتاب يتلقون هذه الأموال ويسجلون ما يتلقون منها. فلما انقضت على ذلك ساعة وقل المقبلون بأموالهم، أشار إلى كتابه وغلمانه أن انصرفوا لتستأنفوا أمركم من الغد.

وانتهز عمرو بن هشام اشتغال عمه بمن كان يقبل عليه وينصرف عنه فلها بمداعبة من كان يقوم على خدمته وخدمة غيره من غلمان الدار، يعبث بهذا ويمازح ذاك، ويسأل هذا ويرد على ذاك، يقلدهم في لهجاتهم الغريبة المحطمة؛ يتحدث إلى هذا بلهجة الحبشي المستعرب، وإلى ذاك بلهجة الرومي، ويسأل هذا أو ذاك عن شئونه الخاصة، وربما سأل هذا أو ذاك عن بعض شئون عمه، ولكنه كان يهمس بمثل هذا السؤال وربما أومأ به. وكان الغلمان يجيبونه كما كان يتحدث إليهم مصرحين مرة، وملمحين مرة ومشيرين بالطرف واليد مرة أخرى، ومبتسمين له دائما. فقد كان عمرو بن هشام محببا في دار عمه، ومحببا إلى غلمان هذه الدار خاصة. وربما آثره هؤلاء الغلمان على ابن سيدهم الشاب خالد بن الوليد. كانوا يرون من خالد أنفة واستكبارا وازورارا عنهم. وكانوا يرون من عمرو تلطفا لهم وعناية بهم. وكان عمرو غريب الأطوار حقا، فقد كان شديد الكبرياء عظيم الخيلاء إذا لقي نظراءه من أبناء قريش، فإذا لقي الغرباء من الرقيق والخلعاء تلطف لهم ورفق بهم وخاض معهم في ألوان مختلفة من الحديث كأنه واحد منهم.

على أنه حين أحس أن عمه قد فرغ من الداخلين والخارجين وكاد يخلص له تكلف الجد وأشار إلى من كان حوله من الغلمان أن خذوا حذركم فقد جاءت الساعة الرهيبة. ونظر إليه عمه فلم يستطع أن يرد ابتسامة أشرقت في وجهه حين رأى هذا الجد المتكلف وهذا الإذعان لما ليس بد من الإذعان له. ورأى الفتى ابتسامة عمه فأغرق في ضحك متصل ثم قال: «لبيك عمي فإني منصت لما تقول.»

قال الشيخ في هدوء: «قد بلغتني عنك أحاديث لا أحبها ولا أحب أن تتحدث بها قريش عن عمرو بن هشام بن المغيرة.»

قال الفتى وهو يتكلف الجد: «ويلي من قريش وويل قريش مني! بماذا أنبأتك ألسنتها المنطلقة التي لا تستقر؟» قال الشيخ: «أنبأتني بشيء عظيم كرهته، وأرجو أن تكف عنه.» قال الفتى: «فتريد أن أعيد عليك ما أنبأتك به ألسنة قريش؟ فإنها قد زعمت لك أني أختلف مع شباب قريش إلى بيت نسطاس فنشرب ونعبث ونلهو، حتى إذا بلغنا حاجتنا من ذلك وهم أترابي أن ينصرفوا لم أخرج معهم وإنما تخلفت فأقمت عند نسطاس وأطلت عنده المقام، أسمع منه ومن جواريه، وأتحدث إليه وإلى جواريه. وقد أطيل المقام حتى يتقدم الليل، فإذا هممت أن أنصرف أشفق علي نسطاس من غائلة الطريق، وأشفق علي من كثرة ما شربت عنده من الخمر، فدعاني إلى أن أنتظر الصبح عنده وما أكثر ما أستجيب لهذا الدعاء؛ لأني أحب بيت نسطاس، وآنس إليه وإلى من حوله من الجواري والغلمان. وقريش تنكر هذا وترتاب به، وتكره لفتى شريف من فتيانها أن يبيت في غير مبيت وأن ينفق الليل بعيدا عن أهله. وقريش تبيح لفتيانها أن يلموا بدار نسطاس وأن يشربوا فيها الخمر ويعبثوا فيها ما طاب لهم العبث ولكن على أن يعودوا إلى أهلهم قبل أن يتقدم الليل. فلقريش وقارها، وما ينبغي لفتيانها أن يغرقوا بالعكوف على اللذات، أو يوصفوا بإدمان اللهو والإسراف فيه.»

قال الشيخ: «وأنت تنكر من أمر قريش هذا كله، وتأبى إلا أن تبادي قومك بما يكرهون، فتخف حين يصطنعون الوقار، وتصطنع الوقار حين يخفون، وتحرص على أن تكون أحدوثة الناس إذا أصبحوا وأحدوثة الناس إذا أمسوا، لا بما تقدم عليه من عظيم الأمر ولا بما تحاول من الشئون الجسام، ولكن بالدعابة إذا جد الناس، وبالجد إذا لهوا، وبالاختلاف إلى حانة نسطاس إذا أقبل الليل مع اترابك، والتخلف عنهم إذا انصرفوا، كأن بينك وبين هذا الرومي سرا ما ينبغي أن يظهر عليه أحد إلا هؤلاء الروميات اللاتي يخلب بهن نسطاس عقول الفتيان.»

قال الفتى: «أما أني أنكر على قريش دخولها فيما لا يعنيها من أمري فهذا حق. وأما أني أتخلف عن أترابي عند نسطاس إذا انصرفوا حين يتقدم الليل فهذا حق أيضا. وأما أن بيني وبين نسطاس وجواريه سرا لا ينبغي أن يظهر عليه أحد فهذا هو التكلف كل التكلف. فخمر نسطاس معتقة، وجواريه حسان يفتن بما لهن من دل كما يفتن بغنائهن العذب. وحديث نسطاس حلو ممتع، يرضي حاجتي إلى العلم، وشوقي إلى المعرفة، ورغبتي في الجد. فأنا أحد في هذه الدار ما لا أجد في أندية قريش. وأنا من أجل ذلك ملح في زيارتها، مطيل للإقامة فيها، مفتون بما أجد عند أهلها من لذة الجسم والنفس جميعا. وما أعرف أني أعطيت قريشا عهدا عن نفسي أن أعيش كما تحب هي لا كما أحب أنا. وما أعرف أني أتتبع شيوخ قريش وفتيانها بمثل ما يتتبعونني به؛ فإن أمرهم لا يعنيني، فما بال أمري يعنيهم، وما بالهم لا يدعونني وما أشاء كما أدعهم أنا وما يشاءون؟!»

قال الشيخ: «إنك يابن أخي لذرب اللسان حديد القلب نافذ البصيرة، وإني لأحب منك هذا كله، ولكني ...»

قال الفتى: «ولكنك تريد أن أنفق هذا كله فيما ينبغي لفتى من فتيان قريش أن ينفق جهده فيه، من الجد في التجارة حين يدعو الأمر إلى الجد، ومن العبث بهؤلاء البائسين من العرب حين يكون موسم الحج نضللهم ونغررهم ونزعم لهم أننا سادة الناس وأن إلينا وحدنا أمور دينهم، وأي دين! ثم من الفراغ للأحاديث التي لا تفنى إذا ربحنا من تجارتنا وأخذنا من موسم الحج ما نريد، وصدر الناس عنا وقد أخذنا منهم أموالهم وعقولهم جميعا، هنالك نفرغ لأنديتنا فيتحدث بعضنا إلى بعض بأحاديث أقلها الحق وأكثرها الباطل، ويبدي بعضها لبعض أقل ما يمكن أن يبدي من نفسه، ويستر بعضنا عن بعض أكثر ما يمكن أن يستر منها. نكبر آلهتنا ونعظم من أمرها وإنا لنزدريها في نفوسنا أشد الازدراء، ونمقتها في قلوبنا أعظم المقت.»

قال الشيخ وقد أسرع بيده إلى فمه والتفت يمنة ويسرة التفاتة لا تلائم ما تعود من وقار: «صه! صه! يابن أخي.» قال الفتى وقد أغرق في الضحك: «لا بأس عليك يا عم فقد انصرف كل إنسان وأغلقت من دوننا الأبواب، وعلم غلمانك أننا نريد الخلوة.»

Bog aan la aqoon