فلما كان يوم الجمعة خطب في مساجد القاهرة باسم السلطان سليم خان بن بايزيد العثماني، ملك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وخادم الحرمين الشريفين ...
وخيم السلطان سليم وحاشيته على النيل في الجزيرة الوسطى تجاه بولاق، فأقام هناك ينتظر ما يكون من أمره وأمر المصريين وأمراء الجركس.
أطلت نوركلدي من شرفة دارها في سوق مرجوش؛ لتشهد جند الروم يجوسون خلال الديار، يفتكون ويسفكون ويهتكون الحرمات، وقد أوى الناس إلى بيوتهم فغلقوا أبوابها وجثموا وراءها يتربصون بأنفسهم ... وخلت الأسواق من الباعة والمشترين، فلا أحد هنالك إلا هؤلاء الجند ذاهبين أو آيبين، وإلا طوائف من الفتيان وشراذم من الأعراب يستخفون حينا ثم يظهرون، يطلبون غرة جندي من أولئك العثمانيين قد انفرد في الطريق ليغتالوه أو يسلبوه ثيابه وماله!
وضاقت نفس نوركلدي بما تشهد من تلك المناظر المثيرة، وجثم على صدرها الهم والقلق، ولكنها لم تزايل موقفها من الشرفة تنظر وتنتظر، لقد غادرها أرقم منذ الصباح الباكر لأمر من أمره فلم يعد، وما بها شوق إلى طلعته ولا قلق لغيابه، ولكنها تريد أن تعرف ما وراءه من أنباء الحرب، لقد كان ولدها السلطان طومان باي هنالك في الريدانية يحارب على رأس الجند، وقد انهزم عسكره ونفذ هؤلاء العثمانيون إلى المدينة كما ترى، فماذا أصاب طومان باي وأين مستقره الساعة؟ أحي فيرجى أم خلصت إليه قذيفة من قذائف الروم فجندلته؟ ولدها الذي تجد في أثره منذ ثلاثين عاما لا تدري أين ينتهي بها الطريق، فلما خيل إليها أنها قد بلغت مأملها أو كادت، ثار غبار الحرب فأنشأ بينها وبين ولدها جدارا لا تكاد تخلص إليه من ورائه، ثم كانت هذه الهزيمة، من ذا يخبرها خبره فيهدأ وجيب قلبها وتسكن مما بها من الاضطراب والقلق؟ لو جاء أرقم الساعة!
وأظلها الليل ولم تزل في موقفها من الشرفة تشهد أولئك الجند ذاهبين أو آيبين، وهذه الطوائف من فتيان الزعر، وتلك الشراذم من الأعراب، وإنها فيما بين ساعة وساعة لتسمع طلقة بندقة، أو ضجة معركة، ثم يعود السكون ولم يزل ما بنفسها من القلق والاضطراب!
وجاء أرقم موهنا فطرق الباب بخفة، ولبث ينتظر أن يفتح له وهو يدير عينيه فيما حوله قلقا قد توزعته أشجانه ...
وفتحت له نوركلدي فدخل وأغلق الباب وراءه، فأحكم رتاجه ثم جلس.
وقالت نوركلدي ضارعة: بالله خبرني يا أرقم ماذا جرى لطومان؟ ولا تخف عني شيئا من خبره؛ لقد ذقت من عنت الأيام وقسوة المقادير ما لا مخافة بعده، فصف لي كل ما تعرف من خبر طومان، وما كان مآل أمره بعد هذه الهزيمة! - إذن فقد عرفت! - لم أعرف شيئا غير ما قرأت في وجوه الناس منذ الصباح، وما رأيت في حركاتهم من الاضطراب والفزع، ثم ما حدثتني به وجوه أولئك الروم وهم يجوسون خلال البيوت وفي عيونهم شهوات المنتصر ... فقد سقطت المدينة إذن في أيدي العثمانيين، ولكن ما شأن السلطان؟ - السلطان بخير يا نوركلدي ولا خوف عليه! - هل أصابه جرح غير ذي خطر؟ هل وقع أسيرا في يد الروم؟ هل نالته قذيفة بندقة أو طعنة رمح؟ - لا شيء، لا شيء من ذلك يا نوركلدي، وإنه لحر طليق سليم البدن، ولكنه ... - ماذا بالله؟ هل أسلم نفسه راضيا إلى عدوه ودخل في طاعته؟ هل ذل بعد كبرياء وهان بعد عزة؟ هل اشترى حياته بالعرش والوطن وباع رعيته للعدو الغالب؟
صرخ أرقم في وجه نوركلدي غاضبا: اسكتي يا امرأة! ... لست أم طومان إن ظننت به هذه الظنون، إنه لأعز نفسا وأرفع منزلة من ذاك! - إذن فهو محصور في قلعته قد أطبق عليه العدو من كل جانب، وما يزال يدافع عن عرشه بلا يأس! - ولا ذاك يا نوركلدي، لقد غادر طومان باي القاهرة يتهيأ لوثبة جديدة يعود بها إلى العرش، ويقذف بهؤلاء الغزاة إلى البادية أو إلى البحر، وقد رأيته منذ ساعة في طائفة من أصحابه يعد عدته ويتربص ... - رأيته؟ - نعم. - بعينيك هاتين؟ - بعيني، وتحدثت إليه بلساني! - تحدثت إليه؟ - نعم! - وقلت له أمك نوركلدي تطمع أن تراك؟
ولمعت دمعتان في عيني أرقم، وأجهشت نوركلدي باكية واستدارت إلى الجدار لتستند إليه من الإعياء والضعف.
Bog aan la aqoon