عبس الفتى وهم أن يجيب جوابه، ثم عض على شفتيه واستدرك قائلا في وقار: حديث جد كله يا مولاي، فهل عرفت يا عم ما يتحدث به الناس في القاهرة عن علي بن أبي الجود، ذلك السوقي الذي أسلمت إليه الزمام وأطلقته يعيث باسمك في بيوت الناس؟! - لا تزال يا طومان تقسو على ذلك المصري الذي يخلص في خدمتنا ما لا يخلص أبناء الجركس، فهل علمت أنني إنما احتظيته وأدنيته لأتألف به من وراءه من المصريين؟ - علمت، ولكنه سوقي لا يعرف قدر ما أنعمت به عليه يا مولاي، فهو لا يرى هذه الوظيفة التي أسندتها إليه إلا سببا إلى البغي والتسلط والبطش؛ ليجمع لنفسه ما يجمع من المال، فليس يرى نفسه بين المصريين مصريا منهم، بل سيدا قد سلط على عبيد لا تساس إلا بالسوط، كأن لم يكن يوما بياع الحلواء والمشبك عند حمام شيخو ... بل لعله يزعم أن هذه الوظيفة التي يتولاها من قبلك هي من بعض ديونه عليك، وإن له عليك ديونا ... فيما يزعم لنفسه، وفيما يسر إلى أصدقائه من الحديث!
قال الغوري غاضبا: ماذا تقول يا طومان؟!
أجاب طومان هادئا: ذلك بعض ما سمعت من حديث الناس في المدينة، وقد أطلقت يده يا مولاي فيما يفرض على الناس من الضرائب وما يحصل؛ فإن له على كل تاجر ضريبة الجمعة، وضريبة الشهر، وضريبة السنة ، يقتضي كل أولئك سلفا قبل موعده، كأن له على الناس ديونا أخرى كديونه عليك، حتى أوشكت أن تخرب أسواق القاهرة، وتخلو من الباعة والمشترين، فاحسب يا مولاي ما يدخل خزانتك من هذا كله وما يحتجزه لنفسه! إن له المغنم من ذلك كله وعليك وحدك دعاء الناس!
قال السلطان منزعجا: يدعون علي؟ وماذا صنعت بهم، ومن أجل حمايتهم من العدو الطارق أجمع هذا المال؟! أفلم يأتهم نبأ ابن عثمان الذي يتربص بنا على الحدود؟ أم لا يعرفون ما نبذل من المال لحماية سواحل بحر الهند من غارات لصوص البحر من البنادقة والفرنجة، أم لم يشهدوا ما أنشأنا في القاهرة من المساجد والمدارس، وما بنينا على الثغور من القلاع والبروج، أم لم يروا هذه المنشآت التي جملنا بها القاهرة، حتى صارت زينة الحواضر في الدنيا وقصدها القصاد من كل فجاج الأرض؛ ليروا بأعينهم ثم يعودوا إلى بلادهم فيتحدثوا بما رأوا ليكبتوا الأعداء ويفلوا عزائمهم فلا يستخفهم الطمع فينا، أم لم يشهدوا ما حشدنا من المماليك في طباق القلعة ليكون لمصر جيش قاهر لا يثبت له عدو في الهجوم ولا في الدفاع ... فمن أين لنا أن نقوم بذلك كله إلا من المال الذي يدفعه ذلك الشعب؟!
هز طومان رأسه موافقا، ثم قال: كل ذلك قد رآه المصريون بأعينهم وعرفوه وشهدوا آثاره، ولكنهم يطلبون الغذاء والكساء والمأوى والأمان يا مولاي، فلا عليهم إن أنكرت أعينهم كل ما ترى؛ لأنهم جياع عراة، لا مأوى لهم ولا أمان من بطش عمال السلطان، ولقد كان في طوقهم أن يشبعوا من جوع ويكتسوا من عري، ويأووا إلى دار الطمأنينة والسلام، لو أن عمال السلطان اقتصروا فيما يجبون من الضرائب على ما يدفعون إلى خزانة السلطان، ولكن عمال السلطان لا يقنعون؛ فإن الذهب والفضة ليملآن حجرات بيوتهم مما جمعوا بالقهر والبطش والتعذيب باسم السلطان، فهل جاءك يا مولاي أن علي بن أبي الجود اليوم يملك مئات الآلاف يختزنها في القدور، فلو شاء لاشترى العرش بماله وعاش سلطانا، وكان - لولاك - حتى اليوم سوقيا يبيع الحلواء والمشبك في دكانه عند حمام شيخو، وهو مع ذلك لا يستحي أن يتحدث مباهيا بأن له دينا على السلطان؟!
قال السلطان مغيظا: ماذا قلت؟! علي بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في القدور؟! - نعم يا مولاي، ولو شئت لرد إلى الناس ما اغتال من أموالهم!
دار رأس الغوري فنسي كل ما سمع من حديث طومان، فلم يبق منه في أذنيه إلا أن عامله علي بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في قدور، فسالت نفسه طمعا وأرسل يدعوه إليه.
ومثل ابن أبي الجود بين يديه، فسأله أن يدفع إلى خزانة السلطان ثلاثمائة ألف دينار من ماله.
قال علي بن أبي الجود معتذرا: يا مولاي! ...
قال الغوري غاضبا: هو ما قلت، فإما دفعتها، وإما شنقتك على باب زويلة!
Bog aan la aqoon